تحدّث فرانز فانون عن ذلك التّوتر الشّديد، الذي يصيب ذوي البشرة السّوداء عندما يعيشون في الغرب الأبيض، فقال إنهم يعانون ازدواجية وقلقاً مستديمين من الطريقة التي ينظر بها الآخرون إليهم، لدرجة أن حياتهم تتحول إلى نوع من تظاهر مستمر وتزييف متتابع ينهكهم، ويستهلك أعمارهم!
فانون بالطبع رحل عن عالمنا قبل أن ينجح الأمريكيّون وعبر تكنولوجيا الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في تعميم تجربة العيش البائسة، التي كان وصفها لتصبح في وقتنا الرّاهن الشكل الجديد لحياة مليارات البشر في ظل «رأسماليّة المراقبة».
في عصر «المراقبة» الجديد والمعولم هذا لا يقتصر الأمر على مجرّد إدارة واجهاتنا الافتراضية أمام جمهورنا المباشر واستعارتنا لأقنعة متتالية نظنّها مناسبة لتمثيلنا أمامه، علّنا نحظى برّضى الآخرين وقبولهم، بل نحن مكشوفون بالكامل أمام خوارزميّات ذكاء اصطناعيّ هائلة تبنى عنّا في غفلتنا، ومن تقاطع مصادر معلومات إليكترونيّة عديدة، سجلات تتضخم لحظياً عن كل فرد منّا، ومن ثمّ تقوم بتمييزنا بمئات الآلاف من النقاط المرجعيّة، التي تسمح بتصنيفنا، وفق أي صيغة يريدها مشغلو تلك الخوارزميّات، والذين يسعدهم بيع تلك المعلومات لكل قادر على دفع الثّمن المناسب، ناهيك عن توفيرها لمنظمات المراقبة الحكوميّة.
هذا بالطبع ليس خيالاً علمياً في فيلم سينمائي. إذ بمجرد أن تحمِّل على أحد مواقع التواصل الاجتماعي شريط فيديو قصيراً، وأنت تغني مثلاً أثناء قيادتك السيّارة، فإنك تغذّي عدة مصائد للمعلومات قد تستخدم في وقت ما ضدّك بطريقة لا تتوقعها، وربما لن تدركها أبداً – قواعد بيانات شركات التأمين على السيّارات، والتي قد تعكسها بشكل غير مباشر على سعر بوليصتك التأمينيّة، سواء لناحية المخاطرات التي ترتكبها، أو جغرافيّة تنقلاتك وربّما حتى السرعة التي تقود بها، وهكذا.
وإذا ظهر وجهك (ووجوه أصدقائك إن كانوا معك حينها)، فإن مرجعيات معلوماتيّة كثيرة ستتجمع حول علاقاتك الاجتماعية وعاداتك وطبقتك وعرقك وجنسك ومكانتك الاقتصادية ولغتك ولهجتك، والأماكن التي تذهب إليها ونوعيّة الموسيقى التي تستمع إليها، وسترفد أيضاً قواعد البيانات تلك عن أصدقائك أيضاً، وتلك كلّها يمكن أن تكون كنزاً من المعلومات للشركات التجاريّة أقّله لتسهّيل استهدافك بالإعلانات.
«الاختراق العظيم»، هكذا تصنع الدّيمقراطيّة الحديثة
الفيلم الوثائقيّ، الذي تعرضه شبكة «نتفليكس» منذ نهاية الشهر الماضي تحت عنوان «ذا جرايت هاك»، أي «الاختراق العظيم»، تذكير محرج للجميع أن المعلومات التي تجمعها تلك الشركات الأمريكيّة الكبرى كلما سجلنا إعجابنا بتغريدة هنا، أو حمّلنا صورة لنا هناك، أو استعملنا الكمبيوتر للبحث عن معلومة أو اعتمدنا على تطبيق اتصالات معاصر للتواصل مع أصدقائنا أو استخدمنا بطاقاتنا البنكيّة لشراء فنجان من القهوة أو لطلب كتاب ما من متجر أمازون على الإنترنت يمكن أن تستخدم أيضاً لأبعد من الأغراض التجاريّة، بل ولتصنيفنا سياسياً، ومن ثم بيع تلك التصنيفات خدمة لأهداف جهات قد توّظفها للتأثير على وعينا بطرق مختلفة، وفي النتيجة الحتميّة على سلوكنا السياسي والانتخابيّ.
الوثائقيّ، الذي صنعه المصريّان كريم عامر وزوجته جيهان نجيم، عن فضيحة شركة «كامبريدج أناليتيكا» يقدّم نموذجاً فاقعاً لتلك الممارسة، التي قد تكون أسهمت في تحقيق اختراقات انتخابيّة عاصفة، كما التصويت الاستفتاء الشعبيّ في بريطانيا على العلاقة مع الاتحاد الأوروبيّ (بريكست، 2016)، وكذلك انتخاب الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب (2016 أيضاً).
«كامبريدج أناليتيكا» صارت منذ بعض الوقت علماً على ثمّة شيء فاسد – لا يفهم ماهيّته الكثيرون – لكنّه يتعلّق بالمعلومات المُتوفرة عن مجموعاتٍ مختارة من مستخدمي تطبيق الفيسبوك، تم توظيفها بشكل أو آخر من قبل جهات سياسيّة معينة للتأثير على النتائج الانتخابية في غير ما نظام (ديمقراطيّ) من بريطانيا، مروراً بإيطاليا، والعديد من دول العالم الثالث، وانتهاء بدولة العالم الأعظم: الولايات المتحدة الأمريكيّة.
مستخدمو فيسبوك: الدّجاجة التي تبيض ذهباً
الشركة البريطانيّة – الأمريكيّة الخاصّة، والتي بقيت شبه مجهولة للعموم طوال أكثر من عشرين عاما قبل أن تصبح تحت الأضواء تقدّم مجموعة خدمات – مكلفة – للجهات التي تسعى للتأثير على السّلوك السياسي وقناعات مجموعات معينة من المواطنين، وأحدها هو الانتفاع بالمعلومات التي توفرها مواقع التواصل الاجتماعي – مقابل ثمن بالطبع – لبناء حملات خداع مفصّلة تستهدف تلك المجموعات.
وحسب ما نشرته صحف «الغارديان» البريطانية و«نيويورك تايمز» الأمريكية – بناء على تسريبات من بعض موظفي الشركة، الذين قرروا فضح المستور – فإن أناليتيكا طوّرت ووضعت حيّز الاستخدام في خدمة زبائن أثرياء خوارزميّات متقدمّة لتحليل معلومات تمّ الحصول عليها من تطبيق «فيسبوك» عن جمهور المقترعين على «بريكست»، وفق عدّة نقاط تنميطية مختارة، ومن ثم تحديد مجموعة من هؤلاء المقترعين المحتملين بوصفها هدفاً لحملة بروباغاندا مكثفّة مدفوعة الثّمن (لفيسبوك أيضاً) عبر سلسلة مواد تبدو بريئة ظاهراً، تتارى على الصفحات الشخصيّة لكل منهم في الموقع الأزرق، لتكوين رأيهم حول مسألة خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبيّ (بريكست) بغرض دفعهم – وفق أجندة الزّبون – للتصويت في الاستفتاء الشعبي على ذلك. وقد تسببت تلك الفضيحة بانكشاف حقيقة أن أناليتيكا باعت أيضاً خدماتها لحملة دونالد ترامب الانتخابية في سباق الرئاسة الأمريكيّة، وأن التقنيّات ذاتها وظّفت للتأثير على مجموعة (صغيرة نسبياً) من النّاخبين الأمريكيين في عدد من الولايات المتأرجحة، لكنّها كانت كافية لحسم النتيجة الكليّة لمصلحة الرّجل البرتقاليّ.
سيكون هناك دائماً ثمة كامبريدج أناليتيكا في مكان ما
حكاية أناليتيكا تمّت لفلفتها على عجل، فأعلنت الشّركة سريعاً عن إفلاسها وحلّ نفسها بفرعيها على جانبي الأطلسي (لندن ونيويورك)، وأتلفت جبالاً من الوثائق الورقيّة والإلكترونيّة التي يمكن أن تدينها، ولم تعد على قيد الحياة. وقد اكتفت السّلطات في البلدين بتحويل مدير الشّركة التنفيذي، وبعضاً من طاقمها (بمن فيهم المنشقون) إلى لجان برلمانيّة – غير مؤهلة تقنياً – للتحقيق معهم.
كما استدعى الكونغرس الأمريكيّ رئيس فيسبوك للإجابة على أسئلة تتعلق بطبيعة تعامل شركته مع أناليتيكا، وانتهى لاحقاً إلى فرض غرامة ماليّة بالمليارات (ذات تأثير محدود على وضع فيسبوك الماليّ) ودون اتخاذ أيّة إجراءات تشريعيّة حاسمة. بشأن حماية خصوصيّة المستخدمين السّادرين في سذاجتهم.
لا يضيف «الاختراق العظيم» شيئا جديدا عمّا نُشر في الصحف، ولا يفسّر للمشاهد المهتّم تفاصيل إضافيّة عن كيفيّة استخدام المعلومات التي يتطوع مستخدمو فيسبوك بتقديمها دون مقابل، واشتكى البعض أدلوا بشهادات عدم اكتمال الطرح بل، وتوقفه عند الحدود الحمر، التي تسمح بها رقابة نيتفليكس الذاتيّة، لكنّه مع ذلك، ينجح في تحويل قضيّة معقدّة حول شبكة علاقات مشبوهة لا تزال مؤامرتها طازجة إلى سرديّة بصريّة مشوّقة – نوعاً ما – يمكن لغير المتخصصين متابعتها.
المسألة – كما يقول جوليان وييتلاند مدير عمليات كامبريدج أناليتيكا – «لا تتعلق بشركة واحدة، بقدر ما هي حالة عامة لوضع التكنولوجيا المعاصرة، التي لم يعد يمكن احتواؤها»، مضيفاً بمرارة المُدرك لحجم ما يجري وراء الحجاب «ربما نحن كنا غير محظوظين في كامبريدج أناليتيكا. لكن دائماً سيكون هناك ثمّة كامبريدج أناليتيكا في مكان ما». لقد كانت بالفعل مجرد جزء صغير ظاهر من جبل جليد رأسماليّة المراقبة الهائل الذي يرانا ولا نراه!
٭ إعلامية وكاتبة لبنانية بريطانية – لندن
*أخت ندى حياك الله والجميع.
لو سمحت ممكن تبسطي مقالاتك
المقال أعلاه أشبه بمحاضرة بليغة
لطلاب الجامعة ما بعد البكالوريس..؟
*كذلك يا ريت تنوعي ف المقالات
وتشمل مجالات أخرى غير (الوثائقيات)
يعطيك الله الصحة والعافية..
الحقيقة يجب ان ندير ظهورنا للثقافة الاستهلاكية.. ان نترك السلع الراسمالية تبور.. مكيفاتهم سياراتهم علاجاتهم الشيطانية و فيسبوكهم و كومبيوتراتهم لتذهب ثقافة الاستهلاك الئ الجحيم.. لهم دنياهم و لنا اخرتنا