كنتيجة لعملية «طوفان الأقصى» شهدت المنطقة الكثير من التصعيد، بعد فترة من الهدوء النسبي، هذا التصعيد، وإن تشعب منطقه ومناطقه، إلا أن قطبيه الرئيسين كانا إيران والولايات المتحدة. كان من ذلك التهديد المتصاعد لجماعة الحوثي اليمنية للملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن، وهو ما ردت عليه الولايات المتحدة ودول حليفة معها بتوجيه ضربة استراتيجية، أو هكذا أريد لها أن تكون، إلى اليمن. إلى جانب هذا كانت الضربة التي استخدمت فيها إيران صواريخ باليستية هاجمت بها أربيل في كردستان العراق، معلنة أنها استهدفت «مراكز تجسس وتجمعات لمجموعات إرهابية»، وهي ضربة لا يمكن فصلها عن الاشتعال الإقليمي.
يمكن اعتبار كل هذا معتاداً باستحضار السجال العسكري الطويل في المنطقة، الذي امتد خلال السنوات الأخيرة لهجمات داخل سوريا أو داخل العراق، لكن تطورين مهمين وغير مسبوقين حدثا أيضاً بداية هذا العام. التطور الأول كان الغارة الإيرانية على باكستان، بذريعة ضرب مواقع لمجموعات مسلحة معارضة، وهي الغارة التي استوجبت رداً باكستانياً سريعاً باستخدام الذريعة ذاتها الخاصة باستهداف المعارضين. أثار ذلك قلقاً عالمياً من أن تزداد رقعة الصراع. في الواقع فإنه، ولولا أن البلدين، اللذين لا تنقصهما التوترات الأمنية والسياسية، تحليا بالحكمة وسارعا لاحتواء الأزمة بالطرق الدبلوماسية، لكانت الأمور، قد انزلقت لما لا يحمد عقباه. أما التطور الثاني فكان في الثامن والعشرين من يناير/كانون الثاني، حينما استهدفت ميليشيا عراقية موالية لإيران، بطائرة مسيرة موقع (برج 22 ) العسكري الأمريكي، الذي يقع في الأردن قرب الحدود السورية، وهو موقع تبرز أهميته في كونه برجاً مهماً للتحكم في الطائرات المسيرة، ويمكن القول إن هذا التطور كان أخطر بكثير من الغارة على باكستان، ليس فقط لأنه أسقط بعض القتلى وعشرات من الجرحى، ولكن لأن أولئك الضحايا كانوا جنوداً أمريكيين. كان ذلك يعني أن تلك الحادثة تجاوزت ما يحب البعض أن يطلق عليه اسم «قواعد الاشتباك»، التي ظل الطرفان الأمريكي والإيراني، اللذان يملكان قوات على الأرض في سوريا والعراق، يحترمانها لسنوات. كانت هذه القواعد غير المكتوبة تمنع تنفيذ ضربات موجعة ومباشرة، سواء في الداخل الإيراني، أو عبر استهداف مواطنين أمريكيين.. وكان من المعروف أن مثل هذه الضربات خطير، لأنه يقود لنقل الصراع لمستوى أكثر خطورة وجدية. هذا كان يجعل الضربات المتبادلة أقرب للسلوك الرمزي والرسائل غير المباشرة، وإن أنتجت بعض الخسائر، أو أسقطت ضحايا من السكان المحليين. ولأن من السهل القول إن هذه الميليشيات تتصرف بشكل مستقل ولا تأخذ كل توجيهاتها من إيران، فإنه كان بإمكان الأخيرة التهرب من المسؤولية، وإن كانت شواهد الارتباط، التي أقلها أن المسيرة المهاجمة كانت إيرانية الصنع، أكبر من أن تنكر. لكن هذا ليس السبب الوحيد الذي كان يجعل توجيه ضربة عقابية غاضبة لإيران أمراً صعباً، بقدر ما أنه كان الخشية من الانزلاق التام في الفوضى وتعرض المصالح الأمريكية في المنطقة للخطر، خاصة مع امتلاك إيران لأذرع قادرة على الإحاطة بمنطقة ما تزال استراتيجية بالنسبة لواشنطن. الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية نهاية هذا العام، لا يبدو مستعداً لتحمل مسؤولية خطوة مهمة كهذه، بما يمكن أن تحمله من تهديد طويل المدى للأمن الأمريكي، في وقت تتوجه فيه أنظار الخبراء لروسيا وللصين، التي ستكون المستفيد الأكبر من الانشغال الأمريكي في «الشرق الأوسط».
