لندن- “القدس العربي”: نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريراً أعدّته سعاد مخينت وجون واريك قدّما فيه تفاصيل جديدة عن عملية الموساد الإسرائيلي لاختراق أجهزة الاتصال لدى “حزب الله”.
فقد بدت العروض الأولى من الإنتاج الجديد لشركة أبولو مناسبة تماماً للجماعة المسلحة ذات الشبكة الواسعة من المقاتلين، والمهووسة بالحس الأمني.
كان جهاز بيجر من طراز إي أر924 ضخماً نوعاً ما، ولكنه قوي، وصُمّم لتحمّل ظروف القتال. ويتمتع بتصميم تايواني مقاوم للماء، وببطارية ضخمة، يمكن أن تعمل لشهور بدون الحاجة لشحنها. أما الميزة الكبرى، فالجهاز محصن ضد أيّ رقابة أمنية، وتعقبات من قبل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
وقد أعجب قادة “حزب الله” بهذا الجهاز، إلى الحدّ الذي جعلهم يشترون 5,000 جهاز منه، وبدأوا بتوزيعها على عناصرهم من المستوى المتوسط، وأفراد الدعم، في شهر شباط/فبراير. ولم يشكّ أحد من الذين تلقّوا الجهاز بأنهم كانوا يحملون قنبلة صمّمتها المخابرات الإسرائيلية.
كشفت الصحيفة أن العملية لم تؤدّ لتدمير الصفوف القيادية في “حزب الله” وحسب، بل وجرّأت إسرائيل على قتل الأمين العام للحزب
وحتى بعد انفجار الأجهزة في لبنان وسوريا، تنبّهت قلّة منهم إلى العنصر الفتاك في أجهزة بيجر، وهو أن فكّ التشفير يحتاج إلى الضغط على الجهاز بكلتا اليدين لكي ينفجر.
وقد قتلت العملية وجرحت 3,000 عنصر من “حزب الله”، معظمهم من الشخصيات القيادية في الصفوف الخلفية، إلى جانب عدد غير معروف من المدنيين، عندما قامت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية الموساد بتفعيل الأجهزة عن بعد، في 17 أيلول/سبتمبر، حسب مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين.
وتقول الصحيفة إن العملية التي قامت بها الاستخبارات الإسرائيلية لاختراق العدو تعتبر بارعة، لكن التفاصيل والجدل الذي أثارته داخل المؤسسة الأمنية بدأت تظهر للعلن.
وتقول الصحيفة إن التفاصيل التي جُمعت حول العملية جاءت من مسؤولين أمنيين إسرائيليين وعرب وأمريكيين، وكذا مسؤولين لبنانيين وأشخاص على علاقة مع “حزب الله”. ووصفوا عملية بدأت في مقرات الموساد في تل أبيب، وشارك فيها فريقٌ وعددٌ من المتواطئين في عدة دول.
وكشفت الصحيفة أن العملية لم تؤدّ لتدمير الصفوف القيادية في “حزب الله”، بل وجرّأت إسرائيل على قتل الأمين العام للحزب، حسن نصر الله.
وقامت إيران، يوم الثلاثاء، بإطلاق 200 صاروخ باليستي ضد إسرائيل انتقاماً لمقتل نصر الله. وقال علي خامنئي، في خطبة الجمعة: “لن تتراجع المقاومة بالمنطقة عندما يقتل قادتها”.
لكن الضربة أقنعت قيادة إسرائيل أنها تستطيع تعليق “حزب الله” على حبل المشنقة، وتعريضه لعملية تفكيك نظامي عبر الغارات الجوية، ومن ثم عملية غزو بري.
وفي حين يشعر بعض المسؤولين بالفرح من نجاح العملية، إلا أنهم خائفون من تداعيات الضربة على نزاع يتوسّع بشكل مستمر. وقال أحد المسؤولين الإسرائيليين: “لا يمكننا اتخاذ قرار إستراتيجي للتصعيد في لبنان بناء على دمية”.
وتقول الصحيفة إن الخطة تعود إلى عام 2022، حيث توقفت أجزاء منها بعد هجوم “حماس”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وكانت هناك حاجة للتهدئة على جبهة الشمال.
ويعتبر “حزب الله” من أشد الجماعات الموالية لإيران تهديداً لإسرائيل، حيث قام بتوسيع ترسانته على مدى السنوات الماضية.
وفي الوقت نفسه، قام الموساد، المسؤول عن مواجهات التهديدات الخارجية على دولة إسرائيل، بمراقبة الحزب، ومحاولة اختراقه عبر الرقابة الإلكترونية وزرع العملاء. وتعلّمَ قادة الحزب، مع مرور الوقت، خطورة الأجهزة الإلكترونية، بما فيها الهواتف المحمولة التي قد تتحوّل إلى أجهزة تجسس بيد إسرائيل.
