هموم شرق أوسطية… انهيار التجربة الديمقراطية في تركيا

حجم الخط
38

هي سمة من سمات المجتمعات المأزومة أن يطغى العنف اللفظي على الفضاء العام وتحل الاتهامات المتبادلة بين المختلفين في الفكر والرأي محل النقاش الموضوعي.
هي سمة من سمات المجتمعات المأزومة أن تنتقل عدوى ادعاء احتكار الحقيقة من الحكام السلطويين وأعوانهم وحلفائهم إلى بعض معارضيهم الذين يزعمون الدفاع عن الحقوق والحريات وهم لا يقلون فاشية عن الأولين، ومن مبرري السلطوية من إعلاميين ورجال دين وسياسيين إلى الكثير من الكتاب والأكاديميين الذين يتصرفون كأصحاب الملكية الحصرية للمعرفة والعلم ولا يخجلون من تسفيه آراء المختلفين معهم. هي سمة من سمات المجتمعات المأزومة أن تصبح إما الانحيازات الإيديولوجية أو العوائد المنتظرة من المواقف المعلنة هي معايير التقييم الوحيدة لأفكار وآراء المنشغلين بالشأن العام.
لا محاولة للفهم الحقيقي عبر الخطوط الفاصلة بين اليسار واليمين، أو بين العلمانيين والباحثين عن مكان للدين في المجال العام والحياة السياسية. لا تضامن متجاوز للانحيازات الإيديولوجية مع الكثير من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وإن مارسه البعض ففي سياق انتقائية لا أخلاق بها وبحث مريض عن وجاهة الدفاع عن الحقوق وقابلية للتخلي عن التضامن مع الضحايا إذا عبروا علنا عنما لا يعجب بعض المتضامنين وكأن على الضحايا تجرع مرارات الظلم صمتا والتنازل عن الحق في التعبير الحر عن الرأي. هي سمة من سمات المجتمعات المأزومة أن يشخصن كل اختلاف في الفكر والرأي، وأن ينصرف منتجو العنف اللفظي إلى الاغتيال المعنوي للآخر باستباحة حياتهم الشخصية وإثارة الشكوك غير الموضوعية بشأن مساراتهم المهنية والسخرية من أفكارهم عوضا عن الاشتباك الجاد معها دون ادعاء احتكار الحقيقة أو التورط في الاستعلاء.
هي سمة من سمات المجتمعات المأزومة أن يغيب التراكم المعرفي والعلمي والفكري عن الفضاء العام، وأن تهيمن الرداءة بكل مكوناتها من عنف لفظي يسفه الرأي الآخر، وانحيازات إيديولوجية لا تعرف قيمة الحوار، وتضامن مع ضحايا الظلم مرهون بصمتهم واستعلاء مريض باسم حقيقة هي من كل ذلك براء.
وفي خانة مجتمعات الشرق المأزومة، تأتي تركيا التي تمتلك على الورق دستورا ديمقراطيا وبها سلطات تشريعية وتنفيذية منتخبة. غير أن حقيقة الأمور السياسية والمجتمعية تتناقض مع النصوص الدستورية وتبتعد عن الجوهر الديمقراطي للعمليات الانتخابية.

هي سمة من سمات المجتمعات المأزومة أن تنتقل عدوى ادعاء احتكار الحقيقة من الحكام السلطويين وأعوانهم وحلفائهم إلى بعض معارضيهم الذين يزعمون الدفاع عن الحقوق والحريات وهم لا يقلون فاشية عن الأولين

في تركيا، تلقي الأجهزة الأمنية القبض على كتاب وصحافيين وأكاديميين، والسبب هو معارضتهم السلمية لبعض القرارات والسياسات الرسمية. تنهي جامعات حكومية وخاصة تعاقداتها مع أكاديميين بادعاء نشرهم لأفكار تضر المصالح الوطنية وتهدد الأمن القومي، بل ويفصل بعضها دارسين تارة بزعم الانحراف عن القيم الوطنية وأخرى بزعم تناقض سلوكهم مع الأخلاق والتقاليد المستقرة. في البلد الذي نظر إليه منذ سنوات قريبة كصاحب النموذج الديمقراطي الوحيد في منطقة الشرق الأوسط، يتعقب رئيس الجمهورية المنتخب معارضيه بتوظيف المؤسسات القضائية والأجهزة الأمنية، ويصل به النزق إلى حد تعقب كتاب وصحافيين وإعلاميين خارج بلاده بسبب انتقاداتهم له أو سخريتهم منه. وفي البرلمان تتحرك الأغلبية المنتمية لحزب «السيد الرئيس» وفقا لهوى وتوجيهات الرئيس وأعوانه وتمارس برلمانيا ديكتاتورية الأغلبية، علما بأن مقاعد الأغلبية هذه انتزعت بعد عمليات تحايل سياسي واسعة أدارها رئيس الجمهورية وكان من بين مكوناتها إعادة إجراء الانتخابات البرلمانية التي لم تسفر بداية عن حصول حزب الرئيس على الأغلبية المنشودة.
في تركيا، يتورط البرلمان المنتخب في نزع الحصانة عن عدد من النواب المنتمين عرقيا لمجموعة سكانية بعينها، ويمهد بذلك للتعقب القضائي لنواب انتخبوا في دوائرهم للدفاع عن حقوق وحريات المجموعة العرقية التي يمثلونها ولم يثبت عليهم لا مخالفة القواعد الدستورية والقانونية المعمول بها، ولا التحريض على الكراهية بين مواطني البلد الواحد، ولا مناهضة الهوية الوطنية الجامعة.
«جريمتهم» الوحيدة هي الدفاع عن حقوق وحريات أقلية مضطهدة، جريمتهم هي العمل السلمي وبأدوات ديمقراطية على انتزاع اعتراف مجتمعي وسياسي بحتمية المساواة التامة بين المواطنين دون تمييز. تحت لافتات «الحرب على الإرهاب» و«القضاء على الإرهابيين» تتواصل العمليات العسكرية في مناطق بعينها من البلاد دون أن يعلم الناس عن تفاصيل هذه العمليات سوى «أعداد الإرهابيين الذين تمت تصفيتهم» ومن غير أن يسمح للصحافة أو الإعلام نقل المعلومات والحقائق. تحت لافتات «الحرب على الإرهاب» تتغول الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ويصير من ثم تعقب المواطن «غير الممتثل» للإرادة الرئاسية وتهديده وقمعه ظاهرة اعتيادية، كما يصبح «تقليم أظافر» المعارضين من السياسيين والكتاب والصحافيين والإعلاميين شغل رئيس الجمهورية الشاغل.
يحدث كل ذلك في تركيا ويديره رئيس جمهورية مازال يدعي احترامه لحرية التعبير عن الرأي وسيادة القانون والقيم الديمقراطية ويتهم معارضيه في الداخل والخارج بالانقلاب والتآمر على الديمقراطية، يحدث كل ذلك ومازال البعض في وسائل الإعلام الناطقة بالعربية ومعارضي بعض الحكومات العربية من المقيمين في تركيا ولحسابات سياسية ضيقة يتشدق بالتوجهات «الديمقراطية» لرجب طيب أردوغان وسلطويته الفاضحة لا تحتمل الشك ويخاطر بالانفصال التام عن المجتمع المدني التركي الذي سئم سلطوية أردوغان وعصفه المتكرر بالحريات وحقوق الإنسان.
كلنا في الهم شرق.

كاتب وأكاديمي من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علاء الناصري:

    اعتقد من الاجحاف عدم الاشارة الى الكرد كشعب يعاني مع بقية المكونات في دولة لا يزال في دستورها مادة ” 66″ كل من يعيش في تركيا تركي .

  2. يقول مازن ح - الولايات المتحدة:

    بينما ترفل مصر أم الدنيا بأثواب الرفاه و الديموقراطية الحقة

  3. يقول Ammar:

    على الاقل هنالك “تجربة ديمقراطية” في تركيا المعاصرة يتمنى العالم إفشالها!

  4. يقول سالم ولد محمد:

    شكرا للقدس العربي على التنويع في المقالات

    اردوغان لم تضيره رشقات عبارات التجني والزور أصداء الإعلام الألماني الفرنسي النمساوي …وأبواق وصحف وفضائيات الغرب والشرق وكل الحاسدين له على دبلوماسيتة الشجاعة في “دافوس” ونصرته لفلسطين ووقفته الصلبة لصالح اذربيجان، وإغاثة ملهوف سوريا الأخوية الغير زائفة، ونجدة ليبيا بالسرعة والحكمة والحزم العتيد، ومد جسور تعاون

  5. يقول ابو تارا:

    احتكر كل السلطات والصلاحيات وتحول الى طاغية متجبر يستخدم إرهاب الدولة ضد منتقديه ويمارس كل أنواع القمع والترهيب والاضطهاد في البلاد

    1. يقول فواز العتيبي:

      لا يستطيع ذلك كما تدعي فالإرث العسكري الأتاتوركي والمعارضات المدعومة غربيا لا تسمح بذلك.
      كان هناك حكم انقلابي متوالي وتم اقصاء الدين والكثير من الحريات وجاء اردوغان وأعان العامة والخاصة على التعرف على صورتي الواقع وحرية الخيار. وهذا يناقض ما يريده الغير وهو “لا أريكم” الا ما أرى.
      ولكن الشعب وبما أنه لم يعد بمغيبا ومضللا ومفروضا عليه الأحادية التي باركتها الدول الغربية لعقود خلت، اصبح ينصر الحق المحارب دوليا وفي نفس الوقت يزخر اقتصاديا وعلميا بالرغم من مكائد التأمر والحصارات التي بدأ الغرب يشرعنها ضدهم.

