غيرُ خافٍ ما بات معروفاً بالتجربة أو بالتواتر من أهمية كتاب خالدة سعيد: «الحركة المسرحية في لبنان 1960- 1975 « الذي يعدّ حتى اليوم أدق وأغنى مرجع توثيقي/ نقدي شامل للمرحلة الذهبية في المسرح اللبناني المعاصر، أمّا ما لا يدركه كثيرون، فهو نسفه حتماً لما قيل ويشاع عن مظلومية وقعت على الناقد، وهو يقلّب العمل المسرحي على أوجه عدة بحثاً وتأويلا، ثم تأكيد دوره الخطير في كشف أو طمس المنجزات والتجارب والحقائق والرؤى الجديدة سواءً انتمت إلى تلك المرحلة، أو لأيّ عصرٍ آخر.
بهذا المعنى، لنا نمذجة ما نقول إفادة للقارئ، إذ لم تكتفِ الناقدة والباحثة خالدة سعيد بإسقاط الأخوين رحباني عاصي ومنصور نهائياً، واستتباع ذلك بشطب السيدة «فيروز» نفسها سيرةً وإبداعاً من كتابها المرجِع (تناولتُ ذلك في مقالة سابقة) بل قضتْ على تجربة روميو لحود وقطعتْ نسلها الفني بالضربة القاضية في مصنّفها العتيد نفسه، ما يبدو أنه وعي ضمني بأنّ النقّاد هم الأوصياء على التاريخ المسرحي، يكتبونه كما يريدون، فلم تترجم له مُخرجاً ولا مؤلِّفا ولا مُمثّلاً، أو مُنتِجاً، أو مُلحناً مخضرماً، ولا صانع استعراض ومهرجانات على المستويين المحلي والعربي، ولا غير ذلك من وظائف صناعة المسرح في أكثر من أربعين عملاً مميزاً لا يختلف اثنان على جودتها الفنية وأبعادها الفكرية الرسالية في ثيمات حبّ الوطن والعائلة والمجتمع السوي. نحن لا نجد صفحةً ولا فقرةً، بل ولا سطراً واحداً يتيماً سيق في حقّ لحود، لا كرمى ولا حتى مذمّة، بل ولم تذكر الناقدة العتيدة اسمَه إلا في موضعَين على وجه الاضطرار: الأوّل في تعريف المُخرج الراحل برج فازليان الذي أخرج لروميو لحود، والثاني في ما بسطته عن نبيه أبو الحسن مشاركاً في مسرحية «فرمان» تأليف ناديا تويني وإخراج روميو لحود، ما يعني أنّ العودة إلى التاريخ المسرحي المحلي من باب ما يعدّه الجميع ويسلّم به مرجعاً نقدياً مهما، أمر محكوم بمشيئة الناقد ورغبته، الذي قد ينحو منحى إنكار العارف بوضعية هذا الرائد أو ذاك، قصداً لا عفوا، وبما يراه هو مناسباً للتوثيق والدرس والحكم ؛ فليس مما يعقل ويُلتفت إليه أنّ خالدة سعيد لم تسمع بروميو لحود ، بغضّ النظر عن إعجابنا به من عدمه، صاحب أكثر من أربعين عملاً فنياً قدّم معظمها في المرحلة عينها، التي شملها الكتاب، ومع التأكيد على أن ما جاء فيه هو الذي ساقنا إلى ما نقوله ونضيء عليه بالمعلومة لا بالاتهام. إنّ التمثل الوعوي لما نقول، يدفعنا إلى القول إنّ صانع المسرح يشتغل ويجتهد ويعرض وتنطوي تجربته مع الزمن إلى تلافيف الذاكرة، أما الناقد الذي هو بالضرورة منقِّب/ باحث عن الحقيقة وموثّق لها، فإنه يبقى الناظم الفكري القِيَمي للتجربة المسرحية، يكتب مناخها في سياقها الاجتماعي والتاريخي، لكن ذلك لا يعطيه حقّ الوصاية عليها، فإذا شاء أحياها بالشواهد والأدلة، وإلا فإنه يميتها بالتعتيم، لاعباً لعبة الديكتاتور بالتجاهل والإنكار، بل والإقصاء، وكأن المُبدِع نكرة، مدركاً أنّ الطريق الذي تسلكه الأجيال إلى الذاكرة المسرحية يمر غالباً من خلاله، وهنا مكمن خطورته.
كاتب لبناني