تعد هيت من أقدم المدن التي سكنها الإنسان في العالم، إذ استمر التواجد البشري فيها دون انقطاع على امتداد آلاف السنين، منذ عهد السومريين حتى يومنا الحالي. وهي اليوم مركز قضاء تابع لمحافظة الأنبار الواقعة غرب العراق، إذ تقع شمال مدينة الرمادي مركز الأنبار وتبعد عنها مسافة 70 كم، وشمال غرب العاصمة بغداد وتبعد عنها مسافة 180 كم. يبلغ عدد سكان مركز القضاء حوالي 75 ألف نسمة، أما عدد سكان القضاء كاملا أي مدينة هيت والنواحي والقرى التابعة لها، فيبلغ أكثر من 95 ألف نسمة حسب التقدير السكاني لعام 2010. وتسكن المدينة مجموعة من القبائل العربية العريقة كالمناذرة والغساسنة وعشائر البونمر والجغايثة والبوفهد والمحامدة والغرير والسلمان والجواعنة والكرابلة والراويين والمعاضيد والكبيسات والموالي والبو زيدان والدواسر.
يعتمد سكانها بشكل كبير على الزراعة، إذ تعد المدينة الغافية على طرف نهر الفرات من أهم مناطق شمال الفرات الزراعية، كما ان أرضها وفرت أعمالا في محاجر تكسير الحجر وتسويقه داخل العراق للاستعمال في الإنشاءات والبناء، كما ان فيها الكثير من ينابيع القار، وتعد مركز استخراج القار تاريخيا في العراق، كما تحتوي على العيون الكبريتية التي يزورها الكثيرون للاستطباب والعلاج.
الاسم وجذره التاريخي
يسرد الهيتيون الكثير من الأساطير التي نسجت حول مدينتهم ويفتخرون بها بالرغم من قناعتهم بأنها ربما تكون بعيدة عن الدقة العلمية. فهم يعتقدون ان سيدنا نوح (ع) قد جلب القار الذي طلى به سفينته من هيت، كما يشيرون إلى انه تعلم من أهلها كيفية صناعة السفن. كما تشير بعض مرويات الهيتيين الشفاهية إلى إنَ النخلة التي أُمرت السيدة مريم ابنة عمران (ع) بهزها حسب القصص القرآنية، ليتساقط عليها الرطب جنيا، كانت من نخل مدينتهم. كما أنهم يذكرون المرويات التاريخية التي تسرد قصة حمل تجار قريش لأحد أهم الأصنام قبيل البعثة المحمدية وهو الإله “هبل” من أحجار هيت.
ويذكر الباحثان العراقيان بشير فرنسيس وكوركيس عواد، أن اسمها جاء في السومرية بصيغة “دل- دلي”. وكان البابليون يسمون القار في لغتهم “ادو” وكانوا يسمون هذه البلدة “اد” ومعناها مدينة القار. كما يذكر الآثاريان العراقيان طه باقر وفؤاد سفر في كتابهما “المرشد إلى مواطن الآثار والحضارة” أن هيت ذكرت في أخبار حملة الملك الآشوري توكولتي نينورتا الثاني (889 ق.م -884ق.م) إذ جاء في الرقم الأثرية انه خيم بالقرب من ينابيع القار في “ايد” (هيت) وان الجند كانوا يسمعون أصوات الآلهة تنبعث من حجر الـ “أشميتا” وهذه الأصوات حسب تفسير طه باقر هي نتيجة لخروج الغاز الطبيعي من ينابيع القار القريبة، كما انها تدل على ما أضفته هذه المرويات من قدسية على تلك الينابيع التي اشتهرت بها هيت التي تحولت إلى مدينة مقدسة.
ومما يدل على أهميتها في العصور القديمة باعتبارها مصدرا للقار، ان سرجون الأكدي (2350 ق.م) قصدها بنفسه لتقديم القرابين في معبد شيد خصيصا للإله “دجان” الذي يعتقد انه “دجوان” الذي يلفظ بالجيم الفارسية المفخمة، المذكور في العهد القديم من الكتاب المقدس. أما مؤرخ اليونان الأبرز هيرودوتس فقد أشار إلى مدينة هيت في تاريخه واسماها بلدة “أز” وذكر انها على مسيرة ثمانية أيام من بابل، كما ذكرها مؤرخو اليونان الآخرون مثل ايزيدور وبطليموس باسم “اد قارا” وهو مركب من “اد” البابلية و”قارا” وهي لفظة نبطية عربية بمعنى قار.
ويذكر أن دخول الجيش الروماني إلى مدينة “دي اقيرا” سنة 363م حسب ما رواه زوسيمس مؤرخ الحملة باسم “داكيرا” وهي دقيرا بالسريانية، وذوقير بالعربية، والذي ذكر ان المدينة لها عدد من الأسماء عرفت بها منها “اهي” أو “اهدقيرا”. ثم يقول زوسيمس إن المدينة عرفت بالنبطية باسم “هيد” أو “هد” فاذا علمنا ان حرف الهاء يستعمل كأداة تعريف في هذه اللغة وكذلك في العبرية يمكننا ان نستنتج بان اسم المدينة قد تطور من “اد” أو “ات” البابلية التي تعني القار، ثم “اهدقيرا” العبرية أو “هد” أو “هيد” النبطية، فصار هيت، وهو الاسم الحالي للمدينة وبه عرفها الكتاب العرب الأقدمون.
الفتح الإسلامي
تقع المدينة التاريخية على تلين متجاورين يحيط بهما سورها القديم الذي ينتهي شرقا بالضفة الغربية لنهر الفرات، ويحيط بسور المدينة خندق للحماية من الغزوات العسكرية. ويعد د. طارق عبد الوهاب مظلوم قلعة هيت من القلاع الآشورية بناء على المعطيات المعمارية، فشكلها يشبه شكل قلاع عديدة في المدن الآشورية القديمة كمدينة تكريت وأربيل، وتل قوسنجق في نينوى، ومنطقة القصور والمعابد نمرود “كالح” وكركوك.
وقد وصف المؤرخون والجغرافيون العرب هيت وذكروا قلعتها وسورها وخندقها من خلال وصفهم لها؛ فقد ذكرها الأصطخري (ت:341هـ/956م) في كتابه “صورة الأرض” فقال؛ “هيت مدينة وسطى تقع على الضفة الغربية لنهر الفرات وعليها حصن وهي عامرة آهلة”. كما وصفها ابن حوقل (ت: 367هـ/979م) قائلا: “وعليها حصن وهي من أعمر المدن”. ووصفها المقدسي (ت:380 هـ/875م) في كتابه “أحسن التقاسيم” بأنها: “كبيرة عليها سور على الفرات”. وقال عنها الإدريسي (ت:560هـ/1166م) في كتابه ”نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”: “وهيت مدينة من غربي الفرات عليها حصن وهي من أعمر المدن” وقال عنها القزويني المتوفي (ت:682هـ /1283م) في كتاب “آثار البلاد وأخبار العباد”: “هيت مدينة محصنة بقلعة متينة، وتقع مباشرة على الضفة الغربية لنهر الفرات”.
ويذكر الطبري حصار المسلمين لمدينة هيت عام 16 هـ إبان فتح العراق فيقول؛ “فقد نزل المسلمون على أهل هيت الذين أغلقوا أبواب المدينة الثلاثة، وتحصنوا بسورها وقلعتها المنيعة وخندقها، وبعد حصارها تم فتحها صلحا”. وقد أحدث المسلمون بعد فتح هيت بعض التغييرات في قلعتها التي وجدوها عامرة آهلة خاصة بعد مشاطرتهم الكنيسة، إذ يعتقد أن جامع الفاروق الذي بني عام 16هـ والذي ما تزال مئذنته قائمة حتى اليوم في قلعة هيت قد أنشأ لأول مرة على نصف كنيسة هيت التاريخية وفقا لإتفاق الصلح بين الفاتحين وأهل المدينة، وقد ألحق الشطر الثاني من الكنيسة بالجامع بعد زيادة عدد المسلمين وانسحاب النصارى إلى بلدانهم.
