وجه التاريخ

قرأت مؤخرا تقريرا يسمي كتابا معينين، ويقول بأن أعمالهم التي أبدعوها، غيّرت وجه التاريخ، وكان من بين أولئك الكتاب، وليام شكسبير، وأوسكار وايلد، وجيمس جويس، وجورج أورويل، وأرنست همنغواي، وسيمون دي بوفوار، وبالطبع غابرييل غارسيا ماركيز، الذي لا بد أن يذكر في أي تقرير عن الكتابة، ولا بد أن تصادف اسمه في أي منعطف خاص بها.
التقرير تحدث باقتضاب شديد عن أعمال بعض هؤلاء الكتاب، وذكر أشهرها مثل «الصخب والعنف» لفوكنر، و«1984» لأورويل، و«ناس من دبلن» لجويس، و«الخيميائي» لباولو كويلهو، و«مئة عام من العزلة» لماركيز، لكنه لم يقل كيف غيرت تلك الأعمال وجه التاريخ، والمعروف حين يذكر هذا التعبير، لا بد أن يذكر أي ملمح قد تغير في ذلك الوجه؟ وأي زلزال حدث، وانحرف به المسار العادي للتاريخ، وقد كانت المسيحية، زلزالا حدث قديما وتغير به نسق الحياة الوثنية، ثم جاء الإسلام بكل ما يحمله من إشعاعات، بعد ذلك، وتغير التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تماما.
وفي أيامنا هذه، وحين نتحدث عن تغيير وجه التاريخ، سنتحدث عن أحداث معينة جرت وتغير بها ذلك الوجه، لن أقول ابتسم أو كشر أو ضاعت ملامحه، ولكن أقول تغير فقط، ونعرف كلنا ثورات الربيع العربي وما حدث فيها من شطب لكثير من الديكتاتوريات بأقلام شعوبها، ومحاولات بناء دول جديدة، وحيوات جديدة، وإن كان ذلك يستغرق زمنا طويلا، وربما تعيش الرخاء أجيال أخرى قادمة، ولا يعيشها الجيل الحالي، الذي هز العروش الظالمة وما زال يهز تلك التي تقاوم.

لو تحدثنا مثلا عن واحد مثل البرازيلي باولو كويلهو وروايته البسيطة «الخيميائي»، التي أشتهرت بشدة، سنجد تأثيرها الأكثر لدى القارئ، الذي قد يكون أحسها روايته الخاصة.

الكتابة والتدوين، جزء من إرث الشعوب، وجزء من نشاطها الطبيعي الذي تنشط به، ولولا أن الشعوب كانت تدون أحداثها، وتصف أدق التفاصيل اليومية للحياة، لما وصلنا شيء من تلك الحيوات القديمة، هذا مؤكد ولو تحدثنا عن الكتابة الإبداعية في هذا الصدد وهي جنس قديم من نشاط الكتابة، لكنه تطور بالتأكيد في زمننا الحاضر، واختلفت مواضيعه، وأفكاره، وطرقه، ربما نجد كتبا معينة تغير عند نشرها ملمح من ملامح التاريخ، خاصة كتب الخيال العلمي، وهو نوع من الأدب، يقرأ مستقبلا متخيلا، تحدث فيه اكتشافات معينة، يستفيد منها الإنسان، وهذا لا يكتب عبثا وبلا أي دراية كما يتوقع البعض، وإنما نتيجة قراءات جادة للحاضر، والمشي بالخيال خطوات إلى المستقبل، وزرع علامات يستدل بها باحث علمي لاختراع شيء، أو وضع خيط يمسك به مخترع، ويكمل المسير، وحقيقة لا أتذكر أي كتب شكلت نواة لاكتشافات حدثت، وغيرت وجه التاريخ، وإنما أتذكر إن ذلك حدث.
الذين يتحدثون عن رواية أورويل «1984» التنبؤية، بوصفها من التجارب الأولى التي قفزت إلى المستقبل، وأنها غيرت شيئا، نقول، نعم هي ديستوبيا مهمة، ومن التجارب الناجحة في قراءة مستقبل الإنسان، لكن لم يتغير بموجبها شيء، حين وصلنا إلى عام 1984، هناك أشياء في الرواية حدثت فعلا، لكن لا شيء أضيف لوجه التاريخ، لا ابتسامة ولا تكشيرة، ولا غير ذلك.
السؤال هنا، هل من واجب الأدب أن يسعى لتغيير وجه التاريخ؟
طبعا لا، والحقيقة لا قدرة أصلا للأدب على تغيير ذلك الوجه، وباستثناء نماذج قليلة تغير أشياء قليلة كما قلت، فإن الأدب يظل سائرا خلف التاريخ، يدون أفعاله، ويستوحي منها للأزمنة المقبلة ومعروف نزوحنا هذه الأيام للتاريخ بكثرة، من أجل الحديث عن الزمن الحاضر، وهذا أمر مشروع بلا شك، والرواية التاريخية لم تعد جديدة ولا رواية طفلة، بل نضجت كثيرا، ونقرأ في كل يوم إبداعات عظيمة فيها.
بالعودة لأعمال أولئك العظماء الذين ذكرهم تقرير وجه التاريخ، سنقول بدلا من تغيير الوجه، إحداث تأثير داخل الوسط الإبداعي نفسه، بما جاءت به من أفكار، ربما لم تكن مستخدمة، أو كانت مستخدمة على استحياء، أيضا الأسلوب الذي جاءت به ولم يكن متعارفا عليه، وتفاعلها مع القارئ، الذي أحس بها قريبة منه، وأشياء كثيرة داخل المغزى الإبداعي.
ولو تحدثنا مثلا عن واحد مثل البرازيلي باولو كويلهو وروايته البسيطة «الخيميائي»، التي أشتهرت بشدة، سنجد تأثيرها الأكثر لدى القارئ، الذي قد يكون أحسها روايته الخاصة، ذلك الراعي البسيط الذي كأنه خرج من حلم، وعشقه للكتب، وتنقله، وأشياء قد نحسها غير مهمة، وفقط القارئ أحس بأهميتها وتذوقها على هذا الأساس.
نموذج آخر رواية «اسم الوردة» للإيطالي أمبرتو إيكو، إنها نموذج مهم على صعيد القراءة والنقد، وهي قصة عن الرهبان وأديرتهم وما يحدث هناك من هلع يسير جنبا إلى جنب مع السكينة المفترضة، لقد رصدت الرواية إذن شيئا من الممنوعات التي لا تجوز الكتابة فيها، ونقول إن إيكو أحدث بهذه الرواية تأثيرا حقيقيا، لكنه لم يغير ملمحا من ملامح التاريخ، لأن ملامح التاريخ كما قلت، تتلقى الإبداع وهي جامدة، ولأن الإبداع يتبع التاريخ غالبا، ولا يسبقه.
نأتي إلى «مئة عام من العزلة» لماركيز، وهذه في رأيي الشخصي، العمل الإبداعي الأهم في العصر الحديث، ولمعت بوجودها مدرسة الواقعية السحرية اللاتينية، وكانت موجودة طبعا لدى ماركيز وغيره من كتاب تلك الفترة، وفقط رواية ماركيز أظهرتها للناس. «مئة عام من العزلة» كان تأثيرها أبرز ذلك أنها أثرت في القراء طبعا، وفي الكتاب أيضا، وأشبهها بالفتيل الذي أشعل شرارة الخيال لدى الكتاب، لينطلقوا محلقين فيه. كانت ألف ليلة وليلة موجودة لدينا، وفيها من الخيال ما يفوق الوصف، لتأتي شعوب أخرى وتستفيد منها، وتنتج هذه السحرية العظيمة.
أخلص إلى أن وجه التاريخ يظل ثابتا، ويتفاعل فقط مع الأحداث، وحتى في الأحداث، تلك الكبرى مثل الثورات الشعبية، والاكتشافات الحديثة، التي تسمى أيضا ثورات، لأن مصطلح ثورة يطلق على كل ما يمحو الماضي، وينظر إلى المستقبل، وبديهي أن الإنترنت التي نتخاطب عبرها الآن، ونقضي بها كل شؤوننا الحياتية، كانت اكتشافا مذهلا، تغير به وجه التاريخ تماما.

