هذه هي الجزائر العظيمة التي عرفتها وعشت فيها أجمل الأيام في عهد القائد هواري بومدين. زرتها بعد ذلك مرارا وكنت ألمح الخوف والحزن والتوجس في عيون الناس. ذكريات الجمر والرماد أيام مظاهرات الخبز عام 1988، وهبة القبائل والعشرية السوداء، جعلت الشعب الجزائري يفكر مليا قبل أن ينزل إلى الشوارع.
لقد اكتوى بنار الفتنة في التسعينيات، وبات يخاف على بلده الذي استرده من بين نواجذ وبراثن الاستعمار الفرنسي الدموي بعد 132 سنة. فالجزائريون يعشقون وطنهم ومستعدون أن يضحوا بأرواحهم إذا ما مست كرامة البلاد. لقد شعروا بالإمتنان للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي طرح عند انتخابه برنامج السلم والمصالحة الوطنية والعفو عما مضى ونجح في ذلك. فأعاد الشعب انتخابه لدورة ثانية عام 2004 بنسبة 85%.
بدأت البلاد تتجه نحو الاستقرار والتعافي الاقتصادي، وهو ما لمسته في زيارتي عام 2006 وليس في آخر زيارة لي عام 2013 عندما كان بوتفليقة يعالج في مستشفى فرنسي. كم كان أنسب لبوتفليقة لو أنه غادر كرسي الرئاسة عام 2008 بدون أن يغير الدستور لتبرير التمديد. إذن ستنصب له التماثيل في أنحاء البلاد الواسعة، ولدخل قلوب الناس كمخلص للجزائر من معاناتها، كما فعل نيلسون مانديلا، الذي وعد شعبه ألا يخدم أكثر من دورة واحدة وبرّ بوعده.
المشهد الحضاري
الحراك الشعبي الذي انطلق يوم 22 فبراير بعد إعلان الرئيس بوتفليقة (أو أعلن على لسانه) نيته للترشح لعهدة خامسة. انطلقت ملايين الحناجر تقول كفى و»لا لعهدة خامسة»، «تمشوا يعني تمشوا»، و»سلمية»، «والشعب يريد إسقاط النظام»، و»الجزائر قالت لا للتمديد»، وغيرها. فلا كسروا شجرة ولا اعتدوا على متجر ولا شطبوا سيارة ولا أساؤوا لأحد ولا أطلقوا شعارات تسيء لأحد، بل بقيت الهتافات والمسيرات والاحتجاجات كلها إيجابية. منظر مهيب لا أحلى ولا أجمل. يحمل الشباب في اليوم التالي مكانسهم فينظفون الشوارع ويعيدون لساحة البريد رونقها وللزخم الجماهيري روعته. مشاركة الأطفال في المسيرات زادت المشهد جمالا وصدقية، وكأن آباءهم يريدون لأولادهم أن يتذكروا هذه الأيام التي يصنع فيها التاريخ، كي يشكروا أباءهم لأنهم سلموهم جزائر الخير والاستقرار والديمقراطية والنهضة والوحدة. النساء يزغردن، والحناجر تدوي «حرية وديمقراطية». والجزائريون لم يهتفوا للكرامة، لأنهم لم يفقدوها أصلا، كما فقدها إخوة لهم في أكثر من بلد عربي يرزح تحت حكم الطغاة. كان رجال الأمن والشرطة يردون على تحية الجماهير بتحية أحسن منها، فلم يدفعوا ولم يعتدوا ولم يصرخوا ولم يولولوا ولم يستخدموا أي مظهر من مظاهر العنف. لقد رفعوا شعارا موجها للجيش وقوات الأمن «خاوة خاوة» أي إخوة، فتلقفه رجال الأمن وتصرفوا على أساس أن هذا السيل العارم من الجماهير، إنما هم إخوة وأخوات لهم وعليهم توفير الحماية لهم، وحفظ النظام كي لا يصاب أحد بأذى.
فلسطين حاضرة أبدا
قيل لنا عن تفسير غياب فلسطين في مسيرات الربيع العربي، إنها ثورات مطلبية تبحث عن الكرامة والحرية والعمل وإنهاء الطغيان وأجهزة الأمن، فلا وقت لفلسطين. أما فلسطين بالنسبة للجزائر فالأمر مختلف. العلاقة بين الشعبين أعمق بكثير مما يتوقع الإنسان العادي، ولا علاقة لها بالتضامن والشفقة والحزن على ما يجري للشعب الفلسطيني. قضية فلسطين بالنسبة لكل جزائري وجزائرية قضية محلية يعيشها، يتنفسها، يتحرق شوقا للقتال من أجلها، يصفق لفريق فلسطين الرياضي عندما هزم فريقه الوطني. وكم سمعت من الجزائريين جملة تتكرر كثيرا: «لو كانت الجزائر على حدود فلسطين لتحررت من زمان، فهؤلاء لا يفهمون إلا لغة «الدبزة» أي العصا الغليظة. فالجزائريون أكثر من يفهم معاناة الفلسطينيين، لأنهم عاشوا تجربة شبيهة إلى حد كبير، وذاقوا معنى الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الدموي. لقد تشابهت معاناة الشعبين فكأن ما تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين نسخة كربونية عما قامت به فرنسا. فرنسا أعلنت رسميا أن الجزائر جزء منها وأطلقت عليها اسم الجنوب الفرنسي، واستعانت بقطعان من المستوطنين الذين وصل عددهم إلى مليون شخص بحلول عام 1950، مقابل سبعة ملايين جزائري. كانوا يسمون «الأقدام السوداء» يسومون الشعب عذابا وتنكيلا. كأنك وأنت تصف أوضاع الجزائر تحت حكم الاستعمار الفرنسي إنما تتكلم عن فلسطين، وممارسات الجيش ووحشية المستوطنين. لذلك لم يرتفع مع علم الجزائر إلا علم فلسطين. ولم تهتف الحناجر إلا إلى الجزائر وفلسطين، بل أن مظاهرة كبرى خرجت ولا يرتفع فوق رؤوس المتظاهرين إلا علمان الجزائري والفلسطيني. ولا يخافنّ أحد من نتائج هذه الحراك فلا أحد في الجزائر يجرؤ أن يتجاوز قضية فلسطين، والذين يعتقدون ان تأييد فلسطين سيتراجع بعد رحيل بوتفليقة أقول له إنك لا تعرف شعب الجزائر.
التشابه مع بدايات المشهد المصري فقط
متابعة الحراك الجزائري السلمي في الجزائر يذكرنا كثيرا بالمشهد المصري بعد انطلاق ثورة 25 يناير المغدورة. فقد كانت المظاهرات السلمية تتعاظم مرة وراء مرة، ولم تقبل بأنصاف الحلول. وكما عين مبارك نائبا للرئيس هو عمر سليمان ووزارة إنقاذ بقيادة أحمد شفيق، ووعد بعدم الترشح ثانية بعد انتهاء دورته تكررت المشاهد في الجزائر. فقد حاول بوتفليقة (أو من هو مختبئ وراءه) أن يسير بالخطوات نفسها، من تأجيل للانتخابات إلى تعيين نور الدين بدوي يوم 11 مارس. وتحت ضغط الشارع وعدم تراجع الحراك، أو قبول أنصاف الحلول، عاد بوتفليقة وتراجع عن البقاء في كرسي الرئاسة إلى ما بعد تعديل الدستور، وعقد الندوة الوطنية، إلى أن اضطر أخيرا إلى تقديم استقالته يوم الثلاثاء الماضي. وكما انحاز الجيش المصري بقيادة المشير محمد حسين الطنطاوي في اللحظة الحاسمة إلى جانب الشعب، انحاز الجيش الجزائري بقيادة رئيس الأركان اللواء قايد أحمد صالح، الرجل القريب من بوتفليقة لسنوات، إلى جانب الشعب. وكما تم منع كثير من الفاسدين مغادرة مصر، وتم تجميد أرصدتهم والحجز على أموالهم، أعيدت الكرة في الجزائر، ووعد قايد أحمد أن «يحمي البلاد من عمليات النهب التي عاشتها البلاد عن طريق العصابة التي تمكنت من تكوين ثروات طائلة غير شرعية، وفي وقت قصير بدون رقيب أو حسيب مستغلة قربها من مراكز القرار المشبوهة، وها هي تحاول هذه الأيام تهريب هذه الأموال المنهوبة والفرار إلى الخارج».
الثقتة في وعي رجال الأمن والجيش الجزائريين الذين لن يقبلوا أن تسود الفوضى في بلادهم بعد ما شاهدوا ما حدث في بلدان عربية أخرى
الفرق الأول بين الحراكين أن قوات الأمن المصري فتحت النار على المتظاهرين وقتلت المئات، وبعثت الرعب في نفوس المواطنين، وتراخت في القيام بدورها في حفظ الأمن وهاجمت المتظاهرين حتى في ميدان التحرير، في ما سمي بـ»واقعة الجمل»، إلا أن الجماهير المصرية لم تنجر إلى ساحة المواجهة وحافظت على سلميتها، بينما حافظت قوات الأمن الجزائري على النظام ولم تعتد على أحد.
أما الفرق الثاني، فكما تبين لاحقا أن الجيش المصري لدية خطة أخرى… استيعاب الحراك وإعطاء ملايين المتظاهرين شعورا بالنصر فيعودون إلى بيوتهم، معتقدين أن أيام الحرية والكرامة والحكم الرشيد قد بدأت ونهاية عصر الفساد والبلطجة قد ولى. ولإعطائهم مزيدا من الثقة بالنفس تم حجز مبارك وولديه ووزير داخليته حبيب العادلي وأحمد عز وحفنة من الفاسدين. فرقص الناس في الشوارع جذلين وعادوا إلى بيوتهم مطمئنين، ثم بدأ بعد ذلك تفكيك كل ما حققته الثورة وصولا إلى إجهاضها تماما والردة عليها. بدأت الأمور في أيام الثورة الأولى، حيث وصلت طائرة سعودية خاصة تحمل في داخليها شخصين فقط، وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل ووزير المالية إبراهيم العساف، واجتمعا على انفراد مع المشير الطنطاوي. عرض فيصل على الطنطاوي مبلغا ضخما من المال لإنقاذ الاقتصاد، مقابل أن يأخذ حسني مبارك معه في الطائرة. فقال له الطنطاوي «لو فعلت هذا الآن فستحرق القاهرة الليلة». كان يعرف أن الوقت غير مناسب للارتداد على الثورة، فما زال الناس منتشين بالنصر وقد يعودون غدا. وبدأت بعد تلك الحادثة الخطوات المنظمة والمدروسة تماما لإعادة السلطة إلى الجيش حتى لو خلع المشير الجديد الزي العسكري.
خوفنا إذن على ثورة الجزائر له ما يبرره. فسيناريوهات الثورات المغدورة في مصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين ما زالت ماثلة في أذهاننا. نحن لا نثق بالعسكر، ولا نعتقد أنهم يتخلون عن السلطة بتلك السهولة. أنظر ماذا يعمل البشير في بلده المنهك المدمر المفتت. أنظر ما عمل طاغية اليمن، علي عبد الله صالح، السابق بعد أن اضطر أن يتنازل عن السلطة. ثقتنا في الشعب الجزائري ووعيه وحبه لبلده. وثقتنا في وعي رجال الأمن ورجال الجيش الذين يحبون وطنهم ولن يقبلوا أن تسود الفوضى في بلادهم بعد ما شاهدوا ما حدث في بلدان عربية أخرى. نقول كما قال الراحل هواري بومدين «الجزائر لا تموت بتغير الرجال. الرجال يذهبون وتبقى الجزائر».
محاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي
نشكر للكاتب حرصه على الجزغئر وانتوف مخاوفه.. لكن ااجزائريين منذ انطلاق حراكهم وهم يكررون أن تسقاطات الحالة المصرية أو السورية على الجزائر بعيد عن الدقة..
نقولها من غير اسفاف ولا زيادة ثقة.. ولكن الواقع وتتبع خبايا الأمور هي من ترفع نسبة الطمأنينة إلى أن حالة مصر لن تتكرر في الجزائر وأن الاحتمال أقوى هو تكرار تجربة تركيا واسبانيا والأزجنتين عندما سلم العسكر السياسة للمدتيينرعندما وجد أمامه آرادة شعبية حقيقية في التغيير.
حراك الجزائر ليس طائفيا ولا إيديولوجبا ولا إقصائيا وليس خروجا لأجل الكرامة لأن الجزائري لم يفقد يوما كرامته. لم يخنع لظالم ولم يبع قضاياه العادلة كما كان يطعن فيه مبغضوه والحاقدون عليه.. حراك الجزائر هو نتيجة طبيعية لمراحل سياسبة سابقة وتجارب تعلمومن ها الشعب كما تعلم منها العسكر أن الوطن قبل كل شيء.
الشعب يعلم أن الحراك لم يكتمل ولذلك سيخرج غدا وسيستمر في مطالبه حتى تتحق على أرض واقعه بإذن الله رغم كيد الكائدين.
تقول أن الشعب الجزائري شعر بالامتنان لبوتفليقة ، من قال لم ذللك ، لااعلم احدا عرفته شعر بما تدعيه ، ولم اصوت له يوما ولااعرف احدا فعل ، هو كان خيار الجيش جاء فوق ظهر دبابة ، بشروط للعسكر ، فعاث هو ومن جاء به فسادا لم تعرف الجزائر فسادا مثله . ايها الكاتب المحترم .أنه لايحس بالالم الا من هو مكتو بالنار .
لماذا لا يتظاهر عرب 1948 كغيرهم لنيل حقوقهم من الاحتلال الصهيوني ؟ أي يتظاهرون بكتل كبيرة كما حصل في الجزائر…وبشكل سلمي فقط كل يوم جمعة ، بما يحرج سلطات الاحتلال !!
من بعد التحية :
لا يزال الوضع الجزائري في بدايته والمتأمرين لا ينامون الليل ،تمنياتنا أن تكون الجزائر في حفظ الله ورعايته .
شكرا للكاتب على هذا المقال الذي يعبر بصدق عن الحراك السلمي الحضاري الراقي للشعب الجزائري الشقيق الذي أتمنى له كامل التوفيق في تحقيق مطالبه وطموحاته لبناء نظام سياسي ديموقراطي و اقتصاد قوي مزدهر في مجتمع ينبني على العدالة الاجتماعية وتوزيع عادل لثروات البلاد.
الجميل في الحراك أيضا هو رؤية العلم الفلسطيني إلى جانب العلم الجزائري تعبيرا من الشعب على أولوية التضامن مع فلسطين وعلى أنها في قلوب جميع المواطنين. ولذا فأنا أعدل عنوان المقال قليلا لأكتب أن كل جزائرية وكل جزائري يستحق وردة جميلة على الجبين. وأختم بالإشارة إلى غياب تام لعلم ” الجمهورية الصحراوية ” مما يدل أن الشعب الجزائري يعتبر أن المسألة لا تهمه؛ على عكس النظام المتداعي الذي يمرر في وسائل إعلامه أخبار ” الجمهورية المزعومة ” قبل أخبار القضية الفلسطينية.
الجزائر شعب عظيم،حفظ الدرس جيدا مما حصل في الربيع العربي،ولا شك ان موقف الجيش ليس اقل موقف الشعب،وهذا ما اسقط الربيع العبي وحرفه عن أهدافه كما نذكر اخي عبد الحميد. ولكن ما حصل في تونس من تصحيح للمسار يعطي ضوءا على إمكانية حصول ذلك في مصر وليبيا وسوريا والسودان. لنا أمل كبير في المستقبل فالمشكلة لازالت في مرحلة مخاض والسنوات القادمة حبلى بالمفاجئات. أنا شخصيا لا ادين الأنظمة مجدها ولكن للجماهير العربية دور في الإدانة. الجزائر درس كبير يجب ان تستوعبه الجماهير العربية فبدون النشاط الديمقراطي الصرف لن تكون النتايج إيجابية.