آثار
في تتبع طه باقر للمواقع الأثرية غرب العراق، ذكر آثار هيت وعدد منها عدة مواقع، إذ توجد في ضواحيها جملة مواضع أثرية بعضها أطلال وبعضها آثار قائمة. منها بقايا مستوطنة تبعد حوالي ستة كيلومترات جنوب المدينة وتعرف باسم “المعمورة” أو “قبر المعمورة” أو “المعيمرة” للتصغير، حيث يشاهد بقايا مستوطنة حول مئذنة والمكان كان مسكونا حتى بداية القرن العشرين، لكن أهله هجروه ورحلوا إلى مدينة كبيسة، ولا أحد يعرف السبب، إذ ربما حدثت الهجرة بسبب أحد الفيضانات التي كانت تجتاح المنطقة بشكل متكرر.
وعلى بعد كيلومتر ونصف جنوب المعمورة توجد بقايا مستوطنة أخرى تسمى “المقلوبة” وقد لاحظت مس بيل الآثارية والسياسية البريطانية عام 1909 بقايا جدار أو سور قسمه الأسفل مبني بالحجر والجص وقسمه الأعلى مبني باللبن أو الطين غير المفخور. كما عثر في بادية غربي هيت على العديد من الأحجار المنقوشة بكتابات عربية بالخط الصفوي وهو أحد أنواع خط المسند من الخطوط العربية الجنوبية نحو القرن الرابع الميلادي وهي الآن معروضة في المتحف العراقي، كما أن جامع الفاروق وقلعة هيت يعدان من المواقع الأثرية المهمة في غرب العراق.
النواعير
الناعور، وجمعها نواعير، هي واسطة رفع المياه من مجرى النهر إلى الأراضي المحاذية عندما تكون أعلى من مستوى النهر، والناعور يدور على نفسه بفعل دفع المياه، وتنقل أوان فخارية خاصة مربوطة بأضلاع الناعور الماء إلى ساقية عالية تنحدر تدريجياً، لكي ينساب الماء فيها وتروي الأراضي. يقول الباحث د. مليح صالح شكر؛ “إنّ مدن محافظة الأنبار؛ هيت والبغدادي وحديثة وعانة وراوة وحصيبة، تستعين بالنواعير بطريقة فريدة من نوعها لنقل الماء من الفرات بهدف الإرواء”. ويضيف أنّ “الناعور يصنع من خشب التوت على شكل دائرة قطرها نحو 10 أمتار، وتوزع عليها نحو 30 عوداً، لتصبح بشكل عجلة يركب عليها 24 دلواً”. وتنفرد نواعير هيت بالمطاحن المائية، إذ يذكر مؤرخ المدينة الشيخ رشاد الخطيب في كتابه “هيت في إطارها القديم والحديث” شرحا للمطاحن المائية فيقول؛ “الطواحين المائية أبنية ضخمة قديمة تستخدم لطحن الحبوب، إذ تربط عجلات الطحن التي تدور الرحى التي تقوم بالطحن بدائرة الناعور الذي يدور بفعل قوة تيار الماء، وبالتالي يتم استثمار دوران الناعور لطحن الحبوب”. إلا أن هذه الطواحين التي كانت موجودة بكثرة في هيت وقراها تركت وأهملت مع توفر المكائن الحديثة ولم يبق منها إلا القليل. ويسعى اليوم عدد من الباحثين من أبناء هيت إلى ادخال نواعيرها ضمن قوائم اليونسكو للتراث العالمي.
إرهاب “داعش”
عانت المدينة مثل شقيقاتها من مدن غرب العراق من احتلال عصابات “داعش” الإرهابية والتنكيل بأهلها واتخاذهم دروعا بشرية، إذ بقيت تحت سيطرة هذه العصابات لأكثر من عام، عاثت فيه شتى صنوف الإرهاب والإجرام، وعند تحريرها منتصف عام 2016 كانت عبارة عن مدينة أشباح. وبالرغم من الدمار الكبير الذي لحق بالمدينة، إلا أن الحياة دبت فيها من جديد بفضل سواعد أبنائها وسعيهم للتمسك بالحياة وإعادة الازدهار لمدينتهم وتاريخها الممتد لآلاف السنين، وما زالوا يجدون في ترميم ما تدمر من مدينتهم الجميلة لتعود مزدهرة كسابق عهدها.