كلمة «الشعب» أو «الجماهير» بمفهومها البعثي أو الاشتراكي أو الشيوعي الماركسي كلمة رومانسية طوباوية جذابة للغاية تصلح للتجارة السياسية والايديولوجية بامتياز، وما زال سماسرة وتجار الأحزاب العقائدية المزعومة العفنة والبالية يتاجرون بها وبكل صفاقة ووقاحة حتى اليوم لأغراض لا علاقة بها للشعب لا من بعيد ولا من قريب. وقد استغلها الطواغيت والقومجيون واليسارجيون وتجار السياسة منذ زمن طويل، وخاصة في بلادنا العربية «الجماهيرجية» الوقحة، فهذا النظام يسمي برلمانه الكوميدي السخيف «مجلس الشعب»، وذاك يسمى عصابته السياسية «بيت الشعب». وثالث يتغنى بالجماهير زوراً وبهتاناً ويضحك عليها ويتلاعب بها كالقطعان مستفيداً طبعاً من أفكار غوستاف لوبون في كتابه الشهير «سيكولوجية الجماهير». ثم يذهب الطغاة تجار الشعارات القومجية واليسارجية والشعبوية أبعد من ذلك في متاجرتهم بالشعب ليسموا قصورهم المنيفة «قصر الشعب»، مع أن الشيء الوحيد الذي يربط الشعب بقصر هذا الطاغية العربي أو ذاك هو أن القصر مبني فعلاً بمال الشعب وعرق جبينه وتعبه وآلامه ومعاناته، أما الذي يسكن القصر ويستمتع بها فهو ذاك الذي يتاجر بمفهوم الشعب ويبيع ويشتري به. وقد أبدع الشاعر الكبير أحمد مطر عندما أنشد قائلاً: «كم تطوَّعتم لتحرير الجماهير بتحرير الصكوك. كم جعلتم شعبي المسحوق مسحوقاً لتجميل قباحات الملوك. كم أقمتم في بيوت الشعب باسم الشعب، والشعب بقعر السجن راقد، دمه من فوقكم، من تحتكم، من حولكم، بين أياديكم على المأساة شاهد. منذ أجيال وشعبي فوق سندان الحكومات وأنتم فوق شعبي مطرقة. منذ أجيال وأنتم تستريحون على أكتاف شعبي المرهقة. وتدورون بسوح المهرجانات سكارى كالكلاب الشبقة وتبولون عليه الكلمات الزلقة». وقد ذهب الأديب السوري الراحل محمد الماغوط أبعد من ذلك في سخريته من المتاجرة بالجماهير عندما قال: «عندما كنت أسمع بائع الجرائد ينادي الوطن بثلاث ليرات، الثورة بليرتين، العروبة بليرة وربع، والشعب بليرة كنت أظنه يقصد سعر الجرائد». ولو عاش الماغوط حتى الآن لربما أعطى للجريدة التي تسمى نفسها «جريدة الشعب» ثمناً أقل من ليرة بكثير، لأن الشعوب العربية أصبحت أرخص من ورق الجرائد بمرات ومرات.
كم كذبوا علينا وهم يتغنون بقوة الشعب زوراً وبهتاناً. كم كذبوا عندما قالوا: «إن هناك قوتين لا تقهران قوة، الله وقوة الشعب»، مع العلم أنهم لم يتركوا وسيلة قهر وقمع وتعذيب إلا واستخدموها لترويض الشعوب وسحقها وقهرها وتحويلها إلى قطعان مسلوبة الإرادة. لا نشكك بقوة الله طبعاً، لكننا نشكك ألف مرة بقوة الشعوب التي أصبحت بعد همروجة الربيع العربي هائمة على وجوهها بلا حول ولا قوة جائعة، مشردة، نازحة، تحولت إلى لاجئين في بلاد الله الواسعة وبالملايين. أين أنت يا كارل ماركس يا من تغنيت بقوة البروليتاريا الشعبية؟ لقد عزا ماركس كل التحولات التاريخية إلى حركة الشعوب، وقال ذات مرة: «لو لم يكن نابليون موجوداً، لصنع الشعب الفرنسي ألف نابليون آخر ليقوم بالمهام التي قام بها نابليون». لكن ماركس كان رومانسياً جداً في نظرته إلى قوة الشعب. أما المفكر والشاعر الأسكتلندي الكبير توماس كارلايل فقد كان أكثر دقة في تقييم الأمور، وكان يعزو حركة التاريخ إلى الأبطال الأفذاذ وليس إلى قوة القطيع. لقد قال مرات ومرات إن التاريخ يصنعه البطل الفرد وليس جموع الشعب الهائم على وجهه. ولو نظرنا اليوم إلى حال الشعوب العربية وحتى الغربية لوجدنا أن كارلايل كان محقاً جداً في توصيفه الرائع.