الولايات المتحدة التي نعاصرها اليوم، دولة لا ترغب في أن تتورط عسكرياً، بأي شكل في أوحال المنطقة، التي خبرت تكلفة التدخل فيها، ولذلك فهي تعمل، خاصة في المسألة الإيرانية، على احتواء التصعيد
هذا التعامل «الحكيم» مع الأزمة، الذي اكتفى، بعد أيام من التردد، بضرب مواقع ثانوية الأهمية في العراق وسوريا، بزعم صلتها بإيران، يبدو غريباً إذا ما استحضر المرء السلوك الأمريكي أو ردود الأفعال على هجمات مماثلة. يخبرنا التاريخ الحديث أن الولايات المتحدة كانت تسعى دائماً للانتقام بشكل شديد القسوة، وبطريقة تظن أن بإمكانها عبرها أن تحافظ على كرامتها، وأن تحقق أقصى درجات الردع. أفضل مثال على الانتقام الأمريكي الأعمى هذا، هو ما ارتكبته القوة الأعظم في كل من العراق وأفغانستان. يظهر الارتباك الأمريكي الحالي، الاختلاف الكبير بين الماضي والحاضر، فالولايات المتحدة لم تعد تلك الدولة الشابة، التي لم تتردد في استخدام قنبلة نووية لإنهاء التحدي الياباني، أو حتى تلك التي قامت في عام 1988، بتنفيذ هجوم واسع على خلفية مهاجمة فرقاطة أمريكية بلغم إيراني. الولايات المتحدة التي نعاصرها اليوم هي دولة لا ترغب في أن تتورط عسكرياً، بأي شكل في أوحال المنطقة، التي خبرت تكلفة التدخل فيها، ولذلك فهي تعمل، خاصة في المسألة الإيرانية، على احتواء التصعيد، بحيث تبدو، على الرغم من كل الوقائع، محتفظة بالأمل في إنقاذ الاتفاق النووي، الذي يمكن، وفق المؤمنين به، أن يحقق بعض الأمن الإقليمي، ولو لفترة محدودة. كان لهذا التأني والتردد ثمن بلا شك، فكما أن للتصعيد والتورط في صراع عسكري مباشر أضرارا ومخاطر، فإن لظهور الدولة الأهم بمظهر العاجز، الذي يخشى مواجهة دولة بقوة متوسطة، ولا يستطيع دفع الضرر عن نفسه، ظلالا سلبية على مكانة هذه الدولة واحترامها. استمرار التهديدات الحوثية لملاحة البحر الأحمر يعني أن الضربة السابقة والضربات اللاحقة لم تنجح في تحقيق الردع المطلوب، أو في تدمير البنية المسلحة، كما كان يشاع. هنا يتساءل خبراء عما إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع بالفعل الوفاء بالتزاماتها الأمنية حول مناطق أخرى متعرضة للتهديد الإيراني، كالخليج العربي أو مضيق هرمز. لكل هذا ظلال سلبية على المواجهة الانتخابية الأمريكية المقبلة، التي يجد فيها جو بايدن نفسه في وضع لا يحسد عليه، بسبب وجود دونالد ترامب، الذي لا يفوت فرصة، من دون التهكم بفشل بايدن، ولكن أيضاً بسبب ما تعانيه بلاده من عزلة دولية بسبب موقفها من العدوان الإسرائيلي. روسيا، التي لا تضيع الفرصة، بادرت لدعوة مجلس الأمن للانعقاد لمناقشة الغارات الأمريكية على العراق وسوريا. ضاعف كل ذلك من أزمة الحكومة الأمريكية، التي لم تعد تستطيع كتم ضيقها من سلطة الاحتلال، التي أنهت بسبب همجيتها وإفراطها في استخدام العنف، فترة هدوء أمني كان بايدن يتمنى أن تستمر، على الأقل، حتى موعد الانتخابات.
في ظل هذه الفوضى يصبح هدف إحياء الاتفاق النووي بعيد المنال، وهي حقيقة ترسخت منذ الفشل، الذي حظيت به الاجتماعات، التي اختتمت في فيينا في بداية عام 2022 من دون تحقيق نتائج. من المهم التذكير هنا بتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي كانت حذرت منذ حوالي عامين من اقتراب إيران من الوصول إلى القنبلة النووية قائلة، إن إيران أنتجت كمية كبيرة من اليورانيوم المخصب بنسب لا يمكن أن تكون محصورة في الاستخدام السلمي. ليست الولايات المتحدة وحدها التي تبدو غير مستعدة للتصعيد، ولكن إيران، التي تبادر لإنكار أي علاقة لها بالهجمات في المنطقة، بما في ذلك عمليات المقاومة الفلسطينية، هي أيضاً غير مستعدة للدخول في مواجهة مباشرة. إذا كانت الولايات المتحدة تواجه تحدي الانتخابات، فإيران تواجه أزمات مختلفة في الداخل بعضها بسبب العقوبات الاقتصادية، وبعضها بسبب التململ الداخلي وتوسع حراك المعارضة، التي اشتعلت جذوتها منذ مقتل الفتاة مهسا أميني.
كاتب سوداني