وززززززززز….

حجم الخط
26

مرة أخرى حدث هذا عندما كنت جالساً على شرفة بيتي، هاجمتني واحدة من أفراد العدو الأكثر شراسة والمسبب الأكبر للضحايا بين أبناء البشر.
سمعت صوتها كما لو كانت طائرة مغيرة هبطت على أرنبة أنفي، صفعتها، لكنها في أقل من عُشر ثانية كانت قد أقلعت، وبحِرفيّة كبيرة أعادت الإغارة هذه المرة على عنقي، ثم على يدي، صفعتها بقوة قادرة على سحق المئات من بنات وأبناء جنسها، ولكنها حلقت واقتربت من أذني كأنما لتسمعني أزيزها، ساخرة إذ نجحت باستفزاز رجل في مثل سني يزيد عنها وزناً بمليون مرة، وذلك أنني لم أفعل سوى أن صفعت نفسي.
هنالك حوالي ثلاثة آلاف وخمسمئة نوع من البعوض، ولكن التعميم ممنوع، فليس كل البعوض عدوانياً، بل إن أكثرية الأصناف مسالمة، تعيش في الغابات حيث الخضرة الدائمة والظل والمياه الراكدة، تتعايش بسلام مع الأحياء الأخرى، تعتاش على الرحيق، بل وتعتبر غذاء لكثير منها مثل الضفادع والعصافير والزواحف، ولكن هنالك جنس منها يدعى الأنوفوليس ويحوي 430 فصيلة، منها أربع فقط هي القادرة على نقل الملاريا للإنسان.
يعمل العلماء بجد في الحرب على البعوضة التي تسببت وما زالت المسبب الأكبر للضحايا بين البشر، أكثر من الحروب وحوادث الطرق والأمراض الأخرى، إذ تقتل الملاريا إنساناً حول العالم في كل ثلاثين ثانية، أكثر من تسعين بالمئة منهم في أفريقيا، وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية الخامس والعشرين من نيسان/أبريل من كل عام يوم الملاريا العالمي.
استفزتني البعوضة، شتمت قومها وكل سلالاتها العدوانية، على كل حال، هي حرب مفتوحة بيننا وبين بني بعوض.
في هذه المناسبة أقول شكراً لأولئك الذين اكتشفوا أسباب الملاريا، ولأولئك الذين اخترعوا الأمصال الحيوية ضدها، وللباحثين الذين اكتشفوا أمصالاً كيميائية أقل تكلفة وما زالوا يعملون، لإنقاذ ملايين البشر.
نحن، بني البشر، لا نفطن لأولئك العظماء، معظمنا لا يعرف من هو ألكسندر فليمنغ الذي أنقذ ملايين الأرواح من خلال اكتشافه البنسلين، ولا مخترعي الأمصال ضد الكوليرا أو الجدري والملاريا وغيرها من أدوية ومستحضرات ومعدات نستعملها يومياً.
إلا أن الإنسان الذي يحارب البعوضة يسجل هدفاً ذاتياً قاتلاً ضد نفسه من خلال تسببه برفع حرارة الكرة الأرضية، وهذا يمنح البعوض حالة تفاؤلية بالمستقبل، بحيث ستفتح أمامه مناطق جديدة بمساحات ملايين الكيلومترات للتكاثر في ظروف رائعة، لأن البعوض لا يعيش في المناطق الباردة، وزيادة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد، ستؤدي بلا شك إلى انتعاش بين جماهير البعوض، ويضع البشرية كلها في مواجهة خطر جيوش البعوض الساعية للانتقام، خصوصاً أن بعض الأصناف منها تقاوم المصل، وتطوّر أجهزتها الدفاعية باستمرار، وقد يأتي يوم تحوِّل فيه المبيدات الكيماويات إلى غذاء مثل الرحيق تماماً، وهناك احتمال، وإن كان طفيفاً، بأن تكون نهاية البشرية على يد البعوض.

نحن، بني البشر، لا نفطن لأولئك العظماء، معظمنا لا يعرف من هو ألكسندر فليمنغ الذي أنقذ ملايين الأرواح من خلال اكتشافه البنسلين، ولا مخترعي الأمصال ضد الكوليرا أو الجدري والملاريا وغيرها من أدوية ومستحضرات ومعدات نستعملها يومياً.

تتعدد سبل الحرب على البعوضة، يجري رشها بالمبيدات وهي في مهدها في المستنقعات، أما البعوضة البالغة، التي تشن الغارات على البيوت بحثاً عن الدماء، فهنالك عدة وسائل منها ما هو بسيط، مثل الورقة الصفراء اللاصقة التي تجذب البعوضة لتلتصق بها لتلقى حتفها، وقد تبقى حيّة لبعض الوقت وتتعذب، إلا أن منظر الورقة وهي ممتلئة بمئات من البعوض ليس لطيفاً، وهنالك كبسولات توضع في أجهزة كهربائية بسيطة تصدر رائحة تطردها أو تسبب لها الدوخة والغثيان وحتى السقوط.
هنالك المواد الكيماوية الأكثر فعالية التي تُرشُ بها البيوت وحولها، وهذه تنتجها مصانع تشغّل ملايين العمال والموظفين والمختصين والخبراء والباحثين، ولهذه المصانع مخلّفات كيماوية يجب التخلص منها بحكمة، لأنها تؤثر على حيوات مخلوقات كثيرة مثل الأسماك والإنسان والنحل، وتقع على الإنسان مسؤولية حماية النحل منها، وإلا قد يفقد واحداً من أهم المخلوقات التي تسهم في غذائه الزراعي. ولهذا، فإن الحرب على البعوض بالكيماويات يجب أن تجري بحسابات دقيقة، بحيث لا تسبب أضراراً للنحل، كي لا نربح معركة ونخسر أخرى لا تقل أهمية.
أقل الطرق ضرراً في البيوت هي الأجهزة الكهربائية التي تجذبها بأشعتها الزرقاء، وتحرق جناحيها في صعقة، معظم هذه الأجهزة مستورد من الصين، خصوصاً في العقود الأخيرة، في بداية كل ربيع أقتني جهازاً جديداً لأضمن نوماً بدون إزعاج، أو جلسة مريحة مع أصدقاء في ساعات الليل بدون صفعات ذاتية متكررة لقتل بعوضة واحدة.
يعجبني صوت احتراق جناحيّ البعوضة أو الذبابة عند اقترابها من الجهاز الكهربائي، ززززز..ثم صمت، كذلك فإن لاحتراقها رائحة شواء خفيفة جداً، محبّبة لدى البعض.
عمر هذه الأجهــزة الكهربائية الصينية قصيرٌ جداً، من عشرين إلى أربعين يوماً، تقريباً مثل عمر البعوضة نفسها، ولي قصص معها.
لا أتهم الصينيين بالغش، لقد أثبتوا أنهم صادقون في تعاملهم التجاري، فهم يعرضون مختلف الأجهزة والبضائع، منها ما هو رخيص جداً وسريع العطب، ومنها ما هو متوسط الجودة، ومنها ما هو ممتاز، وتبقى المشكلة في التجّار الذين يقتنون العتاد الأرخص من الصين، ويبيعونه بثمن منتج أعلى جودةً، مثل التركي الجيّد أو الألماني الممتاز.
في عصر العولمة المتسارعة، صار بإمكانك دخول الدكاكين الإلكترونية بنفسك دونما حاجة إلى وسيط، تعاين البضاعة وتشتريها وأنت في فراشك، تطلبها وتدفع ثمنها، فتصلك من متجر ما في الصين إلى غرفة نومك إذا شئت، بإمكانك أن تشتري ببضعة دولارات وحتى سنتات، وبإمكانك أن تقتني بملايين الدولارات.
البضائع الصينية تغمر العالم، ولا أقول تغزو، لأن الغزو يوحي بالدخول عنوة رغم إرادة الآخرين، بينما بضائع الصين تدخل برقّة وسلاسة وطيب خاطر، وهي نعمة، ليس للشعوب الفقيرة فقط، بل ولشعوب الدول الصناعية الكبيرة، حتى أن الأمريكيين صاروا يقولون دون شعور بحياء أو نقص، «شــــكراً صين»، وذلك أنها توفر مختلف البضائع بأثمان رخيصة، ومنها مستحضرات وأجهزة الحرب على البعوض، إلا أن الرئيس الأمريكي الحسود الشّره النهم لم يعجبه هذا الحال، ويلوّح بفرض ضرائب جديدة عالية على بضائع الصين في محاولة لتعديل الميزان التجاري المائل لصالح الأمة العظيمة الصفراء، تلك قصة أخرى، أما وقد بدأت الحرب، فسأدخل إلى أحد المتاجر الإلكترونية لاقتناء جهاز من نوعية عالية لمواجهة هذا العدو الشّرس الذي يلاحقنا حتى في غرف نومنا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رائدة أبوصوي/القدس:

    وززززز
    صوتها مزعج …شكلها مقرف …اثرها مؤلم جداً
    الناموسة . البعوضة
    عندما اختار الله سبحانه وتعالى البعوضة ليضرب بها مثلاً على ضعف الانسان لم يخترها عبثاً
    كم نحن ضعفاء . حشرة صغيرة .حقيرة تستطيع ان تسرق النوم من اعيننا نشاطها يبدأ في الليل عندما ينتهي نشاطنا ونخلد للنوم. تستطيع قلب ليلنا رأسا على عقب . والمثير للعجب اختيارها للاشخاص الذين ستقتات على دماءهم
    تختار الاطفال الرضع وتستمتع جدا بامتصاص دماءهم واصحاب البشرة البيضاء . سبحان الله الانثى من تقوم بامتصاص الدم لتتغذى عليه اما الذكر فيكتفي برحيق الازهار
    تطور العلم في مختلف نواحي الحياة الا في مجال القضاء على البعوضة والسبب لتبقى البعوضة شاهدا حيا على ضعف ابن ادم
    مهما وصلت من مراكز اجتماعية واقتصادية وسياسية ستجد مخلوق اقوى منك . مخلوق لا تعيره انتباه . تتكبر عليه وهو في حقيقة الامر أكبر منك . وفوق الحرب الدائرة بين الانسان والبعوض هناك خالق عظيم قادر على كل شيء
    انما امره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون .

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    غريب أمر الذين يستغربون تعدد الزوجات, ولا يستغربون تعدد العشيقات بالنرويج؟ نعم ممنوع تسجيل أكثر من زوجة بدوائر الدولة بالقانون النرويجي وليس ممنوعاً إتخاذ عشيقات! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    هناك قضية بالمحاكم النرويجية الآن من طرف أرملة تشتكي على عشيقة زوجها لأنها دفنته بمدينتها! الزوج (العشيق) كتب في وصيته أن يتم دفنه بمدينة العشيقة!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    تحدثت مع عدد من السياسيين النرويجيين عن الظلم الذي يقع على العشيقة بسبب أنها لا ترث شيئاً؟ فقالوا: هذا هو حكم النساء!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    الزواج العرفي كامل الأركان الأربعة: 1- الولي, 2- المهر, 3- الإيجاب والقبول, 4- شاهدين إثنين! الإشهار سُنة!! وتسجيله بالدولة هو لضمان حقوق الزوجة والأطفال!!! حقوق الأطفال بالنرويج مكفولة للجميع, ولكن لا حقوق للعشيقات (الزوجات الأخريات) ولا حول ولا قوة الا بالله

  6. يقول الكروي داود النرويج:

    نعم: شرط تعدد الزوجات العدل! لكن التراضي هو نوع من العدل, كأن تتنازل العروس عن إرث الزوج أو مناصفة إقامة الزوج عندها أو أو أو!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  7. يقول رسيله:

    عمتم مساء ورمضان كريم ؛ مقاله قمة في الروعة مغلفة بتساؤلات عديدة مبهمة وكل تساؤل ينتهي بتساؤل اخر .. فلا تزداد إلا انجذابا للمقال وتذكرا لبيت الشعر (وكلما ازددت علما زادني علما بجهلي) وهو انما يدل على حكمة كاتبه وبأنه يملك القدرة على ان يرى اكثر ويفكر بعمق أوسع، وبانه لا يقبل بحصار الممكن ويسعى دائما لاختراق الضباب.
    فهو يقول لنا بكل بساطة الا تتفكرون قليلا بالحكمة الإلهية من خلق الشئ ونقيضه وتواجد الشر فى مواجهة الخير فكما يقال :”ولكل شيء افة من جنسه فحتى الحديد سطا عليه المبرد.” فالله أراد للدنيا ان تحيا في صراع مستمر لا ينضب لان صراعها هذا سيجعلها أكثر قوة وثباتا مما لو خلدت للراحة (يتبع)

  8. يقول رسيله:

