هواجس

منذ ظهر فيروس كورونا أو كوفيد-19 كما يسمى علميا، والحديث عنه لم ينقطع، ولا أظنه سينقطع لفترة طويلة، حتى لو أقلع عن غزواته الكبرى والصغرى، وعاد إلى كمونه، الذي كان عليه. وهي عادة فيروسية أصيلة، أن تنشط في أزمنة ما، ويخفت صوتها في أزمنة أخرى، قد تطول وقد تقصر، وأظننا نذكر الهبة الأولى لفيروس إيبولا في عام 1976، ثم اختفائه تماما ليعود بهبة جديدة أقسى في عام 2014.

الآن لا حديث سوى عن كورونا، لا أمنية مستقبلية إلا وارتبطت برحيل كورونا أو بقائه، ولا ماض سواء أن كان في الصور أو الذكريات العابرة في الذهن، إلا قيل: قبل كورونا. والذين سيعيشون ليحكوا عن هذه الأيام، سيتحدثون عن زمن طيب عاشوه قبل أن يظهر كورونا وآخر صعب أثناء وجوده، وربما أصعب بعد أن يندحر، وكل الدلائل تشير إلى ركود عام في كل الأنشطة الإنسانية، ومحتمل جدا أن يؤدي ذلك لانهيارات ومجاعات وحروب يظهر فيها القوي والضعيف.

الذي يثار كثيرا في معظم تلك الأحاديث والإحصائيات التي ارتبطت بالفيروس منذ ظهر في الصين، وفر عبر طرق السفر إلى العالم كله بما في ذلك الجزر النائية في المحيطات، التي كان يقصدها الأثرياء للاستجمام، هو استهداف كبار السن، أي أن الفيروس يهاجم على الأغلب من هم طعنوا في السن أو اقتربوا من الطعن فيها، يصطادهم، يهاجم رئاتهم بسهولة، ويسحبهم إلى الموت. إنه حديث مرعب أن تواجه المسنين بتلك النتائج، وتبشرهم بتلك العواقب الوخيمة للفيروس، خاصة للذين يعانون أصلا من مشاكل في أجهزة كثيرة في الجسم وغير مستعدين لمواجهة غزو جديد.

أنا لي رأي في هذه المسألة، وهي أن الاستهداف ليس خاصا بكبار السن فقط، ولا بأي شريحة عمرية، ولا أي جنس أو لون دون آخر، فالفيروس لا يملك ذهنا يفكر به، ولا هو مبرمج لمواجهة أحد دون آخر. إنه فيروس فقط، يهاجم من يتعرض للعدوى، ويمكن أن يموت بسببه طفل، وينجو واحد مسن ومسن جدا، وقد شاهدت رجلا إسبانيا في الثانية والتسعين يصاب بالفيروس، ولا يموت، لكنه يتعافى ويغادر المستشفى إلى بيته.

هذا المسن بالقطع لا يملك جسدا مقاوما لتلك الفظائع، وفي سن متقدم كهذا تتقطع السبل بكافة دفاعات الجسم، حيث تضمر الخلايا، وتتقاعس معظم الأجهزة الحيوية عن أداء مهامها، بما في ذلك القلب الذي يضخ الدم، ونخاع العظام الذي يصنع الخلايا الدموية والكلى التي تفلتر السموم، وتساهم في صناعة الحديد. أول ما قد يتبادر إلى ذهن من نقلوا ذلك العجوز إلى المستشفى لعلاجه، أنه لن يعالج وأنه سيموت حتما في غضون ساعات، هو نفسه سيظن ذلك، أولا لمعرفته بمضاعفات العمر، وثانيا لما قد يراه ويسمعه في سلوك الآخرين من حوله. لكن الذي حدث أنه عاد، وبالقطع كان يرقد قريبا منه شباب في عشرينيات أو ثلاثينيات العمر، لكنهم لم يعودوا إلى بيوتهم.

أيضا شاهدت طبيبا إيطاليا متقاعدا في الثالثة والثمانين، يعود إلى العمل مع زملاء مهنته، في مكافحة الفيروس، بكل همة ونشاط، غير عابئ بالعمر، أو الخطر الذي قيل بأنه يتربص بأمثاله.

إذن لا أحد يستطيع أن يحدد بدقة لماذا يعيش هذا ويموت هذا؟

لماذا يتقهقر الفيروس من الجهاز التنفسي الأعلى عند هذا، ويتوغل إلى الرئة عند ذاك؟

هو سلوك لكل المايكروبات تقريبا، وعلى الإنسان أن يعي ذلك، ويتعامل مع تلك الكائنات بكل الطرق التي تبعده عن نشاطها. نحن نرى الآن ازدياد النظافة العامة “الهايجين” واهتمام الناس بغسل أيديهم وتطهير الزوايا التي يعملون أو يجلسون فيها، وتكاد المصافحة بالأيدي أن تكون اختفت تماما من شعوب كانت تدمن الاحتضان والقبل، وليس مجرد المصافحة باليد.

هذا يحدث في الغالب نتيجة الخوف وليس الوعي، والخوف في حد ذاته خطوة في طريق الوعي. وأجزم أن أولئك الذين يظهرون في وسائط التواصل الاجتماعي ويصرحون بأنهم لا يعترفون بوجود فيروس خطر في بلادهم، هم أول من يركض إلى المنظفات والتعقيم، ويغسل يديه عشرات المرات في اليوم. وذلك الظهور المختلف لهم في وسائط التواصل، هو نتيجة خوف لا أقل ولا أكثر. أنت تحب أن تتواجد اجتماعيا بأي موضوع حتى لو كان بلا معنى، فقط حين تحس بالخوف أو العزلة، وأظن أن ثمة عزلة ضخمة الآن، تلف العالم كله، عزلة فيها خوف وفيها وعي، والخوف أكثر تشنجا من الوعي.

سؤال: ماذا سيحدث لو امتثل الجميع، وأعني بالجميع، كل فئات المجتمع في تلك البلاد التي غزاها كوفيد-19 والتي يفكر بغزوها، لو التزموا بالخوف الصحي ولم يلتق أحد بأحد في أي طريق أو بقالة أو منتزه أو حتى في مستشفى يذهب إليه بأعراض لا تستحق؟

المرجح أن الفيروس الغازي، سيتقهقر تدريجيا، وقد يعود إلى كمونه القديم ليظهر في زمن آخر، ويوجد احتمال أن لا يتقهقر تماما ويتحول من مرض وبائي، إلى مرض موسمي، يأتي ليعربد وينتصر في كل عام.

  • كاتب سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هدهد سليمان:

    لكورونا ايجابيات كثيرة تبدأ من تحسين أداء البيئة..وتنظيفها من سلبيات البشر.ما دام الفيروس من الله فهو رحمة للعالمين ولو أمات الكثيرين.فهو من الأقدار والوقاية منه بالطب والعلم من الأقدار ايضا.

  2. يقول ثائر المقدسي:

    في القسم الأخير ، يبدأ الكاتب القول بأن “هذا يحدث في الغالب نتيجة الخوف وليس الوعي”… ولم يكد يصل إلى نهاية هذه الفقرة حتى يهم بالقول على النقيض الكامل بأن “ثمة عزلة ضخمة الآن، تلف العالم كله، عزلة فيها خوف وفيها وعي”…
    احترنا “معاكم”

إشترك في قائمتنا البريدية