٭ كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بادر سيف:

    لا تكن قاسيا استاد امير..الادب ملحة سحرية تضيف الكثير للبشرية..فالرواية تسجل ما يهمله التاريخ، فكيف تتبع التاريخ او نقول انها تلقت فتتاته و الشعرية العربية حملت اينا الكثير من الاحداث التاريخية كروائع زهير بن ابي سلمى و حرب داحس و الغبراء …لا ننسى ايضا الادب الاستعجالي – حتى و ان كنت لا احبد هدا الصنف – الا انه ملهم و مفيد و يسجل الحدث بفن و يساير الحركةالبشرية صانعة التاريخ //لقد غير ادب نجيب محفوظ الكثير و انتج ثورة عارمة ..لقد سجل الطيب صالح تاريخ القهر العربي بهجرته الى الشمال /// استاد امير انك صاحب قلم ساحر و رائع لا ريب فنحن ننتظر منك الكثير و لما لا تتغيير على الاقل نظرتنا الى الحياة

  2. يقول حي يقظان:

    بعض الملاحظات النقدية على السريع:
    أولاً، العلاقة بين الأدب والتاريخ ليست علاقة تابع ومتبوع، على الترتيب، إذ ليس هناك في تاريخ الأدب كله من يسلِّم بهذه العلاقةِ تسليمًا جادًّا، البتة). على خلاف ذلك، العلاقة بين الأدب والتاريخ إنما هي علاقة مؤثِّر ومتأثِّر، على الترتيب، أيضًا. وهذا التأثير قد يسري سريانًا مباشرًا في أحيانٍ خاصةٍ جدًّا، ولكنه، دونما ريبٍ، يسري سريانًا غيرَ مباشرٍ في أغلب الأحايين، والأمثلة على ذلك لا تُعدُّ ولا تُحصى. حتى في حال اعتبار الأدب (شعرًا كان أم مسرحًا أم سردًا) بمثابة «محاكاة» في إطار مفهومها الإغريقي التقليدي، فإنه محاكاةٌ فعليَّةٌ للواقع (في الزمن الحاضر) محاكاةً حرفيةً أو مجازيةً من أجل إحداث ذلك التأثير (في الزمن المستقبل).
    [يتبع]

  3. يقول حي يقظان:

    بعض الملاحظات النقدية على السريع:
    [تتمة]
    ثانيًا، في الكلام على تأثير الأدب غير المباشر في التاريخ، على وجه التحديد، تحصلُ أشياءُ متشابكةٌ أيَّما تشابكٍ ومعقَّدةٌ أيَّما تعقيدٍ يمكن التعبيرُ عنها باختصار شديدٍ، هكذا: الأدب بوصفه كتابةً إبداعيةً يؤثرُ في النفس البشرية التي تستجيب لهذا الإبداع، سواءً كان هذا التأثير إيجابيًّا أم سلبيًّا. والنفسُ البشريةُ المتأثِّرةُ، بدورها هي الأخرى، تتغيرُ نظرتُها إلى الذات (الإنسان) والموضوع (العالم)، على حدٍّ سواء، مما يؤدِّي إلى تغييرٍ في حركة تاريخ الأدب، ومن ثم في حركة التاريخ (البشري) الفعلي. حتى أن الكاتب نفسَهُ ناقض نفسَهُ، في هذا السياق، عندما أشار إلى استفادة الشعوب الأخرى من كتاب «ألف ليلة وليلة» وإلى إعادة إنتاج هذه السحرية العظيمة التي استطاعت أن تؤثِّرَ هذا التأثيرَ غيرَ المباشرِ بالمعنى الذي أعنيه.
    [يتبع]

  4. يقول سعيدة قطان:

    تحية إجلال واحترام للأخ الكريم حي يقظان : وشكرا كثيرا على هذه الكتابات النقدية التي تأتي دائما في محلها وتضع النقاط عَلى الحروف كما هو عهدنا بك ، وأنا متأكدة بأن كتاباتك النقدية الثاقبة ستغير وجه التاريخ بنفس المعنى الذي تعنيه ، مرة ثانية تحية إجلال واحترام

إشترك في قائمتنا البريدية