وبهذه الطريقة ولدت فكرة “حصان طراودة للاتصالات”، كما قال أحد المسؤولين.
وكان “حزب الله” يبحث عن شبكات إلكترونية مقاوِمة للاختراق لنقل الرسائل، وتوصّل الموساد إلى حيلة مزدوجة من شأنها أن تدفع المجموعة المسلحة إلى شراء أجهزة تبدو مثالية لهذه المهمة، أي المعدات التي صمّمها الموساد، وقام بتجميعها في إسرائيل.
وبدأ الجزء الأول من الخطة عبر إدخال أجهزة ووكي توكي مفخّخة إلى لبنان قبل عقد من الزمان، في 2015. وكانت أجهزة الاتصال اللاسلكية المحمولة ثنائية الاتجاه تحتوي على حزم بطاريات كبيرة الحجم ومتفجرات مخفية ونظام إرسال أعطى إسرائيل إمكانية الوصول الكامل إلى اتصالات “حزب الله”. وعلى مدى تسعة أعوام، رضي الإسرائيليون بالتنصّت على “حزب الله”، مع الاحتفاظ بخيار تحويل أجهزة اللاسلكي إلى قنابل، حالة استدعت الحاجة في المستقبل. ثم جاءت فرصة جديدة من خلال منتج براق: جهاز بيجر صغير مزوّد بمتفجرة قوية.
وفي مفارقة لم تظهر إلا بعد أشهر عديدة، وعندما انتهى الأمر بـ “حزب الله” إلى دفع أموال غير مباشرة للإسرائيليين، مقابل القنابل الصغيرة التي من شأنها أن تقتل أو تصيب العديد من عناصره، ولأن قادة “حزب الله” كانوا على دراية بالتخريب المحتمل، لم يكن من الممكن أن تأتي أجهزة الاتصال من إسرائيل أو الولايات المتحدة، أو أي حليف آخر لإسرائيل. لذا، في عام 2023، بدأت المجموعة بتلقي طلبات الشراء بالجملة لأجهزة الاتصال أبولو ذات العلامة التجارية التايوانية، وهي علامة تجارية معروفة جيداً، وبخط إنتاج يتم توزيعه في جميع أنحاء العالم، وبدون أن تكون هناك روابط واضحة مع المصالح الإسرائيلية أو اليهودية.
ولم تكن الشركة التايوانية على معرفة بالخطة، كما يقول المسؤولون. وجاء عرض الشراء من مسؤولة موثوقة لدى “حزب الله”، وبعلاقات مع شركة أبولو، حيث لم يتم الكشف عن هوية أو جنسية مسؤولة التسويق هذه، وكانت مسؤولة التسويق سابقاً للشركة التايوانية في الشرق الأوسط، وأنشأت شركتها الخاصة، وحصلت على رخصة بيع الخط الإنتاجي الجديد من بيجر، والتي حملت علامة أبولو.
وفي مرحلة ما، عام 2023، عرضت على “حزب الله” جهاز بيجر الكبير من نوع إي أر 924. وقال مسؤول إسرائيلي على معرفة بتفاصيل العملية: “كانت هي التي تواصلت مع “حزب الله”، وهي التي شرحت لهم أن جهاز بيجر الضخم ذا البطارية الأكبر حجماً، هو أفضل من النموذج الأصلي”. وأضاف المسؤول أن واحدة من الملامح الرئيسية للجهاز هي إمكانية شحنه بكابل، واستخدامه لمدة طويلة بدون حاجة لشحنه مرة أخرى.
وكما اتضح لاحقاً، فقد تمت الاستعانة بجهات خارجية لإنتاج الأجهزة، ولم تكن جهة التسويق على معرفة بالعملية، وأن أجهزة بيجر جمعت تحت إشراف الموساد في إسرائيل، حسب مسؤولين على معرفة بالمؤامرة.
وقد احتوت أجهزة بيجر التي جمعها الموساد، والذي كان وزن كل واحد منها ثلاث أونصات، على ميزة مهمة، وهي بطارية تخفي كمية قليلة من المتفجرات. وتم إخفاء المتفجرات بطريقة لا يمكن التعرف عليها، حتى لو جرى تفكيكها.
ويعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن “حزب الله” ربما فكّكها، وقام بتصوير عدة منها بالأشعة. وكانت الأجهزة تحتوي على منفذ غير مرئي، حيث أدّت إشارة إلكترونية من الموساد إلى انفجار آلاف من أجهزة بيجر دفعة واحدة. ومن أجل ضمان أقصى قدر من الضرر، كان على المستخدم تفعيل رسالة مشفرة في الجهاز. وقال أحد المسؤولين: “كان عليك الضغط على زرّين لقراءة الرسالة”. وفي الممارسة العملية، كان هذا يعني استخدام كلتا اليدين. ومن المؤكد أن الانفجار التالي سيضرب اليدين، ما يعني عدم القدرة على القتال.