    2. يقول قياس الاثر:

      من اكبر واقوى 20 دولة عالمية ديمقراطية ودون نفط وغاز.. ليس حتى تاريخه على الاقل!

    3. يقول سعادة فلسطين الصين:

      بعد التحية ،
      او من جهة اخرى وفي اقل الأحوال وبكل وضوح ، بعد الخراب او الجمود الذي حل بمراكز العرب الحضارية الرئيسية في المشرق العربي فالحديث او انتقاد الشأن والتجربة التركية اشبه ترف بترف فكري لا نملك رفاهيته.
      الامر الاكثر مدعاة للتأمل والتفكر هو موقف المعارضة المشرف من التدخلات الخارجية في بلادهم بالرغم من اختلافهم مع الحزب الحاكم.

  6. يقول سهى عشماوي:

    نعم بدأت الديمقراطيات العالمية بالتزعزع، حيث شهدنا ما أحدثه ترامب في أمريكا من قوانين وقرارات وسياسات ضد السوظ والهسبانيك،وماكرون في فرنسا، وبدأت كل من ألمانيا والنمسا وبعض الدول الاسكندنافية بالتراخي لصالح الشعبوية والعرقية.

  7. يقول تحليل الواقع ودافع الطامع!:

    الثورات العربية التي قامت ضد انظمة الاستبداد والتبعية المتمثلة بعسكر وأولياء أمور لم تنجح وإن كانت اهدافها ،”تغيير جذري” فقد كان هناك متربصون بطموحات متواضعة للاستفادة من “تغيير كرسي” وأثاث. فسبق من سبق وتربع على القصور الرئاسية فلم ينتفع الطامحون بالتغيير ولا الراضون ب”كرسي” على ما كان الأمر عليه. احتصنت دولا محبي الاغيير الجذري الذين نجوا من سطوة القمع والقتل والتعذيب والحبس الخ. ودول اخرى (ضد التغيير) احتضنت بعض الذين ارادوا أن يحظوا بكرسي. يتبع

  8. يقول عصام:

    وكأن العالم العربي واحة للديمقراطية، والاداء التنموي المتميز قبل كورونا وبعده، والاستقلال الاقتصادي والاستدامة المالية، والعدالة الاجتماعية، والتنافسية والتنويع الاقتصادي عالي الاداء، ودعم الحريات الفردية، وحماية الهوية الوطنية، والاستقرار والنظام العام، والصحة العامة المتفوقة.

    1. يقول عادل:

      نسيت الحوكمة الرشيدة الاستثنائية!

  9. يقول لكل غايات ووسائل:

    لنتأمل الثورة البلشفية، أراد لينين ومن بعده تروتسكي وبعد التغيير الجذري في روسيا نشر البلشفية في العالم، بينما ستالين اراد تقوية النظام وتوسعته عالميا بعد التطور التقني والعسكري محليا. واجهته مصاعب وعوائق وأناس فقام بإزاحة كل العوائق هو والتشيكا ” Cheka كي جي بي، لاحقا” فتم تصفية من شك بهم مثل Bukharin, Kaminev و Zenoviev وأودى بمئات الآلاف الآخرين الى معسكرات الاعتقال والاشغال الشاقة “الكولاك Gulag”. حتى ياغودا Yagodaوييزوف Yezov رؤساء البوليس السري بعد دزيرزنسكي Dzerzhinsky تم التخلص منهم. كان هناك أصواتا مؤمنة بالبلشفية مثل ارويل George Orwell الذي الف نقدا “رواية” لستالين ونظامه والدولة السوفيتية المتمثلة به Napoleon ومولوتوف Molotov وبيريا Beria الكي جي بي وبرافدا Sqealer في الرواية.الخ اسماها Animal Farm مزرعة الحيوانات. قيل (عند الغربيين) كما يحلو لكل معاد لنظام ما قيل عن “استفراد بالسلطة” و”توحد القوة الحاكمة” قمعا للمعارضة والتعددية. ولكن نظرة محايدة نزيهة وذمة لا تشترى، نلوم النظام على يتم الأطفال وثكلى النساء وعذاب من تعذب ولا نبرر وسيلة وغاية لمعاناة مظلوم، ما كان يتسنى لدولة ان تقوى وتصد العداء الرأسمالي والتوغل النازي وتصل لما هي عليه الآن دون حزم وثبات ستالين ومن معه!
    يتبع

  10. يقول علي:

    بدون أن نتشدق بديمقراطيةأردوغان نقول: في الوطن التعيس الذي يسميه بعضهم مصر المخروسة، يا ليت ليت ربع ديمقراطية أردوغان، الذي نقل بلاده من القاع إلى القمة، فصنع السلاح وبني الاقتصاد، وأعز شعبه وقومه، واستطاع أن يجعل لبلاده حضورا يخشاه المستكبررون وعملاء البيت الأبيض والموساد!

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية