كتبت الأسبوع الماضي في هذه المساحة عن الإعلام الغربي وتوبته المتأخرة الناقصة إزاء جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة. لكن الإعلام الغربي ليس وحده في هذا التيه الأخلاقي والمهني. هناك طيف واسع من الإعلام الناطق بالعربية ويبث من عواصم ودول عربية وحتى غير عربية، مثله وأسوأ أحيانا.
كثيرا ما تفوَّق هذا الإعلام المحسوب على العرب على الإعلام الغربي في تطرفه وانحيازه لإسرائيل. لذلك فالأمانة تُحتّم عليَّ القول إن الإعلام الغربي، وإنْ استفاق متأخرا، مارس بعض التوبة التي ستُحسَب له في كل الأحوال. بينما لا أرى في الأفق نُذر توبة من الإعلام الناطق بالعربية لأن التوبة أو التراجع، في نظر القائمين عليه، عيب ونقيصة.
بسبب تغيير بسيط في أسلوب حياتي وروتيني المعتاد أصبحت أجد متسعا من الوقت لمشاهدة بعض نشرات الأخبار والبرامج الإخبارية في قنوات ناطقة بالعربية تبث من دول عربية وتحديدا الإمارات، لم أكن أشاهدها من قبل.
كثيرا ما تحفظت على عبارات من قبيل «الصهاينة العرب» و«الإعلام العربي المتصهين». منعت نفسي من استعمالها في كتاباتي لأنها تُشعرني بالحرج وعدم الارتياح ومن إيماني من أن كل الناس بيوتهم من زجاج. لكنني بعد أقل من شهر بدأت أشعر بأن حرجي يتضاءل وسيندثر.
ليس هناك شك في أن عملية «طوفان الأقصى» رافقتها أخطاء فادحة. وواضح أن تنفيذ العملية صباح ذلك السبت لم يسر بالدقة المطلوبة. لكن هذا لا يمكن أن يكون مبررا لأي عاقل كي ينحاز لإسرائيل في الإبادة التي ترتكبها بحق أهالي غزة. ليس مبررا لمنح الجيش الإسرائيلي تغطية تلفزيونية تفوق المنطق مضمونا ومساحةً وتتماهى حتى مع أكثر الإعلام الإسرائيلي تطرفا.
المسألة تجاوزت حماس وكل التنظيمات الفلسطينية. هناك إبادة ترتكبها إسرائيل عن سبق إصرار، يصبح معها الحديث عن حماس وأين أخطأت ومتى أصابت ثانويا بل تافها. إلا أن ما يفعله بعض الإعلام الناطق بالعربية ما وصل مرارا إلى حد تبرير الإبادة. ولسوء حظهم فشلت كل محاولاتهم تغليف تغطيتهم المنحرفة بتعاطف إنساني مع سكان غزة في محنتهم غير المسبوقة.
تابع البرامج الإخبارية ونشرات أخبار هذا الإعلام وسيصدمك حجم ضلاله المهني والإنساني. ستكتشف أن الصورة بائسة حد القرف، وتجد (على سبيل المثال لا الحصر) أن:
ـ العدو حماس وليس إسرائيل. شيطنة الحركة واجب مقدّس لديهم تُبذل من أجله جهود حثيثة وتُنفق عليه موارد هامة.
ليس هناك شك في أن عملية «طوفان الأقصى» رافقتها أخطاء فادحة. وواضح أن تنفيذ العملية صباح ذلك السبت لم يسر بالدقة المطلوبة. لكن هذا لا يمكن أن يكون مبررا لأي عاقل كي ينحاز لإسرائيل
ـ رغم أن الاختلاف مع حماس مشروع ومطلوب، إلا أن الموقف في هذا الإعلام الناطق بالعربية تجاوز الاختلاف والعتب إلى حقد كبير ورغبة دفينة في التخلص منها لا تختلف عن رغبة كبار مجرمي الحرب الإسرائيليين.
ـ عناوين الأخبار الأولى والمانشيتات الأبرز مخصصة لإسرائيل ولتصريحات مسؤوليها المدنيين والعسكريين.. إسرائيل ترفض، نتنياهو يندد، غالنت يهدد.. إلخ.
ـ وجهة النظر الفلسطينية يقدمونها منزوعة الدسم مجرّدة من كل أبعادها السياسية والتاريخية كأن التاريخ عندهم بدأ يوم 7 أكتوبر.
ـ التعاطف مع أهالي غزة ونسائها وأطفالها يندرج ضمن جهود شيطنة حماس وليس لتحميل الجيش الإسرائيلي مسؤولية قتل ذويهم وتهجيرهم قسرا. كل صور الخراب في غزة يرافقها تصريحا وتلميحا أن حماس هي سبب ما تشاهدون.
ـ محاولة هدم السردية الفلسطينية أكثر من حيث المساحة التلفزيونية وأقوى من التشكيك في نظيرتها الإسرائيلية.
ـ في التعامل مع أخبار تعثر مفاوضات الهدنة «حماس ترفض مقترحات إسرائيل» لكن إسرائيل «تعتبر شروط حماس غير كافية».
ـ قلة عدد الضيوف المدافعين عن القضية الفلسطينية، مقارنة بغيرهم. وعندما يحضر الضيف الداعم لحماس فهو بالنسبة لهم فريسة يجب مسح الأرض به.
ـ يؤتى بالضيف لإجباره على قول ما يُرضي هذا الإعلام، وإلا تحوّلت المقابلة إلى سيرك (شاهد مقابلة المذيعة نادين خماش في قناة العربية مع المسؤول في حماس محمد نزال في ليلة العيد).
ـ لجوء تلقائي إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت مغذيا رئيسيا لأخبارهم. من العيب أن تستنجد محطات إخبارية تريد أن تكون محترمة إلى منصات يدرك القاصي والداني أنها مستنقع لكل أنواع الذباب والحشرات الضارة. إحدى هذه القنوات، تُسمى المشهد (تحب الأردن كثيرا هذه القناة!) أوردت في عناوين نشراتها أول أيام العيد أن مواقع التواصل الاجتماعي غصّت بالتساؤلات والاستغراب عن حفاظ إسماعيل هنية على هدوئه ورباطة جأشه عندما بلغه نبأ مقتل أولاده وأحفاده. (هل كان يجب أن يلطم في الشوارع ليرضى رواد مواقع التواصل الاجتماعي؟).
ـ هوس بإيران يقترب من الهذيان، خصوصا عندما تزايد الحديث عن الهجوم الإيراني على إسرائيل (ردا على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق). ومع ذلك فهو مفهوم بالنظر لوزن إيران وما تشكله من خطر محتمل على دول الخليج. لكن المشكلة أن هوس هذا الإعلام بالهجوم كان أكثر مما لو أنه موجه إلى السعودية أو الإمارات.
أشدد على أنني لست في وارد لوم الصحافيين والمذيعين في هذا الإعلام. بل أشفق عليهم وأتعاطف كثيرا مع مراسليهم في غزة بسبب الحرج الذي يجدون أنفسهم فيه بسبب القرارات التحريرية في المركز (نعم لهذا الإعلام مراسلون في غزة ولم نسمع أن أحدا تعرَّض لهم بسوء بجريرة ما ترتكب محطاتهم).
أنا في وارد رثاء عقل الواقفين وراء هذا الإعلام وتصميمهم على أن المعزة يمكن أن تطير.
لا غرابة الآن أن تكون الأرقام التالية ثمرة انحرافهم: زُر حسابات المحطات الإخبارية العربية على يوتيوب في ذروة المشاهدة وستجد أنه بينما يتابع 100 ألف مشاهد قناة الجزيرة، هناك ثلاثة آلاف يتابعون العربية وأقل منهم يتابعون شقيقتها العربية الحدث، و220 يتابعون سكاي نيوز نصف هذا العدد ربما من العاملين فيه، و35 يتابعون قناة الشرق، غالبا بالخطأ.
إذا كانت إسرائيل تعوّل على هذا الإعلام لكسب قلوب العرب أو تحطيم معنوياتهم، فليخبرها أحد أنها أخطأت الهدف بنجاح.
كاتب صحافي جزائري