الصحيفة: الضربة أقنعت قيادة إسرائيل أنها تستطيع تعليق “حزب الله” على حبل المشنقة، وتعريضه لعملية تفكيك نظامي عبر الغارات الجوية، ومن ثم عملية غزو بري
وحتى 12 أيلول/سبتمبر، لم يكن كبار المسؤولين السياسيين على معرفة بهذه الإمكانية الفتاكة، ففي ذلك اليوم، دعا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مستشاريه الأمنيين إلى اجتماع ومناقشة هجوم محتمل ضد “حزب الله”. وورد في ملخص الاجتماع، الذي عقد بعد أسابيع، أن مسؤولي الموساد قدّموا لمحة أولى عن واحدة من أكثر عمليات الوكالة سرية. وبحلول ذلك الوقت، كان الإسرائيليون قد وضعوا أجهزة اتصال مفخخة في أيدي وجيوب الآلاف من عناصر “حزب الله”، وذلك حسب مسؤولين على معرفة بالأمر.
وعبّر المسؤولون الأمنيون عن مخاوفهم من اكتشاف الحيلة، حيث بدأت نذر التصعيد مع “حزب الله”، ما يعني أن تخطيط سنوات سيكون بدون فائدة. وعليه، دار نقاشٌ حاد بين المسؤولين الإسرائيليين، وناقش نتنياهو إمكانية ردّ من “حزب الله” وأعضائه الناجين بالصواريخ ضد إسرائيل. وقال مسؤول إسرائيلي: “من الواضح أن المخاطر كانت موجودة”. وحذّرَ مسؤولون من وزارة الدفاع من مواجهة شاملة مع “حزب الله”، في وقت يواصل فيه الجيش عملياته في غزة. إلا أن مسؤولين في الموساد رأوا فرصة في تغيير الوضع الراهن. وطوال هذا النقاش لم يتم إخطار الولايات المتحدة، الحليف الأقرب لإسرائيل، بشأن أجهزة بيجر المفخخة، أو حتى بالجدل الداخلي حول تفجيرها.
وفي نهاية المطاف، وافق نتنياهو على تفجير الأجهزة، في حين أنها قد تلحق أقصى قدر من الضرر.
وعلى مدى الأسبوع التالي، بدأ الموساد الاستعدادات لتفجير أجهزة بيجر، وكذا أجهزة ووكي توكي التي كانت متداولة بالفعل.
وتقول الصحيفة إن الموساد كان على علم بمكان وجود زعيم الحزب حسن نصر الله، وكان يتتبع تحركاته عن قرب، كما قال المسؤولون.
ومع ذلك، امتنع الإسرائيليون عن إطلاق النار، لأنهم كانوا على يقين من أن الاغتيال سيؤدي إلى حرب شاملة مع الجماعة المسلحة، وربما مع إيران أيضاً.
كان الدبلوماسيون الأمريكيون يضغطون على نصر الله للموافقة على وقف إطلاق نار منفصل مع إسرائيل، دون ربط بالقتال في غزة، على أمل التوصل إلى اتفاق يمكن أن يؤدي إلى انسحاب مقاتلي “حزب الله” من القواعد اللبنانية الجنوبية قرب الحدود مع إسرائيل.
وظل مسؤولون إسرائيليون على شك بشأن استهداف نصر الله. ووسط النقاش الداخلي حول استهداف زعيم الحزب أم لا، بدأت في 17 أيلول/سبتمبر أجهزة بيجر من ماركة أبولو بإصدار دقات مرة واحدة في لبنان وسوريا. وظهرت على شاشة كل جهاز: “وصلتك رسالة مشفرة”. واتبع عناصر “حزب الله” التعليمات بدقة للتحقق من الرسائل المشفرة، بالضغط على زرّين. وفي المنازل والمحلات التجارية، وفي السيارات، وعلى الأرصفة، مزّقت الانفجارات الأيدي، وأطاحت بالأصابع. وبعد أقلّ من دقيقة، انفجرت آلاف أخرى من أجهزة بيجر عن بعد، بغض النظر عمّا إذا كان المستخدم قد لمس جهازه أم لا.
وفي اليوم التالي، في الثامن عشر من أيلول/سبتمبر، انفجرت مئات من أجهزة ووكي توكي بنفس الطريقة، ما أسفر عن مقتل وإصابة المستخدمين والمارّة.
وكانت بداية حملة إسرائيلية شرسة ضد “حزب الله”، ووصلت ذروتها بمقتل زعيم الحزب نصر الله، في 27 أيلول/سبتمبر.