كان رياض عصمت، المؤلف المسرحي والمخرج والقاصّ والناقد السوري، خامس وزير ثقافة يعيّنه بشار الأسد، بعد مها قنوت ونجوى قصاب حسن ومحمود السيد ورياض نعسان آغا؛ فتسلّم الوزارة بين تشرين الأول (أكتوبر) 2010 وحتى حزيران (يونيو) 2012. هو اليوم، حسب المعلومات المدوّنة عنه على موقع دار نشر «بالغريف ــ ماكميلان»، يقيم في الولايات المتحدة، وقد أصدر مؤخراً كتاباً باللغة الإنكليزية عن هذه الدار، عنوانه «الفنانون والكتّاب والربيع العربي»، يقع في 175 صفحة.
يسرد عصمت واقعة افتتاحية تامر الأولى حين تسلّم رئاسة تحرير مجلة «المعرفة»، التي تصدر عن وزارة الثقافة، حيث كرّسها لمنتخبات من «طبائع الاستبداد» للكواكبي، فصودرت المجلة وأُقيل الرجل من منصبه
طريف، وغريب أيضاً، أنّ مقدّمة عصمت للكتاب تتحدث عن انتفاضات «الربيع العربي» عموماً، وتسهب على نحو خاصّ في تفصيل الانتفاضة السورية، ولا تُغفل الإشارة إلى النظام السوري والآمال التي عُلّقت على «الرئيس الشاب» ثم لاقت الخذلان؛ ومع ذلك… لا يشير عصمت، البتة، إلى أنه كان وزيراً للثقافة طوال 15 شهراً على الأقلّ من عمر الانتفاضة الشعبية في سوريا، التي انطلقت كما هو معروف من دمشق ودرعا في آذار (مارس) 2011. هذه حكاية أخرى ليس هنا مقامها، إذْ تحتاج إلى وقفة خاصة حول سلسلة الأفكار التي يسوقها عصمت في مقدّمته؛ سواء تلك التي تخصّ رؤيته لـ«الربيع العربي» إجمالاً، أو قراءته لمعمار سلطة الأسد على ضوء ثماني سنوات من عمر الانتفاضة في بلده، أو مواقفه وتصريحاته وسلوكه خلال فترة تولّيه حقيبة الثقافة.
هذه السطور معنية بفصول الكتاب الأخرى، التي تنطلق من فرضية بسيطة (ليست، في الواقع، بديهية كما يوحي عصمت)، مفادها أنّ عدداً من الكتّاب والفنانين العرب استبقوا انتفاضات بلدانهم في كتاباتهم وأعمالهم المختلفة، وتحايلوا على الرقيب لالتقاط «ظروف الإحباط السياسي، وتنبؤاتهم بالمستقبل القاتم الذي سيأتي إذا لم يُطبّق التغيير»؛ الذي يشمل «الديمقراطية، الشفافية، حرّية التعبير، الانتخابات العادلة، والمحاسبة». وهكذا كان هؤلاء «روّاد عدالة اجتماعية»، على غرار نجيب محفوظ (الرمزية ضدّ الواقعية)، وتوفيق الحكيم (أهرام الدراما العربية)، ونزار قباني (الياسمين لا يموت أبداً)، وغادة السمان (موزاييك الذاكرة)، ويوسف شاهين (المصير). كما كانوا كتّاب قصّة «متمردين»، أمثال يوسف إدريس وزكريا تامر، خيري الذهبي وجمال الغيطاني وحليم بركات، صنع الله إبراهيم وفواز حداد ونوال السعداوي (حسب ترتيب عصمت). وأخيراً، كانوا أهل «دراما الثورة»، وفي عدادهم مسرح تونس الحديث، ثمّ ألفرد فرج وسعد الله ونوس، ممدوح عدوان ومحمود دياب ونجيب سرور، سعد الدين وهبة ووليد إخلاصي، صلاح عبد الصبور ورشاد رشدي، محمد الماغوط وعلي سالم.
ولعلي أتوقف، هنا، عند الجزء المخصص للقاصّ السوري الكبير زكريا تامر، من زاويتين؛ الأولى أنّ عصمت يصيب حقاً في وضع تامر ضمن سياق دقيق، فنّياً وتاريخياً، هو الانشقاق عن مدرستين في آن معاً، هيمنتا على القصة القصيرة السورية ابتداءً من خمسينيات القرن الماضي؛ أي الواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية. كان بين أبرز ممثلي هاتين المدرستين أسماء رائدة بدورها، أمثال ألفت الإدلبي وعبد السلام العجيلي وياسين رفاعية وحسيب كيالي وغادة السمان وفاضل السباعي وعادل أبو شنب وسعيد حورانية وعبد الله عبد وجورج سالم، ممّن أرسوا سلسلة من الأشكال والأساليب والموضوعات طبعت الحقبة بأسرها. الزاوية الثانية أنّ عصمت يجحف تماماً بقامة تامر، الفنّية والريادية تحديداً، حين يجزم بأنّ قصته باتت جامدة في المراحل الأخيرة بذريعة أنها «لم تتجاوز إنجازاته السابقة، بل كررت ما كان يُعتبر تجديداً في الستينيات». وهذه فرضية ركيكة تماماً، ولاتاريخية، بل لعلها مدعاة سخرية أيضاً، لأنّ أمر التجاوز هنا لا يُختزل إلى ميزان مقارنات بين الماضي والحاضر، فحسب؛ بل يبدو وكأنه يفرض «مساطر» قياس مسبقة الصنع، تتكيء على إنجازات سابقة فقط، ومنها حصرياً تشتقّ للكاتب حقوق تطوير فنونه وآفاقها.
والحال أنّ عصمت يقتبسني بالحرف (في صفحة 68، ولكن دون أن يذكر اسمي!)، متفقاً معي بصدد موقع تامر في القصة السورية والعربية خلال ستينيات القرن المنصرم؛ حيث أساجل (في مقالة بالإنكليزية نشرتها مجلة «بانيبال» 53/ 2015، المخصص لتكريم تامر)، بأنه لم يكن مألوفاً، ولا حتى مقبولاً بصفة عامة في الأدب العربي، ظهور قصة قصيرة على الطراز الذي اقترحه تامر بقوّة: لا تحكي حكاية، ولا تلتقط برهة، ولا تصوّر كياناً، ولا تثير تجربة، ولا تطوّر أحدوثة، ولا تنقل رسالة سياسية مباشرة. فهل توجّب على تامر أن يتجاوز ذاته نحو خصائص فنية أخرى؟ وما نوعيتها، سوى كتابة قصة قصيرة جداً، (!) كما يقترح عليه عصمت؟
«نمر القصة القصيرة» هي التسمية التي يختارها عصمت للقاصّ الكبير، مستوحياً العنوان الشهير «النمور في اليوم العاشر» أغلب الظن؛ أو لأسباب مجازية أخرى تخصّ التنمّر ربما، ولكن في معانيه الأشدّ إيجابية، ونزوعاً نحو التمرد، كما حين يسرد عصمت واقعة افتتاحية تامر الأولى حين تسلّم رئاسة تحرير مجلة «المعرفة»، التي تصدر عن وزارة الثقافة، حيث كرّسها لمنتخبات من «طبائع الاستبداد» للكواكبي، فصودرت المجلة وأُقيل الرجل من منصبه.
وقد يصحّ القول إنّ بعض التأرجح بين الإنصاف والإجحاف مردّه أنّ بين رئيس تحرير نمر مثل تامر، ووزير ثقافة أسدي مثل عصمت، ثمة عُجَر وثمة بُجَر!
اصبت يا عزيزي صبحي كبد الحقيقة. كاتبنا العظيم زكريا تامر في مجلد ربيع في الرماد يحكي واقعا عشناه قبل ان نعيشه، وهذا الاديب النمر انتصر على الاسد
أستاذ صبحي المحترم
ثمة ملاحظة في متن المقال، لم يرد اسم حنا مينه ككاتب من جيل الخمسينيات ورائد من رواد الاشتراكية الواقعية، هل تجاهل مقصود من الوزير السابق كون حنا مينه تحول إلى حكواتي ولم يُعاين الحياة السياسية في ظل الإستبداد. وشكراً
شكرا أخي صبحي حديدي, مقال ممتع كالعادة. كوني أُميّاً في عالم الأدب, اتمنى ممن يعرف أدب ذكريا تامر أن يقدم لنا تعليقا عن قصصه أو بالأحرى فحوى قصته المذكورة في المقال «النمور في اليوم العاشر».
يا ليت استاذنا الحديدي يعطي من وقته لكتابة مقالة ثانية عن مواقف رياض عصمت من الثورة السورية. يعني بمناسبة هذا الكتاب
مقال رائع ، فقط ملاحظة لغوية ، الصحيح ، ثمة عُجَراً وثمة بُجَراً
لن أناقش عصمت لأنه معصوم من الضمير..لكنني أذكره بطلبي التنبه لوضع ثم رحيل علي الشهابي عن عمر مبكر..وأذكره كوزير بطلبي منه التدخل من أجل معرفة مصير زكي كورديللو وابنه مهيار وقت اعتقالهما ومن ثم اختفائها من خلال شفافية طبيب العيون الذي يعمل عنده عصمت بصفة وزيرا للثقافة…
طبعا أعطاني الطرشا..وأظنه يرتجف الآن في محاولة لتبييض السلوك…و..عبث.