ولادة مجتمع التنوير رغما عن إرهاب (الكتلة) الدموية

حجم الخط
3

لم تعد العقائد الدينية صالحة في هذا العصر لإنشاء الدول أو لحكمها، تجارب الثورات العربية برهنت أن العقل الديني فاشل في التعاطي مع أهم أمرين في عالم اليوم وهما السياسة والقانون؛ هنالك هوة سحيقة لا تعبر بين عقل لا يرى في أحياء هذا العالم وأشيائه سوى اليد العليا الخفية التي صنعتها والإرادة الكلية التي خططت لها وسيّرتها، وبين العقل الآخر الذي لا يرى في هذا الوجود من حوله سوى شبكيات من الظواهر متشابكة فيما بينها بأفعال الأسباب والنتائج وحدها.
لا يزال معظم المشتغلين في شؤون السياسة، و(الجهاد) يعتقدون أن الوصول إلى الحكم يعني الاحتياز على نوع من الملكية الشخصية، حيثما هناك في أعلى الهرم توجد مغانم كثيرة لمن يستطيع أن يستأثر بها. فحين استولى إخوان مصر على دولة الفراعنة الكبرى، تصوروا أنهم امتلكوا مال الدنيا والآخرة، تصرفوا بالدولة الهائلة على أنها مجموعة مناصب سلطوية، ينبغي لأفراد تنظيمهم أن يحتكروها لأنفسهم، فالوزير ونائبه، والمدير العام ورئيس الدائرة. وحتى الحاجب، كلها وظائف حكومية، لكنها في شرعة المتدينين من هؤلاء الإخوان، أصبحت هذه الوظائف هي مجرد هباتٍ سماوية أغدقها الله عليهم باعتبارهم من ‘عباده الصالحين’.
زعماء الإخوان في مصر لم يكونوا يحلمون يوماً أنهم سيحكمون دولة القطر العربي الأكبر والرائد في كل من تاريخ العرب وثقافتهم ماضياً وحاضراً، لقد قفزوا على ظهر الثورة الشبابية متأخرين عن موعد انطلاقها أياماً عدة، لكنهم سرعان ما التحقوا بذيل الركب الثائر، كان يمكنهم أن يبقوا هناك لولا أنهم تلاعبوا عبر المواقف المتناقضة ما بين الأقطاب والفئات المتهافتة على قيادة الثورة، لكي يحتلوا مراكز الصدارة؛ فكان لهم الدورُ الأول في إفساد العلاقات الناشئة بين شبيبة الثورة وأعضاء المجلس العسكري. هكذا أخذ الإخوان على عاتقهم مهمة الفصل الخبيث والمبيّت بين صناع الثورة وصناع الحكم. فقد ارتد الشباب إلى الشوارع والميادين، واضطروا إلى الصدامات الدامية مع قوات الأمن في محطات متتالية من المرحلة الانتقالية الأولى المعقودة قيادتُها لأعضاء المجلس العسكري سابقاً. في حين ظهر الإخوان أنهم أصبحوا حلفاء الضرورة للعسكر، بل أكثر إنهم الحلفاء الطبيعيون لكل من يعرقل وصول قوى الحرية الحقيقية إلى مقاليد السلطة العليا في الدولة. ولقد بلغت هذه المهمةُ ذروتَها العظمى مع الانتخابات الرئاسية عندما وجد الناخب المصري نفسه محاصراً بين خيارين: إما مرشح العسكر أو مرشح الجماعة الإخوانية. فقرر أن يسقط الأول، وإن اضطر إلى الإتيان بالآخر. هذا الذي لا يزال مدعياً للثورة وأهدافها.
واليوم، بعد تصحيح انحراف المرحلة الانتقالية التي تقاسم الحكم فيها كل من المجلس العسكري لمدة أكثر من عام، ثم حل مكانه سلطان الجماعة مرسي وجماعته لعام آخر، هل هي الثورة الأصلية عائدة إلى أيدي صناعها الأوائل. هل يمكن القول أن العنف الدموي الرهيب الأخير قد أجهز على وجود الجماعة عضوياً مادياً بعد أن أجهزت ثورة 30 يونيو عليها سياسياً سلطوياً، هل انتهت مصر من تيار الجماعة الذي صاحب حياتها السياسية منذ ما يقرب من ثلثي قرن أو أكثر، أم أن الدولة هذه المرة، وليست الثورة فحسب، هي التي ستعاني من عقابيل الحدث الدموي الراهن. أما الثورة فلا يبدو أنها هي المرشحة لحكم هذه الدولة قريباً. فالجولة الحالية ستكون حافلة بأطوار أخرى من المصاعب البنيوية المتشابكة، وأولها أن الثورة ستجد نفسها مضطرة للانحياز إلى جانب الدولة، ما يعني أنها ستكون شريكة لها في صراعها الأمني، ذاك الصراع الذي سيكون الشغل الشاغل الرئيسي لمصر الدولة خاصة ليس إزاء الجماعة وحدها، ولكن مع من ستفرِّخه الجماعة من ارهابيات وجهاديات وتكفيريات.. الخ.
ولكن من قال أن على الثورة أن تتحمل قسطها (المتصور) من أعباء الدولة الذاهبة إلى نوع من حرب أمنية متشعبة ورهيبة ومن دون حدود معلومة أو مقدرة سلفاً، هل كان ذلك المنعطف الدموي هو خيار الثورة المحتوم، حتى تضطر أن تحافظ على (حلف الضرورة) مجدداً مع الدولة متحمّلةً نصيبَها من نتائج (نضالهما) المشترك، وهذا مع العلم أنه ليس هناك مسؤول ثوري يمكنه أن يجزم بتوفر إرادة ثنائية في قرار التصدي بالقوة للاعتصامين المركزيين في القاهرة، من قبل الجماعة وأنصارها. فالدولة المصرية المحكومة راهنياً بصيغة مدنية عسكرية كمرحلة انتقالية جديدة تولدت مع ثورة الثلاثين من يونيو، معقود قرارُها الأمني لأجل غير مسمّى للجهة العسكرية المسؤولة عن إسقاط دولة الأخونة السابقة؛ ومع اضطرار مسؤولي المرحلة إلى العودة إلى القانون العرفي تدخل السلطة تحت الخيمة العسكرية بصفة شبه كلية. ما يعني أن المجتمع المصري مقدم على حقبة انقسام حضاري ملتبس بين سقف عال من القيم المدنية في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وقاعدة متجذّرة في عميق تكوينه البشري والغرائزي؛ فالنهضة العربية المغدورة منذ عهد (محمد علي) فشلت عبر مختلف منعطفاتها البنيوية في إنتاج لحظتها التنويرية المنشودة؛ طيلة ما يقرب من قرنين اختبر العرب كلَّ نماذج الثورات التي عرفها تاريخ الإنسان، لكنهم أخطأوا دائماً الطريق الموصل إلى تلك الثورة الأصعب، المصطلح عليها باسم فاعلها وموضوعها، إنها ثورة العقل العربي التي لا تظل أسماؤها أسيرة الكتب، ولكن تتحقق مفاهيمها/أفعالُها في أنظمة الحياة العامة والخاصة معاً، وفي وقت واحد.
الربيع العربي، مثلما أيقظ خفافيش الظلمات الدهرية، وأطلقها من جحورها وكهوفها، فقد آن له أن يحرر المارد الآخر، هذا العقل الحبيس في قمقم الجهالة والتعصب، وثورة مصر تواجه اليوم صراعها الحضاري مع حرّاس هذا القمقم؛ كشْفُ الغطاء عن القمقم هو الممنوع الدهري المستدام، بحيث يمكن لأكبر الأحداث أن تعصف بمجتمع الاستبداد، لكن من دون أن يُرفع الغطاءُ عن قمقمه السري المخفي؛ ذلك أن التغيير النوعي الذي تقاربه أحداث مصر الأخيرة يكتسب دلالة معرفية غير مسبوقة، وهي أن التنوير لم يعد مجرد نظرية للقراءة، أو نموذجاً تاريخياً لحضارة أخرى، لقد توفرت أهم أسبابه الواقعية، وعلّته الأولى أنه أصبح هو والثورة توأمين متكاملين. لم تعد الثورة مجرد أفكار مسوغة في مخيال شبابها من دون أن تفيض أحداثاً مشبعة بدلالات مدنية إنسانية آتية.
إنها المعركة الأشق التي تنتظر شباب الربيع العربي في القاهرة، وفي حواضر كل الوطن العربي، ليست هي معارك إسقاط أنظمة الاستبداد/الفساد الحاكمة وحدها، بل هي التصدي لما هو أصعب منها، إنها المواجهة المطلقة مع الأنظمة المعرفية البالية المسيطرة على الذهنية الكتلوية للبيئات المترسّبة في قيعان مجتمعاتها، تلك الكتلة العميقة التي تستمّد منها حركاتُ الردّة السياسية والثقافية أرصدتَها البشرية والإيديولوجية معاً. ومع ذلك برهنت انتفاضة عشرات الملايين في يوم (30) يونيو، أن هذه الكتلة لن تظل حكراً على حركات الردة، بل لعلها أصبحت قابلةً للاستجابة العفوية لنداءات الحرية، ما أن تساقط حكم الجماعة في شباك الاستبداد للدولة الفرعونية القديمة عينها، هذه الكتلة العميقة المصدرة لظاهرة الحشود المليونية حتى أثبتت أيامُها الثورية الكبرى، الدامية منها أو السلمية المتسامحة، أنها لن تبقى مجرد خزّان هائل من القوى الاحتياطية المطواعة لصالح هذا الفريق السياسي تارة أو لذاك الفريق الآخر. فكانت تلبيتها العارمة لنداء حركة (تمرد) بدءاً من تواقيع ما ينوف على عشرين مليونا، على اللوائح التاريخية المطالبة برحيل الجماعة، كانت استجابة فريدة في تاريخ المظاهرات الشعبية العالمية، دشّنت نظامَ الديمقراطية التشاركية ضداً على نظام الديمقراطية التمثيلية المعمول به في البرلمانات الحديثة، أي أنها أعادت اجراء التصويت إلى أصله المباشر، إلى العدد الأكبر من الناخبين، وبذلك تم سحب الشرعية عن الجمهورية الإخوانية، وبعدها بأيام قليلة طلب الجيش التفويض من هذه الغالبية المباشرة التي لبّته بثلاثين مليوناً ـ من رموز المجتمع، وليسوا من نُسخ (الكتلة) ـ نزلوا إلى ميادين القاهرة كيما يخولوا جيش مصر بإنزال رئيس تلك الجمهورية الفئوية عن كرسي الحكم استكمالاً لنزع شرعية أمست باطلة عن تلك الجمهورية، عن مؤسساتها ورمزها الرئاسي.
إنها مناسبة نادرة في مسيرة شعوبنا أن تلتقي الدولة وجيشها وغالبية المجتمع مع طلائعه الثقافية ومعظم تشكيلاته السياسية والحزبية، يلتقون جميعاً حول إرادة وطنية واحدة، هي إنقاذ الثورة، واستردادها من لصوصها الزائفين. أما ما تبقى من الكتلة الشعبية العميقة فمنها شرائح مأخوذة بانفعالاتها الغريزية، واقعة تحت سلطان التحريض من بعض كبارها، أو ممن لا تزال تؤمن بسيادتهم على عقولها. هذه الشرائح التائهة ليست ضالة ومضللة إلا بقدر ما يفشل أصحاب الحقيقة في استقطاب جماهيرها المبعثرة، في التلكؤ أو العجز عن استثمار فرص التاريخ المتاحة لهم. وما يحدث في مصر اليوم هو الفرصة النادرة، هو ما يُصطلح عليه في فلسفة التاريخ باسم الضرورة الذهبية. ذلك لأن الثورة العربية، ولأول مرة في مسيرتها النهضوية المتعثرة دائماً والمغدورة غالباً، باتت تلامس مشارف عصرها التنويري على مستوى المشاركة الجماهيرية الأوسع، وليس عبر الجامعات أو الأندية الثقافية المغلقة.
لأول مرة يصير للعمل العربي العام عنوان نهضوي: ثورةٌ جماهيرية عارمة باسم العقل العربي وحده..

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عماد الحاج ساسي:

    عميق ومتالق في تحليلك كعادتك لكن دعني احاورك هل ترى في قادم السنين افولا لاصنام الفكر الظلامي وبداية لممارسة العقلانية في الحياة اليومية وهو ما يوفر مخزونا حقيقيا لضمان عدم الردة ؟ انا متفائل تماما وانت ؟

  2. يقول وليد:

    سيدي الكاتب المحترم. قال الله في كتابه الكريم (وارجو ان لا مانع لديك ان استشهد بالكتاب المؤسس “للعقل الديني” لدى المسلمين) ولا يجرمنكم شنآن قوم على ان لا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى. فمهما بلغ كرهك للإخوان ولمنظري الاسلام السياسي والداعمين له او معارضتك الموضوعية للفكر الديني فمن العدالة بمكان وانت المثقف المقيم في عقر الجمهوريات الديمقراطية ان تتمسك بالمبادئ الديمقراطية التي هي اساس مجتمع التنوير الذي تدعو اليه ونحن معك خاصة وان تجارب الانقلابات العسكرية في العالم وخاصة العربي منه لم تأت الا بالخيبة وعرقلة التطور الطبيعي الذي ينتج عن الممارسة الديمقراطية. انا يا سيدي لا اتفق مع خلط السياسة بالدين ولكني مع احترام صوت الأغلبية في صناديق الاقتراع النزيه مهما كانت النتائج ومهما ضأل حجم الاغلبية ومهما كانت دايناميكية اللعبة السياسية وارى أنه من الظلم ايجاد المبررات الواهية للتغلب على خصومي السياسيين بطرق لا تتناسب مع المبادئ الديمقراطية. ام نريد ان نبني مجتمع التنوير بالتحايل على الحق؟

  3. يقول كردي:

    لقد إنشغلنا على أطروحات المبدع الكاتب المفكر الثوري السيد مطاع الصفدي لغياب مقالته في الأمس هؤلاء حقا أبناء فلسطين المغدورة المحتلة هي نصف بلاد الشام زائد مركز وجدان جماهير الأمة العربية و الوعي الأنساني الخلاق المحلق .شكرا.

إشترك في قائمتنا البريدية