لا أوهام لدى أحد بشأن مكانة المرأة في المجتمعات الرأسماليّة الغربيّة. فهي وإن حققت تقدّماً مشهوداً خلال المئة عام الأخيرة على جبهات عديدة من حقوق الانتخاب والترشيح إلى فرص التعليم والعمل مروراً بقوانين الشخصيّة الناظمة للعلاقات الأسريّة والإرث والانتفاع بالتقديمات الاجتماعيّة، فإنّ ذلك مرتبط غالباً بنساء الطبقات البورجوازيّة والوسطى وذوات البشرة البيضاء، بينما تبقى قطاعات واسعة من نساء الطبقات العاملة والملونات والمهاجرات ضحايا لتمييز سلبيّ بنيوي لا فكاك منه في دوامة انعدام العدالة واتساع فجوة المداخيل بين من يملكون ومن لا يملكون. وهذا بالطبّع إلى جانب الانحيازات الثقافيّة ضدّ المرأة المتجذرة عميقاً في السيكولوجيا الغربيّة بحكم مصادرها الدينيّة والتاريخيّة والتي لمّ تشف منها المجتمعات الغربيّة بعد.
تلعب الدّراما التلفزيونيّة المعاصرة في الغرب دوراً أشبه ما يكون بالوريثة الشرعيّة للرواية الأدبيّة قبل مئتي عام التي كانت في وقت واحد مادة التسلية الأولى للطبقات البورجوازيّة كما – في مجموعها – سجلاً تاريخياً لا بدّ منه لفهم تحولات الثقافة المجتمعيّة والعلاقات الجندريّة وأدوار الرجال والنساء في موازاة تقلّب الدّول وتعاقب الأيّام والأحداث.
ولذلك يمكن الزّعم اليوم بأن واحدة من أقرب الأدوات لقراءة تطوّر أوضاع المرأة بين جيلين ربّما تكون باستطلاع تغيّر طبيعة الأدوار النسائيّة في الأعمال التلفزيونيّة الدراميّة.
من الضحيّة إلى الجلاّدة وما بينهما: نقلة نوعيّة
في الأعمال الدراميّة الغربيّة خلال الرّبع الأخير من القرن الماضي – ونحن دائماً نتحدث هنا عن الصيغ الغالبة على تلك الأعمال لا مطلقها بحكم وجود استثناءات في كل حال – فإن النّساء رغم حضورهّن الكثيف لعبن دوماً أدواراً ثانوية وهامشيّة ومكملّة لأدوار الأبطال الذكور على المستوى الاجتماعي، أمّهات وزوجات ونجلات وعشيقات وضحيات، وكربّات بيوت وممرضات وسكرتيرات ومعلّمات ومساعدات على المستوى المهنيّ، وغالباً كموضوع جنسيّ محض أو كجندر تابع على المستوى الرّمزي. لكّن ليس اليوم. في بريطانيا مثلاً القصّة اختلفت تماماً. في ملعب دراما الجريمة، التي طالما اقتصرت بطولتها على الذّكور: كوجاك وهاتش وستاركي، تسيطر بطلات نساء على الأعمال الرئيسة على كل الشاشات: بي بي سي هناك فيكي ماكلور وكيلي ماكدونالد في مسلسل «ان لاين اوف دوتي» تقودان محوري الخير والشر في الصراع داخل مؤسسة الشرطة البريطانيّة، بينما تنهي نيكولا وولكر موسماً سادساً (وأخيراً) على آي تي في «انفورغوتن» شخصيّة مركزيّة كقائدة لوحدة تحقيقات جنائيّة، وبالأمس عادت إيف مايليس لتقدّم موسماً ثالثاً يترقبه جمهور كبير من «كيبين فيث» وتلعب فيه دور زوجة (ومطلقة) تواجه العالم القاسي بعدما سقط زوجها في حبال الجريمة المنظّمة، وقريباً ستعود بريندا بليثن لتقدّم شخصيّة المحققة الذكيّة «فيرا» فيرا ستانهوب بطلّة روايات آن كليف الشهيرة.
هذا بالطبّع غير مجموعة أخرى من الأعمال التي تلعب بطلاتها أدواراً في إطار كشف الجرائم من خلال التدقيق الجنائيّ والتحليل السايكولوجيّ والاستخبارات وغيرها من الأساليب الحديثة لأجهزة مكافحة الجريمة.
حتى يجوز للمرء أن يتساءل كيف اختفى كل أولئك الرّجال الذين كانوا ملء الشاشات، وهل قررت الأجهزة الأمنيّة البريطانيّة إرسالهم إلى الجيش في مهمات عبر البحار وفتح البوابات للنساء؟
ما يصحّ على أعمال دراما الجريمة على الشاشات البريطانيّة، ينعكس بشكل مقارب على الأعمال الأخرى التاريخيّة والاجتماعيّة والفانتازيا التي تتسيد كثير منها نساء. والأمر ذاته ملحوظ في دراما البر الأوروبيّ من إسبانيا إلى اسكندنافيا ومن فرنسا إلى ألمانيا (مع استثناء إيطاليا التي لا تزال الدراما فيها عالقة في الأدوار الجندريّة الكلاسيكيّة).
والمهم هنا أن هذه الشخصيّات النسويّة تنتزع الأدوار المقصورة تقليديّاً على الرّجال لا ككاريكاتير، بل كأساس وأصل، وهي تتطّور وتتعقّد بشكل ملفت، وتواجه قضايا مطروحة إنسانيّة بشدّة اليوم – مثل الاغتراب وقلق الوجود وتحدي العيش المشترك وأعراف المجتمع – بصفة كليّة لا بمطلق المنظور النسوي. وهن في تقديمهن لهذه الأدوار لسن بالضرورة خارقات الجمال أو شابات يافعات، ويرتدين غالباً ثياباً هادئة أو زيّاً مهنيّاً، وتٌطرح المسائل الجنسيّة والعلاقات الحميمة في حياتهن ربّما لكن دون الدفع بها إلى واجهة الشخصية بل كجزء من تعقيدها الإنسانيّ المتعدد الأوجه.
مرآة واقع والمثال
لا نضيف جديداً إذا قلنا إن الدّراما تخدم الأيديولوجيا المهيمنة في المجتمع وتبث رسائله السياسيّة / الثقافيّة سواء بشكل واع أو ضمنيّ، ولا شكّ أن تحرر النساء (أقلّه بمفهوم التحرر البورجوازيّ) أمر قبلت به المنظومة وتروّج له بشكل ما وتربطه بمسألة الفردانيّة وتحقيق الذات وفق الثقافة الرأسماليّة. إلا أن طبيعة أدوار المرأة في الدراما المعاصرة في الغرب هي أيضاً مرآة للواقع المعاش بحكم أن الشخصيّات التي تحظى بمتابعات واسعة عموماً وبشكل أكبر بين النساء وفق دراسات المتابعة التلفزيونيّة هي من تلك النماذج العميقة والواقعيّة والمتوازنة بدلاً من الموديلات والضحيات والمكملات للمشهد الذّكوريّ التي لم تعد ترضي غرور المرأة في جيلنا الحالي أو تخاطب إحساسها. وحكماً فإن هذا الحضور المؤثّر سيكون كذلك بمثابة نمذجة ملهمة للشابات والمراهقات اللواتي تساهم الدراما المعاصرة شئنا أم أبينا في تنشئتهنّ الاجتماعيّة وتطلعاتهن المستقبلية على مستوى الموقع الاجتماعي، وطبيعة المهنة، ونوعيّة العلاقات والنظرة إلى الذّات.
الصورة مبكية لدينا
لا يقلّ دور الدراما المعاصرة في العالم العربيّ عنه في الغرب كأداة للأدلجة من قبل الطبقة (والأنظمة) المهيمنة، وانعكاساً للواقع، وصياغة للنمذجة المُلهمة في أذهان الأفراد. وللنساء بالطبع حضور أساسيّ في معظم الأعمال الحديثة ويمثّلن عنصر الجذب المغناطيسي المعنى. لكن الدّراما العربيّة ما زالت بغالبيتها شديدة الاعتماد على الحضور الشخصيّ للممثلة النجمة لا للدور الدراميّ، – فمسلسل يسرا يشاهده جمهور يسرا حتى لو تاريخيّاً أو اجتماعيا أو حتى دراما جريمة، ومثله سيرين عبد النّور وهكذا مع بقيّة النجمات -. لكن حتى في أدوارهن البطوليّة هذه هنّ يقدّمن نساء ضمن سقوف الأدوار الممكنة اجتماعيّاً، عشيقات، أو حبيبات أو زوجات أو خائنات، ويقبع الرّمز الجنسيّ المغمم في الخلفيّة دائماً، وقضاياهن جلّها متعلقة بشكل أو بآخر بنوعهن الجندريّ وبحكم ارتباطاتهنّ بالّذكور من حولهن سواء على مستوى العلاقات الإنسانيّة أو على المستوى المهنيّ. وحين تقدّم المرأة متحررة من قيود الأعراف تنتهي متمردةً شاذةً، قضيتها الأساس عزلتها عمّن حولها.
وبالتالي إن عزمنا على تطبيق منهجيّة استطلاع أوضاع النساء العربيّات بمقارنة أدوارهن الدراميّة بين جيلين ما قبل الألفيّة وما بعدها، لانتهينا إلى اليأس. أيديولوجيّاً: لا يزال النموذج البطريركي مسيطراً في تمثلاته النسويّة على غالب الدراما العربيّة: إما تابعات وإما أدوات متعة، ولمّا يصل الإنتاج مستوى النضج بعد إلى تثوير أوضاع النساء – حتى بصيغته البرجوازية الغربيّة المقتصرة على نساء طبقات وأصول معينة دون غيرها -.
ويبدو الواقع المعاش – إن قرأناه من دراما بلادنا – خانقاً وقاحلاً لنساء العالم العربيّ اللواتي يُدفعن إلى وهم التحرر الشكليّ دون توفير أدنى متطلبات الاستقلال المادي والاجتماعيّ لهن وتطويع التشريعات لذلك. وتقدّم الشخصيات الرمز على قياس فاتنات طازجات – وكما نقول باللبناني «رسمها مشرط التجميل ولم يترك ولا غلطة» – ليتوارى اكتمال حضورها الإنسانيّ لصالح الجسد الشهيّ. الصورة خانقة هنا.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن
تحية لقدسنا العربي والكاتبة انا اقرا مواضيعك على الدوام مع أني نادرا ما اعلق، اردت هنا ان أحيي قدرتك النقدية الموضوعية العلمية intellectual observance and criticism على تتبع التحرر الحقيقي وحجم التطور في مجال حرية المرأة ووجهته.