وثيقة الصومام هي الأرضية السياسية والأيديولوجية التي صاغها المؤتمر الذي عقد سرا في منطقة واد الصومام (بلاد القبائل) يوم 20 أغسطس 1956. وثيقة تنتمي إلى تاريخ الثورة التحريرية الجزائرية، بعد سنتين من اندلاعها، وترسم استراتيجية كفاح نوعي لا يتم على الصعيد المحلي فحسب، بل يندرج في صلب التاريخ العالم المعاصر برمته، فالوثيقة تقرأ على هذا الأساس في سياق وسيرورة تحرير المجتمع الجزائري من نير وأسر الاستعمار، وتساهم في بلورة الخطاب المناهض للاستعمار في العالم.
تمثل وثيقة الصومام، مادة أولية لكتابة ليس تاريخ الثورة فحسب، بل لكتابة تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر أيضا، وتُعْتَمد كجزء من رصيد الوثائق الأيديولوجية والسياسية، التي استندت إليها عملية بناء الدولة الجزائرية المعاصرة، فالوثيقة كونها مادة أولية للمعالجة والبحث التاريخي، قابلة لقراءة تساعد على اشتقاق المعاني واستخلاص النتائج، فضلا عن التحليل التاريخي والنقد العلمي، فالتاريخ هو التَّعرف على الأثر الذي نطلق عليه الوثائق التي تدرس وفق المناهج والمقاربات والطرق التي وفَّرها علم التاريخ وعلوم الإنسان والمجتمع، في آخر تطوراتها.
من المفاهيم وأفكار الثقافة الفرنسية، تمت صياغة أرضية الصومام لأنها تتوجه إلى سلطة استعمارية دخلت مأزقا تاريخيا لم تعد تعرف كيف تخرج منه
وثيقة الصومام، هي من نوع الوثائق التي أعدَّت عن وعي لكتابة تاريخ الجزائر، فقد أصرّ الذين صاغوا أرضية الصومام كفاعلين وناشطين في الثورة التحررية، على عقد اجتماع يضفي الشرعية، أو نوعا من الشرعية، على ما ورد في نص الأرضية، واعتمادها مرجعا أيديولوجيا وسياسيا للثورة لاحقا. ومن هنا قولنا، إن أرضية الصومام هي من الوثائق التي تؤسس لبناء مشروع الدولة الجزائرية، وتحديد ملامح الأمة في آخر تعريفاتها. فالوثيقة تتمتع بخطاب واضح يكشف الاستعمار كحالة غير عادية في حياة الشعوب والأمم في التاريخ المعاصر، كما يكشف بيان الوثيقة حق الشعب الجزائري في الحرية والكرامة والاستقلال، كما يجري ذلك في سائر بقاع العالم. ولمنح القيمة التاريخية والموضوعية للوثيقة يجب على الباحث أن يعاين ما صاحب التفكير في مضمون أرضية الصومام، وما سُجّل حولها من تجاوب وتحفظ وحتى من رفض ونقد، وما يمكن أن تحيل إليه الوثيقة من خطاب أيديولوجي وسياسي سابق، حتى يضعها في مسار الفكر المناهض للاستعمار، ومن ثم يخلع عليها شرعية مطلب الاستقلال والقدرة على تحقيقه. وغني عن البيان أن دراسة الوثيقة، خاصة عند الزيارة الجديدة لتاريخ الثورة، تحتاج إلى شهادات المناضلين الجزائريين إلى ما بعد الثورة، وما بعد الاستقلال، من الذين كانت له صلة بالأرضية أو سمعوا عنها وكانت لهم آراء ومواقف حولها. وكل هذا يساعد على دحض الأساطير التي يمكن أن تكون قد حامت حول مؤتمر الصومام وأرضيته، وما يمكن أن تكون الوثيقة قد تسترت عليه. وبتعبير بيّن، توضيح الغموض الذي انتاب التحضير للمؤتمر، وما رافق فقرات الأرضية من لبس وعدم اتفاق، وما فاتها من أفكار وملاحظات وجوانب أخرى. عَقْد الاجتماع والإلحاح عليه، رغم الوضع الحربي والنشاط السّري، الذي حفَّ مسار الثورة، يُعَبِّر عن التماس الشرعية، من أجل حيازة الرأي الجماعي حول المرجع الأيديولوجي الذي يحدد مستقبل الجزائر كأمة وشعب ووطن. فالإجماع آلية لمعرفة مدى تَقَدُّم الوعي بفكرة الاستقلال، ومعاينة الإمكانيات ووسائل تحقيقها في ظل الظروف والمقتضيات الدولية، لما بعد الحرب العالمية الثانية ووجود هيئة الأمم المتحدة: مبدأ تقرير المصير. سياسة تصفية الاستعمار، حقوق الإنسان والشعوب والأمم، السعي إلى حيازة العضوية في الأمم المتحدة.. وموقف الإدارة الاستعمارية الفرنسية وسياستها حيال الوضع في الجزائر وتطوره على السياسة الفرنسية الداخلية.
كتابة نص الأرضية باللغة الفرنسية ينم في حقيقة الأمر على مستوى مواز لما ينطوي عليه الفكر السياسي في مفرداته ومصطلحاته من معانٍ ودلالات، فمن وحي القاموس السياسي الحديث، ومن المفاهيم وأفكار الثقافة الفرنسية، تمت صياغة أرضية الصومام لأنها تتوجه إلى سلطة استعمارية دخلت مأزقا تاريخيا لم تعد تعرف كيف تخرج منه، الأمر الذي تطلب إضافة العمل الثوري المسلح. ومن هنا يكون بيان الصومام هو الخطاب المرآة الذي ساعد السلطة الاستعمارية والدولة الفرنسية على النظر إلى حقيقة ما يجري في رأي الآخر الجزائري. وقد كانت اللغة الفرنسية أفضل وسيلة لفهم خطاب الحركة الثورية والتفاهم مع القادة الجزائريين لاحقا، ومن وحي هذه اللغة أيضا تم شجب العودة إلى أنظمة حكم متهالكة مثل المَلًكية، الإقطاعية والثيوقراطية. تندرج وثيقة الصومام في مسار توكيد النزعة الوطنية لدى المناضلين الجزائريين، والسعي إلى تعميمها على قطاع واسع من الشعب، لتقوم حالة من امتلاك الدليل القوي على أحقيته في وطن مستقل يتماهى معه. كما أنه من ناحية أخرى، جَمْع الوثائق التي تؤكد حقيقة الوطن ودراستها يَمْنح شهادة قوية على إمكانية كتابة التاريخ الخاص للأمة، لأن الباحث يتعامل مع الوثائق وهي في الأرشيف، ويبحث في أصولها ومصادرها وفي مكانتها ضمن الخطاب العام الذي أنتجها. فللباحث المؤرخ دوره أيضا في صناعة التاريخ وتوكيد حقائقه، مثل إرساء قواعد الدولة الجزائرية، كما وردت في وثيقة الصومام. أرضية الصومام مرجع أيديولوجي لأنها عرضت مآثر النضال الوطني وما يقوم به جيش التحرير الوطني، وأحالت إلى نوعية الكفاح الذي اضطلع به المناضلون في مجال السياسة والإعلام والدبلوماسية والدعاية، لفائدة القضية الوطنية، إن على الصعيد الداخلي أو الخارجي. فقد تضمنت الوثيقة خطابا تمجيديا للعناصر المكافحة والمحاربة للاستعمار، وعدالة قضية الشعب الجزائري، “الحقيقة التي لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد هي أن جيش التحرير الوطني قد غير تماما الجو السياسي في الجزائر، وسمح للشعب الجزائري أن يمتلك وعيا جديدا للكرامة الوطنية”. كما يظهر أيضا الجانب الأيديولوجي في طريقة الرد ودحض مزاعم الإدارة الفرنسية على ما يجري في البلد منذ نوفمبر 1954، فقد انطوت الوثيقة على سِجال ومَعَارك سياسية وإعلامية، كما وجهت أرضية الصومام نقدا شديدا إلى المتخاذلين والقوى الإصلاحية ومن بقوا على مواقفهم المترددة. القراءة المتمَعِّنة لوثيقة الصومام تفصح عن فكرة مركزية وهي السيادة، سواء في تطلع الجزائريين إلى إدارة أنفسهم بأنفسهم، أو في وجود وحدة نفسية سياسية للشعب صارت حقيقة موضوعية، لا يمكن الافتئات عليها. العمل على إحلال إدارة جزائرية موازية للإدارة الفرنسية، تنظم حياة الجزائريين اليومية لتؤكد تعلقهم بالقانون والنظام والوضع العادي. كما تظهر الوثيقة إشكالية السيادة في توضيح الإطار والصيغة السياسية والمؤسساتية، التي يتم فيها الإعراب عن الإرادة العامة والضمير الجمعي، مثل تنظيم بلدان شمال افريقيا، الإطار الذي طالما حرصت عليه الحركة الوطنية الجزائرية منذ تأسيس نجم شمال افريقيا 1926.
*كاتب وأكاديمي جزائري