لم تجد الشعوب العربية نفسها في وضع مأساوي كارثي أسوأ من اليوم ولا يبدو هناك أي بصيص أمل
لماذا انهزمت الشعوب العربية شر هزيمة وانتصرت الأنظمة والحكام؟ شاهدوا وضع السوريين والعراقيين والليبيين والسودانيين والتونسيين والجزائريين واليمنيين واللبنانيين والمصريين والمغاربة وغيرهم الذين يفضلون الموت في عرض البحار وأن يتحولوا طعاماً للأسماك على البقاء في بلادهم. لم تجد الشعوب العربية نفسها في وضع مأساوي كارثي أسوأ من اليوم ولا يبدو هناك أي بصيص أمل، لأن العبرة ليست في الجموع وقوة الشعب الوهمية، بل في قوة الجماعات والطوائف والعقول الشريرة. انظروا كيف صنع ضباع العالم مثلاً من الأقليات والجماعات الصغيرة في المنطقة قوة ضاربة، بينما تحولت الأكثرية في المنطقة التي تشكل أكثر من ثمانين في المئة من الشعب إلى قوة هاربة. لاحظوا مدى التنكيل الذي يُمارس بحق السوريين واللبنانيين واليمنيين والعراقيين وغيرهم بطريقة منظمة. تجويع صارخ، وإفقار وتهجير وابتزاز يومي بلقمة الخبز والكهرباء وأبسط مستلزمات العيش، ولا ترى من المسحوقين سوى اللطم والنواح على مواقع التواصل الاجتماعي في أحسن الأحوال، وكثيرون يفضلون الموت جوعاً على وضع «لايك» على منشور معارض خوفاً من العقاب. لقد أصبح الهرب من الأوطان الحل الوحيد للشعوب. هل الحل فعلاً في الهجرة زرافات زرافات بالملايين وترك الأوطان المزعومة لثلة من اللصوص والقتلة والمجرمين الذين انتصروا على ملايين البشر بدعم من مشغليهم في الخارج؟
هل يا ترى أصبحت الشعوب أكثر قوة في عصر التواصل الاجتماعي وتحررها من ربقة الإعلام الموجه؟ هل صارت قادرة فعلاً على تنظيم صفوفها واستلام زمام المبادرة، أم إنها صارت عبيداً لشياطين السياسة والاقتصاد والإعلام؟ ألم تنجح الأنظمة في تحويل الشعوب إلى قطعان تنشد الخلاص الفردي بدل توحيد صفوفها لمواجهة المتلاعبين بها؟
ألا تلاحظون انحسار تأثير الشعوب والجماعات لصالح طغم وأفراد وعصابات محمية من الخارج ومغطاة منه ونصبها ضباع العالم كي تخدمهم وتعمل لصالحهم باسم مستعار ثوري ووطني وقومي وحتى إسلاموي، وهذا ما أصبح يعرف بالاستعمار البديل عبر استيلاد المستعمر المحلي الوكيل الذي بات يقوم مقام الاستعمار في القتل والسلب والنهب ومحاربة التنوير وفرملة الحداثة وتعطيل النمو وتهريب الثروات، وكلها أهداف استعمارية غدا الوكيل المحلي والدكتاتور الملهم والزعيم والقائد الخالد يقوم بها ويتولاها على عاتقه بوفاء وإخلاص يحسد عليه، وكله بوجه وقناع وطني مشبع بالشعارات الطنانة والرنانة وبوعود كاذبة بمستقبل تليد كانت تردده حناجر الجماهير الغبية كأناشيد الاجتماع الصباحي، ثم وجدت نفسها الآن مجرد فرائس وضحايا بلا حول ولا قوة على موائد اللئام.
ألم يحن الوقت لتغيير مكان بعض الحروف في كلمة «الشعب» لتصبح «العشب» الذي يموت أو يُسحق عندما تتعارك فوقه الفيلة كما يقول المثل الهندي؟
كاتب واعلامي سوري
[email protected]
ربما نسيت دور الخبث الإيراني وفائض المال الخليجي.
منذ حماقات صدام و القذافي صرت أؤمن أن الثورة إن لم يصاحبها تعليم و تمدرس مقبول يجعل الشعب يلتف حول قادة مثقفين،قويي الإرادة، مخلصين , لن يكتب لها إلا خراب الأوطانو هلاك السكان
كنت في مهمة إستاشرية سنة١٩٧٣ في الشيلي في عهد الرئيس صلفادور ألّيندي وكان ناشطو حزب مير اليساري يقولون لألّيندي ” الجماهير معنا” ويجيبهم الرئيس” ما هو الكم الكافي من الجماهير لإيقاف مدرعة؟ “
أستاذ فيصل نريد منكم ومن غيركم من الكتاب٬ دراسات ومقالات عن أدوار النخب والمعارضة والإعلام٬ في الكارثة التي تعيشها العديد من الشعوب العربية٬ لأن أدوار الحكام والقوى الخارجية أصبح معروفا والكل يتحدث عنه٬ حتى يخرج الدارس برؤية شاملة لعلها تنير له الدرب نحو غد أفضل.