«إنني لم ألتحق بجامعة أوكسفورد ولا بجامعة كمبردج ولكنني التحقت بمقهى أثينا الجديدة فمن أراد أن يعرف شيئا عن حياتي ينبغي أن يعرف شيئا عن أكاديمية الفنون الرفيعة هذه لا تلك الأكاديمية الرسمية الغبية التي تقرأ عنها في الصحف». (الكاتب الإيرلندي جورج مور).
إذا كان هذا رأي كاتب كبير في جامعات الغرب، تلك الجامعات التي صنعت بمعية الكتاب والأكاديميين والطلبة مجد الغرب الصناعي والعلمي والثقافي والفني فكيف تكون الحال مع جامعاتنا وأكاديميينا وطلبتنا ومثقفينا؟ ولا يعني هذا البتة بخس الناس أشياءهم وإنما الإشارة إلى تفشي ظاهرة الشكلانية في مجتمعنا العربي الذي صار ينخدع بالشكل والسطح والكلمة البراقة دون المضمون والفعل والواقع، بلا شك إن السياسة ساهمت في تكريس هذا الواقع المريض، إن الاستبداد وغياب الشفافية تنجم عنه حتما أمراض لصيقة به تفاوت طبقي رهيب واهتمام مفرط بالماديات ويحل مكان الوسيلة الشريفة للغاية الشريفة الغاية تبرر الوسيلة وسط حمى تدبير المعاش، ناهيك عن تفشي الكم على حساب الكيف ولا ريب أن للأمر علاقة بالنمو السكاني إن النمو المطرد للسكان واتساع المدن وخلق مدن جديدة وتوسع الأرياف يحتم قطعا مواكبة هذا النمو بمنشآت تعليمية جديدة من التعليم الابتدائي إلى الجامعي وهذا نتيجة لغياب التخطيط في الإنجاب وخضوع الأمر للمصادفة في أغلب الأحوال يضع على عاتق الدولة توفير المنشآت وتجهيزها وتوفير الطاقم التربوي لها. لكن هل يتوفر لدى هذا الطاقم التأهيل المناسب؟
تردى التعليم العربي في كثير من الدول العربية ذات الكثافة السكانية الكبيرة مع المشاكل السياسية مثل الجزائر ومصر في حين ظل يحتفظ ببعض الاحترافية والجودة في بعض دول الخليج نتيجة الوفرة المالية والقلة السكانية والارتباط الوثيق ببعض معاهد وجامعات الغرب وربما يصدق الأمر على التخصصات العلمية البحتة والتقنية أكثر مما يصدق على الفلسفة والعلوم الإنسانية، إن ذكر مصر والجزائر مثلا ليس من عندياتنا بل هو من تقرير مؤشر «دافسو» لجودة التعليم لسنة 2019.
عرجنا على ذلك لبيان أن الواقع التربوي والعلمي والأكاديمي العربي ليس متجانسا مثلما أن النمو السكاني والاقتصادي ومتوسط الدخل ليس متجانسا والحال أن هناك استقطابا للكفاءات العلمية والفكرية من عموم الدول العربية وهو في الواقع نزيف إن ما يقدمه الغرب من تشجيع ودعم مادي ومعنوي وتحفيز وحرية يسيل لعاب تلك الكفاءات ــ وهي معذورة ــ في حين تفقد البلدان العربية رساميل بشرية كلفت أموالا طائلة في إعدادها هي المعتمد في التنمية والنهضة المعرفية وكل هذا نتيجة غياب الشفافية والحرية والدعم فليس من المعقول أن تهجر كفاءة علمية وطنها بحثا عن الرفاه بالأساس بل بحثا عن الكرامة والحرية وسبل الإبداع وهو ما تفتقده في وطنها الأصلي.
ثقافة الاستبداد والنفط
في الجانب الثقافي تصاب بالصدمة حين تعلم أن كاتبا غربيا رفض جائزة عربية لأن الجائزة الممنوحة باسم الحاكم سبة، فهو غير منتخب ومستبد مع أن مبلغ الجائزة مغر كثيرا والعجب أن في اللجنة المانحة كتابا كبارا وأكاديميين كبارا كذلك فأين الخلل؟ في هذا الكاتب الذي رفض أن يبيع شرف الكلمة أم في أعضاء اللجنة الذين قبلوا المنصب مقابل مبالغ مالية كبيرة؟
وتزداد اليوم حمى السباق إلى الجوائز ــ خاصة النفطية ــ ومن يدقق في الأمر يجد أن هناك صلة بالتخطيط العولمي والإمبريالية الجديدة إن الغرض صرف الفكر والنظر عن محور بغداد بيروت، القاهرة ودمشق وهو محور الممانعة والرفض والتنوير والحداثة وخلق محور جديد عواصمه نفطية مضادة تماما في قيمها لما أسلفنا، إنها ثقافة الاستهلاك والسطحية والتبعية والماديات لا غير، من ينسى إن قرأ يوما كيف أخذ الماغوط جائزة نفطية نظرا لحاجته ثم شعر بالإثم فعاد يتبرأ منها متهكما أنه يميني بالمـعدة يسـاري بالفـكر؟
من المؤسف أن فهم العربي للثقافة مازال سطحيا وساذجا إنه يعني في وعيه ولا وعيه الشهادة الكبيرة أو المنصب الكبير أو الحقيبة الدبلوماسية والكارت الشخصي وشبكة العلاقات الخاصة والشطارة والفهلوة ويعني كذلك الحديث المتقن والحفظ الواسع وربما التآليف الكثيرة بغض النظر عن قيمتها متى ندرك كعرب أن الثقافة هي بمفهوما الفلسفي الرفض للاستبداد والظلامية والهيمنة والفساد وعدم الانخراط فيه أو بالمفهوم الإيماني الديني النهي عن المنكر الاستبداد والفساد؟
صحيح لا نعدم مثقفين من هذا النوع وكثيرون عانوا الاضطهاد أو السجن أو الموت والتضييق على سبل القوت والابتزاز وما بدلوا تبديلا ولكنهم في حمى الاستهلاك والثقافة الاستعراضية صاروا قلة وربما زادت وسائل التواصل والتقنيات الحديثة في شيوع الثقافة الاستعراضية أي ثقافة الواجهة «الفترينة».
الوعي الشعبي والنُخب الموهومة
ربما عادت الشهادة العليا بالنسبة للكثيرين مجرد» أكل عيش» ولكنها في ذات الوقت مدعاة للتنطع والعنجهية الفارغة والاستكبار والتطاول والتفاخر بلا مردود ولا فائدة وهي حقا بالنسبة للبعض ليست شهادة جامعية تتيح الاستزادة من العلم والبحث والإضافة وإنما «قماط» أكاديمي يشل عن كل حركة وكأنه سر كهنوتي يمنح لمالكه الأسرار الأولى للخليقة والبسيطة ولا أدل على ذلك من هذه الشكلانية المفرطة في تمجيد الألقاب في الشارع وفي البيت وفي الجامعة وفي المسجد وفي الأستوديو والغريب أنك تحس بالراحة في الجلوس إلى فلاح أو الحديث مع شيخ طاعن في السن أو مع ولد صغير يلعب كرة في الشارع فتحس بالعفوية والانسجام مع الحياة والطبيعة وتجلس إلى الثقافة الأكاديمية فلا ترى غير التكلف والاصطناع ولوك المصطلحات والألقاب فتحس بالضيق والتبرم والرغبة في الانصراف لقد هزمت الثقافة الشعبية بصدقها وإخلاصها وعفويتها وتعلقها بالأرض والناس الثقافة الأكاديمية باصطناعها وعنجهيتها ولوكها للمصطلحات وتعلقها بالألقاب وعلية الناس كما تتوهم.
ومن المفيد الإشارة إلى أنك تسمع حديثا لكبار أساتذة الغرب فلا تراهم يخاطبون إلا بأسمائهم مجردة مع أنهم صانعو الفكر والعلم والتطور إن هذه السلطة الشكلية للقب لابد أن تزول من الخطاب العام ويكون للمضمون والعمل المصداقية وحدها وخارج ذلك ليست سلطة اللقب العلمي بغير مردود حقيقي، إلا استمرارا لسلطة اللقب السياسي والديني وهي أشكال من الاستبداد والتسلط تساهم في تخلفنا وانحطاطنا العلمي والحضاري وكأنه هرم استبدادي كبير أعلى ما فيه سلطة اللقب السياسي وتحته الديني وتحته العلمي وهلم جرا لتدفع العامة -عامة الشعب- من مالها العام تكلفة أشكال الاستبداد هذه دون أن تصنع لها نخبتها السياسية والدينية والأكاديمية مستقبلا أو تبشرها بفجر وليد.
فضائح الأكاديميات
يزداد غمك حين تسمع بأشكال القرصنة والسطو والتزوير في الأطاريح الجامعية بل في فراغ مضمون كثير منها وعدم صلاحيتها لأن تكون أطاريح جامعية أصلا إنها لا تقدم شيئا جديا ولا مضمونا فكريا أو فلسفيا سوى الاجترار والوصول إلى اللقب بلا تعب ولا سهر ليتكرس «الجهل المؤسس والموضب في شهادة عليا» ناهيك عن تنمية سلوك الإمعية والاجترار عبر التحكم في التقدير الممنوح عبر سلطة أخرى هي سلطة «الاختبار» والذي يكرس واقعيا مقولة الصاحب بن عباد «بضاعتنا ردت إلينا» دون السماح بالاعتراض أو الرفض والاحتفاظ بالموقف الشخصي المناوئ لسلطة «الاختبار» أو «الامتحان» كما يسمى أيضا خاصة في العلوم الإنسانية ولا يعني هذا غض قدر كثير من الأكاديميين الجادين والمبدعين والمضيفين إلى الفكر والفلسفة والإبداع ولكن الكثرة السطحية ردت كل فضيلة وهدمت كل محمدة وللنظر إلى تصنيف الجامعات العربية أمام جامعات الدنيا وهي تصنيفات غير مغرضة وليس لها من خلفيات إيديولوجية – وقد تعودنا على تغطية عيوبنا بتعليقها بمشجب المؤامرة الأجنبية- إنها تشير إلى وجود الجامعات العربية في آخر الترتيب.
وهناك ظاهرة أخرى جديرة بالوقوف عندها وهي ظاهرة المؤتمرات العلمية كما تسمى في العواصم العربية وبعضها مفيد وكثير منها ليس سوى سياحة وتبادل الصور ودفع الرسوم وتكاليف الإقامة في الفنادق إنه تربح على حساب قيم العلم وشهادات مشاركة لا تقدم ولا تؤخر سوى تقديمها للجامعة الأم لينتفع المشارك بالترقية، ترقية على ماذا؟ ولا داعي للحديث عن تفشي الرداءة والسطحية وربما الدسائس والتحالفات المشبوهة والابتزاز فيما يسمى بالمجلس العلمي للجامعة وكأنها حمى تسابق سياسي وليس علميا ولست بالمبتدع في هذا الحديث فقد تحدث أكاديميون عرب كثر عن ذلك في مؤلفات ومدونات وفي تصريحات خاصة وهي محفوظة في درج «وشهد شاهد من أهلها».
نخلص من كل هذا إلى أن الواقع التربوي والأكاديمي والعلمي العربي مريض وموبوء، ولو طلبنا إحصائيات عربية عن عدد حاملي الشهادات التي تسمى عليا وعدد الموظفين في القطاع التربوي والعلمي والأكاديمي وعدد الهياكل العلمية ومجموع الإنفاق على ذلك لرأينا رقما لا يصدقه عقل وننظر إلى واقعنا فنراه يستعصي على كل توصيف، لكن الأمل معقود بآمال شبابية تسعى إلى التغيير والمرور إلى عصر العلم والديمقراطية والكفاءة والإنتاج الفعلي وهذه الآمال الشبابية لا يفوتها التفكير في هذه التجارب الناجحة في دول الشرق الأقصى وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وهو ما نرجوه أن يتحقق مستقبلا من زوال كل سلطة وهمية إلا سلطة المضمون.
كاتب الجزائري
مثلث التربية والتعليم والثقافة عصفت به السياسة فطار كل ضلع نحو الوجهة التي عطلت تكامله.