في غرب الجزائر وعلى بعد 60 كلمترا شمال شرق مدينة تلمسان، تقع مدينة هنين الساحلية، التي جعلها موقعها الاستراتيجي أحد أهم المدن في تاريخ المنطقة، ومينائها من أهم الموانئ في البحر الأبيض المتوسط في حقبة ابنها مؤسس الدولة الموحدية عبد المؤمن بن علي، الذي به اعتقل المؤرخ ابن خلدون في عهد حكم المرينيين، وكان معبرا للفارين من محاكم التفتيش في الأندلس ومقصدا لتجار أوروبا.
أسفل جبل تاجرة أحد امتدادات سلسة جبال تراراة تقع مدينة هنين، التي تتوسط مصب نهر تافنة ومرسى الغزوات، بالساحل الوهراني الغربي. تأسست في القرن 12 قبل الميلاد من طرف الفينيقيين، وكان يطلق عليها “جيبساريا-بورتوس” أو موطن الجبس حيث تشتهر قممها بغناها بمادة الرخام والتي اكتشف بها مؤخرا الرخام الأسود النادر.
وضع معالمها الأولى التجار الفينيقيين في ذلك الوقت، وتوسعت في عهد الرومان الذين أطلقوا عليها اسم “أرتيسيقا بورتوس” أو الطريق إلى مملكة سيقا التي أسسها ملك نوميديا الغربية صيفاكس وتبعد عن مدينة هنين بحوالي 40 كلمترا شرقا. وفي عهد الرومان تم توسعة مينائها وبنيت على جانبه الغربي حصنا منيعا يحمي المدينة.
وكان له دورا مهما ما بعد الفتوحات الإسلامية، وتعاقب الدول، وأصبحت مدينة رائدة في التجارة بفضل موقعها، وعرفت باسم هنين، وهي ترجمة لكلمة الشرفة، في اللغة الزناتية، حسب بعض المصادر التاريخية.
العصر الذهبي
يروي المؤرخون ان المدينة في عهد الخليفة الفاطمي القائم أبو القاسم ابن عبيد الله المهدي، تم تخريبها بعد ان وجد قائده ميسور الفتى، مقاومة كبيرة خلال محاولاته فتحها سنة 935 م لرفض قبائل المنطقة حكمه، ليعاد بناؤها من جديد بطابع عمراني مزج بين الإسلامي والبربري.
وعانقت المدينة المجد وأصبحت مقصدا تجاريا بامتياز في عهد ابنها عبد المؤمن بن علي المؤسس الفعلي للدولة الموحدية عام 1130 الذي ولد بجبل تاجرة وبالضبط في بني عابد سنة 1096 وهو ينحدر من قبيلة كومية أحد جيوب قبيلة زناتة الكبيرة.
درس عبد المؤمن في تلمسان وفي بجاية أحد منارات العلم في ذلك الوقت، وحملته الأقدار أن يلتقي بأستاذه المهدي بن تومرت الذي مهد لقيام الدولة الموحدية، وأسسها أتباعه وكان على رأسهم عبد المؤمن بن علي الذي استطاع بإسهاماته الكبيرة ان يضع ركائزها سنة 1121م.
عبد المؤمن بن علي أعاد للمدينة وهجها، ووسع من الحامية الرومانية وبنى على أنقاضها حصنا لا تزال أسواره قائمة إلى يومنا هذا، شاهدة على قوة وصلابة وعظمة من بنوها.
وتحول ميناء هنين في عهده إلى حصن عسكري منيع، وإلى مقصد تجار أوروبا وتجار ما وراء الصحراء، فيعتبر من أقرب الموانئ إلى تلمسان والأندلس حيث يقابل مينائها ميناء ألميرية في الضفة المقابلة، ليلعب بذلك دوره الحضاري المنفتح على العالم، حيث كان من بين أهم موانئ البحر الأبيض المتوسط ويربط بموانئ جنوة وبيزة وفلنسيا ومرسيليا، ويقصده التجار من أوروبا لعقد الصفقات المربحة .فكانت تستورد عبره من أوروبا وبلاد السودان الذهب والحديد الحلي الأرز والقطن الزعفران والورق ويصدر الصوف والجلود إضافة إلى المنسوجات الصناعية والمنتجات الفلاحية .
وتعددت النشاطات الاقتصادية في هنين بين التجارة والزراعة والصناعة والصيد البحري، وانعكست مظاهر الثراء على أبناء المدينة، حيث كانت منازلهم تضاهي منازل سكان الأندلس فكان لكل دار بئر من الماء العذب وفناء مغروس بكرم، وأرضها مبلطة بالزليج الملون، وسطوحها مزينة بنفس الزليج وجدرانها مكسوة كلها بالفسيفساء الفنية واستعمل في تزيينها البلاط الملون على سطح الغرف والجدران، ما يوضح مدى الغناء والثراء الذي وصل إليه التجار آنذاك، وشبهت مساكنها بتلك التي كانت مشيدة بالمدن الأندلسية.
الدور نفسه لعبته مدينة هنين في عهد الزيانين وكانت بوباتهم نحو العالم ومصدر ثرائهم، بسبب قربها من عاصمة الدولة تلمسان، وكانت الهدف الأول لكل الغزاة الذين يريدون وضع يدهم على تلمسان، فسقطت في يد المرينيين على فترات متقطعة (1281 م إلى 1359 م) وتعرضت للتخريب وأسس السلطان المريني (أبو يعقوب يوسف) المسجد العتيق بها فيما بين (1299 م و 1309 م) في أطول حصار على تلمسان.
ثأر الإسبان
كان ميناء هنين منفذا للهاربين من جحيم الأندلس بعد سقوطها، كما تحول التجار إليها بعد سقوط مدينة وهران في يد الإسبان سنة 1509. وكتب المؤرخ الحسن الوزان خلال زيارته هنين، “تأتي إلى هذا الميناء سنوياً سفن شراعية من البندقية تحقق أرباحاً طائلة مع تجار تلمسان، ولما احتل الإسبان وهران عام 1509 لم يعد البنادقة يقصدونها، فطلب منهم أهل تلمسان أن يأتوا إلى هُنين”.
لم يتقبل ملك إسبانيا شرلكان الدور الذي تلعبه مدينة هنين سواء في استقبال السفن التجارية التي كانت ترسو بوهران أو تحولها لمنطقة عبور للفارين من محاكم التفتيش من الأندلس، وبغية الانتقام من المدينة أمر شارلكان قائد بحريته للتوجه إلى هنين واحتلالها، فتحرك بأسطول كبير واستطاع أن يحتلها بعد مقاومة عنيفة للأهالي، وقام الجنود الاسبان، خلال المدة التي قضوها هناك بتخريب المدينة، وتحولت بيوتها العامرة على أيديهم إلى خراب.
ومع دخول الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر سقطت المدينة سنة 1837 وتحولت إلى محتشد يحول إليه سكان المداشر المجاورة في إطار سياسة عزل سكان عن الثوار ومنع عنهم الدعم الشعبي، وشهدت إقامة الثكنات ومراكز التعذيب وتوسعت حركة البناء والتعمير على حساب المدينة القديمة التي لم يبق منها اليوم إلا أسوارها.
أسر ابن خلدون وفرار بن كاوة
ترصد كتب التاريخ ان العلامة ابن خلدون سافر مرتين عبر ميناء المدينة حسب ما يذكره المؤرخ عبد الرحمان خليفة، في كتابه “هنين ميناء مملكة تلمسان”.
وسقط في إحدى سفرياتها في الأسر بالميناء، حيث كان متوجها من تلمسان التي كانت تتعرض إلى حملة عسكرية من طرف المرينيين قصد احتلالها، حاملا رسالة من أبو حمو موسى حاكم الدولة الزيانية إلى حاكم الأندلس، ولما وصل خبر وجود ابن خلدون بهنين إلى مسامع السلطان المريني ومعه وديعة أرسل جنودا واعتقلوه في الحصن وكان ذلك سنة 1369.
والى جانب ابن خلدون، كان ميناء هنين أول محطة نزل بها الحاخام اليهودي إفراييم بن كاوا، الكاتب اللاهوتي والطبيب الشهير الذي فر من محاكم التفتيش في الأندلس ولجأ إلى سلطان تلمسان، واستطاع ان يجد موطئ قدم له ولعائلته في المدينة بعد ان شفيت على يده ابنة السلطان، وبعدها فتح الباب لهجرة اليهود إلى المدينة وتشكيل الطائفة يهودية ويعرف في الموسوعة اليهودية، بأنه “الطبيب والحاخام، والكاتب اللاهوتي، ومؤسس الطائفة اليهودية في تلمسان وشمال أفريقيا، توفي عام 1442 وحسب الأسطورة المتداولة، فإنه فر من محاكم التفتيش الإسبانية وهناك فقد والده وأمه” ويوجد قبره إلى الآن بتلمسان ويعتبر من مزارات اليهود التي كانوا يحجون إليه سنويا.
إمكانيات سياحية هائلة
لكن ومع كل الثروات والمقدرات التي تحوزها المدينة إلا أنها تعيش الإهمال والتهميش، فلم يشفع لها لا تاريخها ولا إمكانياتها السياحية ان تسترد شيئا من بريقها أو أهميتها التي اكتسبتها عبر التاريخ.
فالمدينة لم تحافظ إلا على بعض بقايا الأسوار والأبراج التي تشهد على تاريخها المضيء، الكثير من أبنائها وأبناء المنطقة لا يعرفون الكثير عن هذا التاريخ وعن ما سطره أجدادهم من بطولات.
وتملك المنطقة الكثير من المؤهلات لتكون قطبا سياحيا بامتياز بالنظر إلى موقعها وأيضا لمؤهلاتها السياحية خاصة شواطئها العديدة الساحرة كشواطئ المخلد واقلة وتافسوت الذي يعد أحد أجمل شواطئها بحكم انه عبارة عن ارخبيل موغل في منطقة جبلية.
وإلى جانب البحر، تشكل السلاسل الجبلية التي تحيط بالمدينة، مقصدا لهواة السياحة الجبلية والغابية، خاصة جبل تاجرة الذي يطل على المدينة بارتفاعه الشاهق، والذي يقابله جبل سيدي سفيان ذو الغابات الكثيفة، الذي شهد معارك كبيرة بين الثوار وجيش الاستعمار الفرنسي، ووفرت مغارته ملجأ آمنا للثوار.
غير أن كل هذه المؤهلات لم تستثمر في الاتجاه الصحيح لكن أكثر من ذلك أثرت حركة العمران العشوائية على صورة المدينة وشوهت مناظرها بعد ان كانت عرضة لعبث أيادي مافيا العقار، التي قضت على مساحات واسعة من الثروة الغابية كانت تزين المدينة لتحل محلها نسيج عمراني فوضوي كسر ذلك التمازج بين اخضرار الجبال وزرقة مياه البحر.
مع ذلك تبقى المدينة بفضل موقعها الاستراتيجي ومينائها ومؤهلاتها السياحية المتنوعة التي تزخر بها، حيث أنها تجمع بين السياحة البحرية والجبلية والأثرية، وأيضا بتوفر على مناجم غنية بمادة الرخام بما فيه الرخام الأسود النادر، يمكن ان تسترجع مكانتها الاقتصادية التي احتلتها دوما منذ تأسيسها.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بالإضافة إلى مدينة “هنين” الأثرية فى الجزائر مسقط رأس مؤسس دولة الموحدين عبد المؤمن بن علي ، توجد مدن أخرى لا تقل أهمية من حيث التاريخ و الجغرافيا ، مثل مدينة “آشير” بولاية المدية حيث كانت آشير نقطة إنطلاق لتوحيد المنطقة المغاربية كلها من ليبيا إلى المحيط الأطلسي بالمغرب الأقصى ، فأستطاع “بولوغين بن الزيري” أن يحكم شمال أفريقيا بعد ما نقل عاصمة الزيريين من آشير إلى الجزائر العاصمة و أعاد إعمارها على أنقاض مدينة إيكوسيم القديمة .
بعد ذلك فتح بولوغين بن الزيري كل من طرابلس و سرت و برقة، و فاس و سجلماسة و صقلية،و يعتبر التواجد الجزائري المتمثل في دولة الزيريين في الأندلس حضورا حضارياً بأتم معنى الكلمة ،و لم يكن حكم و سلطة فقط ، بل كان عمران و تعمير ، حيث قاموا بتأسيس غرناطىة و تشييد مسجدها المشهور و بناء قصر الحمراء . و الجدير بالذكر أن الحكومة الأسبانية عيّنت ملحق من سفارة الجزائر مقيم دائم بغرناطة للحفاظ و إدارة شؤونقصر الحمراء و الآثار الزيرية العظيمة هناك .
يا سي منصور،
قد صدع الإخوة المراكشية رؤوسنا حتى كدنا نظن أن الجزائر لم تكن موجودة قبل 1962.
انت تقول إن للجزائر تاريخا و حضارة ضاربين في القدم، بل و أسسوا دولا حتى في المغرب الأقصى؟!!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا سي مراد ،، لا أحد يستطيع تغيير التاريخ و الجغرافيا لمجرد أنه يتكلم و يُعيد الكلام ،فالتاريخ مسّجل و موّثق في كل جامعات و مكتبات العالم ، و أصبح كتاب مفتوح و متاح لجميع الشرائح خاصة في هذا الزمن بالذات ،، زمن المعلوماتية و شبكات الأنترنيت ،و هناك الكثير الكثير ،، العشرات من المواقع الجزائرية و الأجنبية على النت تتناول المواضيع الحضارية و التاريخية بالأدلة الدامغة ، و من بين هذه المواقع على سبيل المثال لا الحصر … موقع على اليوتوب يسمى “رانا هنا ” ، متوفر في محرك البحث “غوغل” لمن أراد الإطلاع عليه . مع خالص الود والاحترام .