    (التكمله ) ” فكل من خلق علق ” وعليه ليحيا ان يتحدى ويصارع ويكافح ويبدع ويبتكر ويشحن طاقاته وقدراته والا لانقرض الكون فعلينا تفعيل عقولنا بالبحث والتنقيب والإبداع لكي لا نكون أمة خاملة تتكل في حياتها على الآخرين فلنعلم ان هنالك ميكروب يتربص بنا هو العدو الساعي دائما لاحتلالنا فعلينا أن لا نتخاذل وان نكون دائما على أهبة اليقظة والاحتشاد علينا ان نهب من نومنا فنسلخ عن ثيابنا شرنقة التخلف فهذه قوانين أزلية وضعها الله للخلية و الجسم الحي و الأمة و لا يستطيع أن يشذ عنها مخلوق.
    كاتبنا سلمت الانامل التي خطت هذا الجمال ونسجت من الاحرف بديع اللوحات دام عطائك العذب نهرا متدفقا بكل بديع.

  9. يقول د.نبيل طنوس:

    أعجبني النص. وتألمت مما يسببه لنا البعوض، ومن قصة الصين والرئيس الأمريكي البشع. هذا الرئيس الذي يسبب لنا الألم في كل شيء. هو نص رمزي لوضعنا. البعوض ومحاربته بأساليب عدة وتدخل الرئيس الأمريكي تحكي لي الكثير عن حالنا. يعطيك العافية، أيها الكاتب الراقي والله ينجينا من البعوض ومن رموزه.

  10. يقول بولنوار قويدر-الجزائر:

    السلام عليكم
    تحية طيبة مباركة لك (سي سهيل) ولجميع قرّاء ومعلقي القدس وطاقمها الفاضل وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام
    ملاحظة:لقد غابت عنا الاخت غادة الشاويش ود.أثير الشيخلي ومنى الجزائر ونجم الدراجي ونتمنىغيابهم كله خير إن شاء الله..
    كل ما خلق الله ليس عبثا وكل ذلك لحكمة منها ما إستطاع الانسان فك شفرتها القدسية ومنها مازال في دور البحث ومنها مالم نستطع غليه سبيلا…إذا كانت (الباعوضة) بحجمها الذي ووزنها الذي يقدر بمليون مرة أقل من جسم الانسان كما عبر عنه السيد (سهيل) نرى هذا الانسان لم يفطن بعد من غيّه وجبروته وطغيانه فقد إستطاعت بعوضة أن يزعجزه وتحرم عليه نومه ويصفع نفسه وينفق ماله سواء القليل أو الكثير من أجل محاربتها ويقضي وقتا كبيرا في البحث والتنقيب من أجل القضاء عليها وكل ذلك (آية) لعله يرجع إلى رشده ولكن دون جدوى … ويستبدل ضعفه ويسميه بحث علمي ودر للمال وتنظيف البيئة…
    ونحتم هذا التدخل بقولنا:
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

    1. يقول بولنوار قويدر-الجزائر:

      السلام عليكم
      تحية طيبة مباركة
      نظرا لبعض الأخطاء المطبعية إضطررت أنأعيد نشر التعليق وشكرا على التفهم
      سهيل كيوان
      السلام عليكم
      تحية طيبة مباركة لك (سي سهيل) ولجميع قرّاء ومعلقي القدس وطاقمها الفاضل وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام
      ملاحظة:لقد غاب عنا كل من الاخت غادة الشاويش ود.أثير الشيخلي ومنى الجزائر ونجم الدراجي ونتمنى غيابهم كله خير إن شاء الله..
      كل ما خلق الله ليس عبثا وكل ذلك لحكمة منها ما إستطاع الانسان فك شفرتها القدسية ومنها مازال في دور البحث ومنها مالم نستطع إليه سبيلا…إذا كانت (البعوضة) بحجمها الذي ووزنها الذي يقدر بمليون مرة أقل من جسم الانسان كما عبر عنه السيد (سهيل) نرى هذا الانسان لم يفطن بعد من غيّه وجبروته وطغيانه فقد استطاعت بعوضة أن يزعجزه وتحرم عليه نومه ويصفع نفسه وينفق ماله سواء القليل أو الكثير من أجل محاربتها ويقضي وقتا كبيرا في البحث والتنقيب من أجل القضاء عليها وكل ذلك (آية) لعله يرجع إلى رشده ولكن دون جدوى … ويستبدل ضعفه ويسميه بحث علمي ودر للمال وتنظيف البيئة…
      ونحتم هذا التدخل بقولنا:
      ولله في خلقه شؤون
      وسبحان الله

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية