الحرقة تقف في اللهاة، لتصبح حجراً صغيراً، ليتني كنت قريباً من الحدود الفلسطينية، قرب رفح أو الخيام، أو خانيونس، أو في القدس نفسها عاصمة الدولة الفلسطينية، لأرمي هذا الحجر على العدو، ترى كم من حجَرات، تلك التي هي جمَرات قد تمّ رميها على العدو؟ من صبيان وفتيان وفتيات ورجال وشيوخ ونساء، رموا حجراً على العدو، ليتني كنت قريباً من الحدود، كي أرمي بحصاتي وحجري هناك على العدو لأرتاح. أعرف أن حصاتي لا تفعل شيئاً، لا تقتل جندياً ولا تميت مستوطناً، لكنها ستجرح هواجسه الاستيطانية، وتقتل نبرته الصهيونية، هذا المستوطن القادم من فنلندا والسويد وبولندا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا، ستهز تاريخه المتراخي، تاريخ بلفور وتلفيقات كسينجر، وتخلخل قناعاته المتوارثة بهرتزل، فالصهيونية، حسب مفهوم القتلة في البيت الأبيض، تساوت مع السامية، جرح السامية هم من صنعوه، والآن يحلو لهم توريط الساميين الأصليين كالعرب به، غربتهم هم صنعوها بأنفسهم، وشكسبير كان قد حاكاهم منذ زمن بعيد، شنّع بهم وبطرق عيشهم في الحياة، إنهم يكرهون شايلوك شكسبير، شايلوك الذي هو منهم، ظل يدور لزمن طويل على الخشبة، يدور في العالم من مسرح إلى آخر، من عاصمة إلى أخرى، ليس ثمة خشبة في العالم لم تعرض شايلوك شكسبير، شكسبير المنبوذ في بلاد اليهود، وكذلك هو شايلوك خازن القروش. فالصهاينة تاريخهم المتداول يفضحهم، تاريخهم نفسه يفضح مسيرتهم بين العواصم والبلدان والشتات، شتاتهم البشري الذي جلبوه من هنا وهناك ليضعوه بيننا، ليضعوه في قلبنا. رحم الله الشاعر معين بسيسو الذي قال قبلنا «فلسطين في القلب» ورحم الله إدوارد سعيد الذي سعى بجسده العليل ليقذف التاريخ المتراخي بحجر، تاريخ بلفور وغولدا مائير وموشيه دايان وشارون وبيغن وأسحق رابين، لقد خبرنا شارون في بيروت، وملامح الدمار لا تزال في قلب بيروت، ومن يزرْ الفاكهاني يرَ طابع الدمار النازي هذا هناك، لم يزل قائماً.
يد شارون كانت نازية، وها هي يد النتن ياهو نازية، متسامية ترفرف فوق الأنقاض، وترفع شارة النصر على جثث الأطفال والنساء والشيوخ، جبناء وفاشيون هؤلاء الذين يسعون إلى قتل الطفولة في مهدها، جبناء هؤلاء الذين يطاردون الشيوخ وهم يسيرون بعصيّهم إلى اللا أين، أو إلى «مدينة أين» حسب تعبير الشاعر سركون بولص، ماذا تقول للجبناء الذين يقصفون المستشفيات والمدارس والبيوت في المدائن والحارات القديمة، ها أنهم يقصفون البطولة والمجد الطويل، يقصفون الصخور التي يسيل حليبها ويعلق في قضبان الحديد، ريش الطيور يُرى طائراً ومتطايراً فوق البيوت المهدّمة، مواء القطط يجرح الشبابيك المنهارة، رضّاعة الطفل بين الحطام، والحليب يسيل ويختلط بالدم، هنا نحتاج إلى رسام عالمي ليجسّد هذا المشهد، أحمر يتداخل في البياض، واللوحة تراجيدية. كم من رسام في الزمن المنهار لبيروت رسم مشاهد الخراب، ووصايا الدمار لبيغن وشلته الفاشية، دمار يستدرج دماراً آخر، دمار ينتج دماراً، خراب يلد خراباً مماثلاً، في متوالية مستمرة لا تتوقف على مدار الزمن، من بيروت إلى غزة وخان يونس وجباليا وجنين والخليل، لذلك سوف لن يأمن المستوطن صاحب التاريخ المتراخي، ولن يهنأ على أرض ليست أرضه، ما دام هناك تطهير بشري للسكان الأصليين. بالطبع أمريكا بحكامها وعلى مدار قرن كامل، تدافع وتحمي وتموّل وتدعم بكل ما أوتيت من جبروت الكيان المزعوم، ذلك أنها هي من قامت أولاً بالتطهير العرقي لجنس بشري هم الهنود الحمر. لكن الفلسطيني ليس الهندي الأحمر، وبايدن الخرف وغيره من القادة الأوروبيين يعرفون ذلك، الفلسطيني الآن هو نيلسون مانديلا وهوشي منه وتشي غيفارا وكاسترو، وها هو نتنياهو يقول لوزير الدفاع الأمريكي، إن حماس هي «داعش» وينبغي استئصالها، فيأتي الرد من بلينكن وبإشارة من رأسه أجل ينبغي التطهير والاستئصال للتاريخ الفلسطيني العربي، لكن كيف؟ يجيب نتنياهو: ليس هناك من طريقة سوى التدمير الكامل والممنهج، موصولاً بتهجير السكان الأصليين، لكي نستوعب مستقبلاً مزيداً من المستوطنين، الوافدين إلى أرض اللبن والعسل، بينما هي في الحقيقة أرض النار والرماد.
ها هم المستوطنون مسلحون، عنيفون، شرسون وقساة، يحيون في أرض غير أرضهم، في أرض منهوبة منذ أيام عصابات الهاغانا وأراغون، هؤلاء هم تلامذة ناجحون في نهب حياة ومستقبل وتاريخ غيرهم، غزاة مسلحون بآلة مبيدة للبشر العزّل، البشر المجرّدين من السلاح، باستثناء رجال المقاومة، وهم قلة وليس الشعب بأكمله، شعب يباد من أجل الاستيطان المتجدد كل يوم، للقادم من هنغاريا وبلغاريا وروسيا وسويسرا وأمريكا وبريطانيا، إنهم في الحقيقة قوم مستورد ومستجلب، وليس شعباً أصيلا متجانساً يحمل هوية مكان واحد، فالدياسبورا تريد كلها أن تتوطن في أرض ليست لها، في أرض مصادرة بقوة السلاح الأمريكي الذي دمّر العراق، وها هو ذا يجهز وأمام الملأ جميعاً على بلاد يسوع وإبراهيم الخليل، وجد النبي هاشم بن عبد مناف في غزة الثكلى والجريحة، إنها هيروشيما جديدة، يرغب الغرب بقيادة أمريكا في محوها وتشريد شعبها، ومن ثم إعادة بنائها كقاعدة لها مثل إسرائيل، وبناء سلسلة طويلة من المستوطنات للأشرار الذين يملكون جنسيتين، وهجرات واسعة في أراضي الغير، التي لهم فيها ممتلكات وشركات واقتصادات وميديا تمتد خيوطها الشبكية في أنسجة العالم كله، ميديا تمتدح وتُعلي من شأن الآلة الجهنمية العسكرية الإسرائيلية، هذه الآلة التي تسير بسرعة قياسية، لقتل المزيد من الأطفال في المدارس، والمزيد من المرضى في المستشفيات، والمزيد من النساء والشيوخ في منازلهم المنهارة فوق رؤوسهم. ماذا بوسعنا أن نقول للمنحنين والصامتين اللاهثين للتسويات الشنيعة، على حساب الدم الفلسطيني؟ لذا أنحني بإجلال هنا، رافعاً قبعتي للفنانة والمنتجة السينمائية الإسرائيلية يولا بينيوفولسكي، التي تعيش في كندا، مباركاً مثل غيري خطوتها بتخليها عن جنسيتها الإسرائيلية، ورفضها الانتساب للهمجية المعاصرة، لمن صنع هيروشيما جديدة فوق أرض فلسطين بغزة، في زمن ما بعد الحداثة.
كاتب وشاعر عراقي