وداعاً شيرين

جسد شيرين المسجى تحت الشجرة، خوذتها التي تخفي رأسها، كلمة Press تومض على ظهرها، زميلتها شذى المرتجفة بجانبها، كلما مدت يد باتجاه جسد شيرين المسجى تقتفي أثر حياة فيه، انهالت الطلقات باتجاهها.
امرأتان ترتديان سترة الصحافة، مطوقتان على رصيف يبعد أمتاراً قليلة عن زملائهما، رصيف ضيق في شارع بسيط بدا في اللحظة جزيرة نائية، قطعة رملية على المريخ، تلة جليدية تسبح في مياه القطب الجنوبي، أكثر بقعة في العالم عزلة ووحدة وبعداً.
امرأتان وشجرة وسور عتيق، خوذة ساكنة على الأرض المعشوشبة تخفي رأس إحداهن. ترى، هل الرأس كامل؟ هل يسبح في دماء ملأت الخوذة؟ امرأة قائمة وأخرى ممددة بجانبها، بينهما أقل من متر، إحداهما غير قادرة على الوصول للأخرى، الأولى لأن امتداد يدها يستدعي وابلاً من الرصاص، والأخرى لأنها لا تستطيع أن تمد يدها أصلاً، لأنها لم تعد تملك جسدها المنبسط على الأرض بأريحية، كأنه نبتة قديمة كانت هناك، كأنه جذر عميق ملتف بجذور الشجرة الرابضة خلفه.
صرخة رجل منكوب يصيح بكل وتر في حنجرته: «شيرين، شيرين، يا عمي شيرين، إسعاف… إسعاف، لا، لا، إسعاف، وِلَكْ شيرين، شيرين». لكن شيرين لا ترد، كأنها في لحظة صعدت للسماء، أو لربما تغلغلت في عمق الأرض، وقعت في حضن التراب وأصبحت جزءاً أبدياً من المشهد الطبيعي، كأنها دائماً كانت هناك، كأن السور دائماً كان يظللها، وكأن الشجرة كانت دائماً تعلو فوقها تحرسها. كل شيء طبيعي، شيرين والشجرة والسور والخوذة والدماء وشذى المرتجفة والصوت المتحشرج يستصرخ العالم «يا عمي شيرين».
هذا المشهد الأبدي هو كذلك أزلي، لم يتشكل قبل أيام، لربما تشكل حين بدأت الحياة على الأرض، مع أول كائن حي بزغ، مع أول ورقة عشب خضراء أطلت برأسها من بين الرمال، أو لربما حين بدأت الحياة في الكون، مع لحظة الانفجار العظيم. شيرين دوماً كانت هناك، دماؤها دوماً ملأت الخوذة، والشجرة دوماً دفنت جسدها دون غطاء، مكشوفاً للعالم، حتى يرى هذا العالم جبنه، وحتى تصبح هي فرعاً أخضر لهذه الشجرة، ينمو ويتمدد مع شجرته صوب السماء.
«شيرين، شيرين، إسعاف، إسعاف»، لكن شيرين ابنة القدس قررت أن تلتحم بشجرة جنين، أن تتغلغل في جذور أرضها لترسل رسالة لمن يعتقد أن فلسطين قابلة للتقسيم. شيرين لم ترد على صرخة الرجل المنكوب، ولا تسمع الآن بكاء العالم المتخاذل، ولا ترى القنوات الإخبارية المجيَّرة وهي تنقل فيديو لحظاتها الأخيرة، هذا الفيديو الذي يفتك الروح ويهرس القلب. شيرين هناك نائمة، دوماً نائمة، إلى الأبد نائمة، إلى ما بعد ملايين السنوات حين تأتي المجرة الموعودة لتصطدم بالأرض فتنهي الحياة بكل تفاصيلها وسخافاتها، على الرصيف أسفل الشجرة في ظل الحائط العتيق ستبقى نائمة. ستحدث زلازل، وستنفجر براكين، وستقوم حروب وستخفت حروب، وستتشكل دول وستنتهي دول، وسيسعد ناس ويحزن ناس، وسيحب المحبون وسيغضب الغاضببون، وسنموت كلنا وسيأتي غيرنا، وستبقى شيرين تحت الشجرة، في ظل الحائط الذي لم يكن في العالم العربي كله أشجع ولا أشرف منه ليظللها. ستبقى شيرين هناك، لقطة لا تنتهي، فيديو لا يتوقف، حقيقة لا يمكن نكرانها، عار لا يمكن مسحه، عزة وشرف لا يمكن نفيهما، ستبقى شيرين، الشيء ونقيضه، الموت والحياة، الشجرة بأوراقها وبجذورها، ستبقى شيرين حقيقة راسخة، وسنختفي كلنا مثل وهم في خيال مريض.
«يا عمي شيرين»، «خليك محلك ما تتحركيش»، «لا لا ما تجيش، ما تجيش»، «إسعاف… إسعاف»، جمل مبعثرة تخلق خلفية صوتية غريبة للمشهد، أنات وصرخات واستغاثات، وشيرين التي يتردد اسمها في الهواء، ساكنة في مكانها. صدقت شذى وهي تصرخ «ما تجيش»، وهي تخصص المكان لها ولشيرين، لا مكان لغيرهما هناك، هي ملتصقة بالحائط، وشيرين ممددة على الأرض، هذه البقعة من الأرض وقد امتلأت حد الثمالة بالصراخ والدماء والعشب وطين الأرض والخوذة، تلك الخوذة التي لسبب ما تبدو أكثر ما يؤلم في المشهد. خوذة، غريب هو لفظ خوذة، كما هو غريب لفظ شجرة وغريب لفظ سور وغريب لفظ امرأة وغريبة الكتابات غير المكتملة على الحائط وغريبة صرخة «خليك محلك ما تتحركيش»، كل المشهد سيريالي غريب.
محمد الدرة خلف ظهر أبيه، أطفال ملثمون يلقمون الدبابات الحجارة، أجساد تراكمت في صبرا وشاتيلا، نساء تحاول استعادة بيوتهن في حي الشيخ جراح، وشيرين على الأرض، بلا حراك، رأسها يختبئ في خوذة، وظهرها يحمل كلمة Press تبرق في وضح النهار. لا يمكن لبشر أن يصنع مشهداً أجمل، أعمق، أكثر سيريالية وأقوى طبيعية.
لن تعود شيرين، ستبقى في هذه البقعة أبد الدهر، شرفاً لمن له ضمير، لعنة تفتك بالجبناء. ستبقى شيرين مثل ساعة سلفادور دالي الذائبة، حزينة ولكنها الوحيدة التي علقت الزمن في لحظة لن يتخطاها الكون. وداعاً شيرين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول النائلة بنت سالم:

    صدقا هناك الكثير من العرب لا يعرفون شيئا عن شيرين أبو عاقلة ولم يسمعوا بها أصلا ؛
    فجأة رصاصة إسرائيلية قاتلة جعلت المرحومة من مشاهير العالم الصحافي وصار أغلب الكتاب والكاتبات الصحافيين (وخاصة العرب منهم في مجالات مختلفة أيضا) يتحدثون عن المرحومة شيرين أبو عاقلة بكل إسهاب وإطناب و(حميمية) وكأنهم يعرفونها منذ زمن بعيد – سبحان مغير الأحوال بين عشية وضحاها !!؟

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      شيرين معروفة لدى محبين فلسطين منذ ربع قرن !
      المطبعين مع العدو الصهيوني من يجهلها !!
      من سمع بجيفارا البديري زميلة شيرين ؟
      ولا حول ولا قوة الا بالله

    2. يقول الشاعر السعيد:

      جيفارا البديري مراسلة الجزيرة واخت الصحفي احمد البديري مراسل البي بي سي، وابنة الرجل الشهم والعروبي حتى النخاع اسحق البديري مدير جمعية الدراسات العربية والمدير العام لبيت الشرق في القدس المحتلة، والذي تشرفت بالعمل معه لسبع سنوات منذ ١٩٩٣ حين كانت جيفارا طفلة صغيرة تزور مكتب ابيها بعد عودتها من مدرسة المأمونية. سماها ابوها جيفارا على اسم الثائر الاممي تشي جيفارا، وهي لديها وطنية وانتماء وشموخ وإباء يغطي الدول المطبعة ويزيد.

    3. يقول Dr Arabi,UK:

      كل من تابع ويتابع ما يجري من انتهاكات واعتداءات صهيونية في فلسطين يعرف من هي الشهيدة شيرين أبو عاقلة ،فهي كانت تغطي تلفزيونيا على قناة الجزيرة ما كانت تقوم به القوات الإسرائيلية من اعتداءات على الفلسطينيين وهدم منازلهم وقمعهم على مدار ربع قرن مضى منذ ١٩٩٧، في ظروف صعبة للغاية وأحيانا كانت تضطر لأن تقضي لياليها في المستشفيات لإصاباتها او تنام في منازل أناس لا تعرفهم غير كونهم من شعبها الفلسطيني ، كذلك كانت تفعل زميلتها جيفارا البديري التي اعتدت عليها القوات الصهيونية بالضرب وكسروا ذراعها منذ سنتين. رحم الله شيرين أبو عاقلة.

    4. يقول الزاوي بن أمين - طرابلس:

      عزيزتي نائلة بنت سالم شكرا على الضرب على الوتر الحساس ، هكذا تعليقات هي التي تميط اللثام عن حقائق الأدعياء والأشياء – تحيات وسلامات

    5. يقول الدكتور شاكر عبد الرزاق:

      تحية تقدير للأخت النائلة بنت سالم ؛ أول مداخلة ضاربة على الوتر الحساس (بتعبير الأخ الزاوي بن أمين) وسابقة سبقا زمنيا ملحوظا ، ولكن لولاها لما كان كل هذا الكم الهائل من التعليقات التي تكشف النقاب عن الكثير من المتأسلمين المنافقين والمتاجرين بقضية فلسطين ؛ تحية أيضا للأخت ابتهال الخطيب والأخت سميرة الأيوبي والرحمة على روح الشهيدة شيرين أبو عاقلة (بل أحياء عند ربهم يرزقون)

  2. يقول سيف كرار... السودان:

    لها الرحمة بلغة المسلمين… لكن لا أعرف ماذا أقول بلغة المسيحيين…

    1. يقول Dr Arabi,UK:

      الرحمة هي الرحمة بجميع اللغات وعند جميع الأديان ، فلا مجال هنا لنتطرق إلى الديانة التي كانت تتبعها الشهيدة شيرين. فكم كنت أستمع إلى نقلها المباشر للاعتداءات الصهيونية على الفلسطينيين ولم يخطر لي بال بأنه في يوم من الأيام سنختلف على ديانتها، فلنطلب للشهيدة شيرين الرحمة ولنترك الحكم لصاحب الحكم ، فالحكم يومئذ لله. مع تحياتي

  3. يقول رامز:

    مقال حزين بكل ما تعنيه الكلمه ولكن للاسف هذا ما حصل بالضبط ٠٠ثم ياتي مخلوق جاهل وحاقد صاحب وجه خبيث ولاكنه ابله اسمه ضاحي خلفان يستهزئ باستشهاد شيرين ابو عاقله

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    «إصرار الذاكرة» هي أشهر لوحات الفنان الإسباني الكبير سلفادور دالي (1904 1989) الذي كان يعمد إلى خلط الجنون بالعبقرية والفوضى بالإبداع، وفيها تظهر عدة ساعات ذائبة في حالة غير طبيعية وسط مشهد صحراوي تتخلله مساحة ضئيلة للبحر، وجذع شجرة وجسم غريب ممدد على الأرض، فيما يتجمع النمل على إحدى الساعات، وهي واحدة من اللوحات المرتبطة بشخصية دالي غير المألوفة، والتي تصل حد اللامعقول والاضطراب النفسي كما وصفه البعض، كما أن انتماءه للمدرسة السريالية وتأثره بعالم الفيزياء ألبرت إنشتاين، والعالم النفسي سيجموند فرويد، انعكس جلياً على لوحاته وأعماله الفنية.
    اللوحة التي رسمها الفنان الإسباني عام 1931 بالزيت على القماش، والمعروضة في متحف الفن الحديث بنيويورك، والتي يُرجح أن يكون المنظر الذي يظهر فيها هو لخليج «كروز» في منطقة برشلونة في إقليم كتالونيا مسقط رأس دالي، وصفها البعض بأنها ترمز إلى «تكسير حدود الزمن» أو «تجميد الزمن»، حيث عُرف عن دالي «بحثه الحثيث عن الخلود والاستمرار خارج حدود عجلة الوقت، وهو ما يؤكد الجدل الذي كان يدور حول شخصية دالي التي كانت تجنح للجنون وربما للاضطراب النفسي، وقد تكون هذه اللوحة من أبرز الأشياء التي خلّدت ذكراه بالفعل كما كان يرغب.
    – يتبع –

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    لاوعي

    لا شك في أن الإنسان عاجز أمام الموت، وأمام الوقت أيضاً، ولعل الفنان الإسباني أوصل هذه الفكرة «دون وعي منه» كما يرى البعض، لاسيما أنه وظّف في هذه اللوحة عدة عوامل تدعم هذا الاتجاه، مثل استخدام الألوان الباهتة، خصوصاً اللون الأصفر «الخائف»، فضلاً عن الجسد الغامض الممدد على الأرض، والذي رسم دالي ساعة ذائبة فوقه، وقد رجح البعض أن يكون هذا الجسد هو لسلفادور دالي نفسه، والذي سيضمحل تدريجياً دون أدنى قدرة على مقاومة حركة دوران الزمن. أما النمل الظاهر في اللوحة، فيرمز إلى الحشرات التي ستلتهم جسد الإنسان بعد موته ودفنه.
    – الخليج –
    وعند الله تلتقي الخصوم !!
    و لا حول و لا قوة الا بالله

  6. يقول الكروي داود النرويج:

    تحية لكِ يا دكتورة إبتهال على جمال عباراتك المؤثرة على هذا الحدث المؤلم
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  7. يقول محي الدين احمد علي:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . لو ادرك هذا العدو الجبان الخسيس ان اغتيال شيرين سيحدث هذا البركان من الغضب في العالم العربي لوضع عليها حراسة خاصة اثناء تأدية عملها . لو علم هذا العدو المريض بمرض النذالة ان اغتيال شرين سيفتح عليه أعين الأطفال في العالم العربي الذين لا ينسون ابدا مهما طال الزمن لأوقف هذه المؤامرة و ترك لها المكان . لو علم هذا العدو المغتصب انه بفعلته ستجعل شرين رمز ودليل علي حقارته لوقف هذا الاغتيال وعليك ان تعلم ايه العدو المغتصب ان ( اخطائنا امامنا وليس خلفنا ) .

  8. يقول جاسم الشمري/ سورية:

    (((( صدقا هناك الكثير من العرب لا يعرفون شيئا عن شيرين أبو عاقلة ولم يسمعوا بها أصلا ))).هذا الكلام غير صحيح ولا يستحق النشر.شيرين أبو عاقلة شخصية إعلامية معروفة عند الجميع.وهي الآن ايقونة القضية الفلسطينية.أحرجت
    الصهاينة رغم انهم لا يخجلون مثل أتباعهم المندسين.

  9. يقول عبد الرحيم المغربي .:

    في عيون الشهيدة شيرين أبو عاقلة..نظرة حزن لاتمحيها حيويتها الكبيرة وهي تسعى إلى نقل أحداث وطنها…بكل ما تملكه من شجاعة التواجد والتعبير…وكفاءة إختيار الصور الإعلامية التي تفضح على مدار الساعة واقعا أريد له ان يطمس…؛ حزن مترسخ من نوع آخر يندمج مع تعابير الوجه…واشعاع العين..ولا تزيله ابتسامة عابرة أو فرح طارىء في لحظات إنسانية من المشترك البشري الذي يسهو عادة عن المآسي ولو إلى حين….؛ هو حزن وطن…مورس عليه كل أنواع التدليس التاريخي…والتزييف الجغرافي فاصبح له عنوان لايحمل من صدقية الواقع والحقيقة…سوى الإسم فلسطين….التي تحولت جغرافيتها…وحرفت قضيتها…واختزلها البعض في كراسي وسلطة…والآخرون في ماركوتينغ الشعارات وتجارة اللغو…. وبقي شيء واحد صحيح…وهو جينات الفلسطيني والفلسطينية التي ستنتقل من جيل الى جيل…الى أن يأذن الخالق بالخلاص….؛ القضايا الحقيقية معدن أصيل لا يصدأ …وروح متجددة لا تموت …وشيرين لم تكن محض فتاة من وطن محتل وشعب مسلوب…ولكنها كانت وستظل قضية….رحمها الله رحمة الشهداء…

  10. يقول يقظان الأغبر:

    وَسَلامٌ عَلَيْكِ، سَلامٌ،
    يَا شيرين سَلامْ
    سَتُبْعَثِينَ، سَتُبْعَثِينَ،
    سَتُبْعَثِينَ،
    شَاءَ قَاتِلُوكِ ٱلْجبناء،
    أَمْ أَبَوْا، يَا شيرين
    وستألفين الكواكب والنجوم
    والسماء.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية