«ولاعة ديوجين» للمغربي عزالدين بوركة: بحث عن المعنى أم تمجيد للعبث؟

حجم الخط
0

«أنا لا أكتبُ الشعر
أنا أرقصُ عَاريا في مستنقع اللغة»
عز الدين بوركة
خطاب التمرد:
الشعر خطاب الباطن قبل أن يكون قولا أو كتابة جمالية. وقد انتقل بحكم الحداثة ـ في نموذجنا العربي- من مجرد التعبير عن مجريات الواقع الخارجي في علاقتها بالذات، إلى التركيز على الآثار النفسية الناجمة عن سلطة العقل الجمعي ومعتقداته.
وبهذا المعنى أضحت الكتابة الشعرية تؤسس معناها الخاص، وتبني عوالمها الممكنة انطلاقا من حريتها في الإفصاح عن مكنون الذات، وتصورات العقل وتمثلاته تجاه الإنسان والطبيعة والعالم. إن الحداثة الشعرية اليوم تبقى منفتحة على كل أشكال التأويل الممكنة، لتفكيك بنياتها والكشف عن أنساقها التعبيرية بمختلف أنواعها الاستعارية والرمزية والإشارية لاقتحام تُخوم المعنى. إذْ أضحى النص الحداثي تطريزا فنيا تتعالق فيه الأنساق، مدعومة بجرأة الشاعر على صناعة لغة لا تخضع للمألوف ولا تهادن السائد، ولا تحدها الحدود. ويعتبر الشاعر المغربي عز الدين بوركة، واحدا من أبرز الشعراء المعاصرين وأكثرهم حضورا وجرأة في التعبير والدفاع عن مقترحه الشعري، المناهض لأي تقليد أعمى، يعيد اجترار المقولات والأشكال المحافظة. ولا يدخر جهدا في تسخير عُدَّته المرجعية «الحداثية» لإبداع أشكال جمالية تعكس حسه الإبداعي المتمرد؛ بما تيسر له من قدرة عالية على الاشتغال في مجالات الشعر والنقد والتشكيل، مسنودا برصيده الفكري الفلسفي وبانفتاحه على الثقافات الإنسانية والجمالية، المنتصرة للحرية، ليس باعتبارها قيمة وحسب، وإنما بكونها الخلاص المنشود.
«ولاعة ديوجين»: التشبيك بالومض والتشكيل بالضوء
هناك خاصيتان تهيمنان على نصوص هذه المجموعة: التشبيك بالومض والتشكيل بالضوء. وكلاهما ينشآن من طرائق التوظيف اللغوي، وتعدد صياغات بناء العبارة وتوليد الجمل الشعرية. ويمكن تقصي المفهومين معا، من خلال رصد علاقة لغة المجموعة الشعرية «ولاعة ديوجين»، (مجموعته الشعرية بعد إصداره الأول «حزين بسعادة»)، بالرسم والتشكيل، وحضورهما القوي لتأثيث الفضاءات الجمالية للنصوص. ولما كانت العين طريق البصر والرؤية؛ فإن اللغة تستعين بها لتبعث النور في ثنايا الكلمات، التي تستحيل إلى أيقونات لونية تضئ النص، ليتسق البناء بحثا عن جدوى المعنى الثاوي بين سقوف الدلالة والرموز: (الولاعة/ ديوجين).
مصباح ديوجين: بلاغة العين والرسم بخطوط الضوء
هل جسد ديوجين أزمة المعنى وفساد المنطق الذي يركن إلى قبول السائد القابع في زوايا العتمة؟ ما الذي يعنيه أن يخرج «ديوجين» على الناس شاهرا قنديله في واضحة النهار، باحثا بين الناس عن الحقيقة؟ مصباح ديوجين جهاز للكشف، مساعد على وضوح التجلي وإضاءة العتمات، لذلك نعتبر أن اختيار هذا العنوان هو بداية لانطلاق الشرارة الشعرية التي تؤثثه، وتجعل منه لوحات مطروزة بعناية وإحكام. فالشاعر يمسك ولاعة اللغة، ليوقد قنديل التمرد والاحتجاج على وضع قائم لا يستقيم مع الحلم الكامن في نبضه، الثاوي في اللهب الوامض في فكره ومتخيله. يشحذ «ولاعته» بضوء العين؛ والحال أن العين رمز للإبصار والنور، ودلالة على الحكمة. وباب فسيح يفضي إلى الفهم المختلف، وإلى إدانة المعنى المُقَيَّد، من حيث ينبغي له أن يكون طافحا بالضوء/اللهب، يمحو مداد الكتاب العسير، الذي يحنط المعنى، ويكبل أجنحة الفراشات. ينقش بوركة الدهشة على جسد النص، ويوقظ فضول المعنى المُهَرَّبٍ ليَخرج من جُبَّة الكتاب القديم:
البارحة قرأت كٍتَابا عَسيراٌ عَلَى الْهَضْمِ
لِهَذا أَكَلْتُ تُفَّاحَةً مٍنَ الشٍّعْرِ
وَنِمْتُ.
تنهض هذه الصورة من وحي العين، التي يرسم بها الضوء إطار النص، وساحة السجال. فيمسح غبار «البارحة»، أي الكتاب العسير الذي يخنق المعنى، ويحجب نور العين ورغبتها في اختراق المدى. لا سبيل للمواجهة إلا أن يطلق الشاعر شرارات ولاعته، ويوقد عصيانه متسلحا بصعلكته، موسوسا لنفسه بقضم تفاحة الشعر. وكأنه بذلك يحكم على نفسه بالخروج من عتمات الكتاب/ القديم إلى أنوار المعنى. إنها صورة شعرية مكثفة جدا، مطرزة بألق العين في انسجام تام مع جذوة التمرد. وكلاهما يجعلان من النص تشكيلا فسيفسائيا مبتكرا، يمنح المعنى وهجا جديدا ومغايرا ومنتصرا للذات ولرغبتها في الغواية والانقلاب على النموذج. إن الوعي بهذا التشكيل لا تحكمه بلاغة العين وحسب، وإنما أيضا حضور اللغة المنزاحة القادرة على صناعة خطاب شعري بديل:
لِكَيْ تَكْتُبَ قَصِيدَة،
يَلْزمُكَ مُسَدَّس
وَرَصَاصَةٌ واحِدَة
يَلزَمُكَ خَريطَة كِنْ زَمَنِ الْحَرْبِ الْبَارِدة
وَأَنْ تَجْلِسَ عارياُ تَمَاماً
نَاظِراً لِخَوائِك فِي تَمَعُّنٍ فَاضِح
وَتَقُول: «هذَا ليْسَ أَنَا
أَنَا لسْتُ هَذَا»
هكذا تسقط هالة القداسة وتنهار الذهنية الصنمية، فينفتح النص باقتصاد لفظي كبير على جدل جريء، لا يملك معه القارئ بعدئذ، سوى أن يصغي إلى ما تنتجه العين ويفرزه التشكيل اللفظي، الذي ينشأ من لغة العين، والعين في ديوان عزالدين بوركة عين يُسْرى بالضرورة، تشاكس لغة المقدس فتبدع لغتها الماكرة المتواطئة. لغة تنحت علاقتها بين صورة اللفظ وضوء العين. وليس للكلمات حينئذ سوى أن تعين على ترجمة بهاء ذلك التلاحم المختلف، ويتكرر هذا الوضع في معظم نصوص المجموعة الشعرية بشكل لافت:
أَكْتُبُ قَصيدَةً عَرْجَاء جَوْفَاءَ مِثْلِي؛
قَصيدَةٌ بِكَلِماتٍ ذِهْنيَّةٍ لا تَتَوَقَّف عَنِ الذَّوَبَانِ
وَأُغَيِّرُ وَظٍيفَتي كُلَّ يَوْمٍ منْ شَاعِرٍ إِلَى بَهْلَوَان

وحين تشتعل العين، تبسط نورها فتخترق جدار الجماجم ليبدو العالم لها:
مُجَرَّد كلْبٍ تائِهٍ، يَتَبَوَّلُ عَلَى قَارِعَةِ الْكَوْنِ؛
أَمَّا تِلْكَ الالٍهةُ الْمُعَلَّقَةُ هُنَاكَ عَلَى أَراجيحِ الأَبْراجٍ،
كَبيرُهُم يَتَعَلَّقُ فِي ثُقْبِ الأوزون كَقِطٍّ يَلْعَقُ ذَيْلَه
إنها عين ديوجين، وضوء قنديله الذي يرى ما لا يراه الآخرون، بل هي العين/اللغة: «حمّالة رسائل شديدة التّنوّع في الإفصاح والإضمار، تستحوذ على كل حواس الشاعر لتقدّم له في مقابل ذلك صورة متفرّدة عن جوهر العالم والأشخاص. وحده الشاعر يرى اختلافًا في الشيء ذاته كلّما تمعّن أكثر، وهو الوحيد أيضًا الذي يدرك متعة ذلك. فكلما أمعنت العين في قراءة ضوئها اتسع أفق التطريز وامتلأت فراغات البياض بما يتخيله الذهن من نمنمات فكرية، تنضافُ إلى ما يحتفي به النص من توظيف سيميائي للعلامات والإشارات، يُمَكّنُ الربط بينها من الوقوف على حضور رؤية فلسفية، يسمح التوسل بها بالاقتراب من الأسئلة الوجودية التي تتقاطع في نصوص المجموعة.وتتشابك في تداخل تام مع النمنمات وأضواء البياضات، ووميض العين «الديوجينية»، إنه منتهى التشكيل والرسم بخطوط الضوء وشعاع العين.
فوضى الخواء وجع الامتلاء:
يقيم الشاعر عز الدين بوركة توتره الشعري على جدلية الصراع بين الخواء والامتلاء، كثنائية ضدية يدير الشاعر من خلالها ظهره للحدود الفاصلة بين الجود القائم والوجود الحالم؛ حيث تجد الذات ضالتها مستنجدة بنور العقل، باعتباره الآلة التي تفكر الذات بها عند اصطدامها بالنموذج الموجود بقوة الواقع، وعيا منها بالوجع وما يسببه للعقل من إيلام ناتج عن غياب الانسجام الضروري بين أنوار العقل وحدوس الذات وانفعالاتها العفوية:
عَلَيَّ الآن أن أُعيدَ ضَبْطَ الحيْلٍ
بِي رغْبة المُسْتَحيل
وَرغبَة الأيدي في العدم
بي هَشَاشَةُ فراشة
إن هذا الوضع غير المنسجم، يجعل اللحظات الشعرية في معظم نصوص الديوان مؤطرة بخواء رهيب ومرعب، مصدره الإحساس بالاغتراب والاصطفاف خارج النمط الجاهز الذي لا يقاوم بغير مواجهته بالعراء:
الْعُرْيُ مِصْبَاحُ الْحَقيقةِ
ياَ دْيوجينُ تَعَرَّى ترَى الحَقيقَةَ
……
الْعُرْيُ خامِسُ الأسْطُقسَات
فَكمْ يَلْزَمُ مِنْ ثَوْب لِتَغْطيَّةٍ عُرْيِ الْكَوْن.
إن النمط الرتيب يفرغ الحياة من التفاعل اللازم فيحيل الوضع إلى فناء وخواء، وإلى محض فقاعات لا تصمد أمام شغب العقل الذي ينساق بحكم طبيعته النورانية إلى صنع دلالاته وترتيب نظامها، أو فوضاها، نكاية في المسخ الذي يطبع العالم والقبح الذي يرافق السلوك البشري. يسعى الشاعر تبعا لذلك، إلى هدم النموذج، بسحب ثقته من سلطة النمط ويرسم صورا أخرى بديلة لألوان لغة ضوئية، لكنها قلقة ومتوترة ومستفزة. كأنه يواجه فوضى الخواء بشعرية الامتلاء، فيقذف بها بعيدا نحو مخاضات الانبثاق والانبعاث بنفَسِ شاعريٍ متمرد، لا تكبله قيود أو تحده حدود مستخفا بالتمثلات السائدة حول العالم والوجود والإنسان:
هَذَا الْعَالَمُ مُجرَّد كلب تائه يتسول عَلى قَارعَةِ الْكَوْن.
أمَّا تلْكَ الالِهَةُ المعَلَّقَةُ هُنَاكَ عَلى أَراجيحِ الأبراجِ،
كبيرهم يَتَعَلَّق في ثقبِ الأوزونٍ كَقٍطٍّ يَلْعَقُ ذَيْلَهُ
دَعكَ منْ هذا واتَّبِعْ تَعَاليمَ الْجَسد
تمجيد العبث:
يكمنُ العبث في سخرية الموقف، الذي يتم اتخاذه إزاء التصورات النمطية للوجود وقوانينه. وينشأُ من التناقض الحاصل بين الطرفين، ومن عدم قدرة المنطق العقلي على إحداث الانسجام بينهما. وهذا وضع يؤدي إلى التمرُّد، والإمعان في التشبث بحرية الذات في علاقتها برغبتها الجامحة إلى المعرفة، ومواجهة سؤال الموت. باعتباره منتهى كل تصور تقليدي لوجود الإنسان وفنائه، إذ لا يمكن لهذه المواجهة أن تقيم لها مدلولا من غير التحدي (التمرد) في إطار تجربةً تحيا بالعبث، الذي لا يعني سوى خوض معركة المواجهة والصراع الحيُّ النابضُ بين الإنسان وغموضه الخاص من جهة، وبينه وبين العالم وألغازه من جهة ثانية. يصير العبث بهذا المعنى بتعبير ألبير كامو «صراعا قائما بين مظهر العالم اللاعقلانيّ وتلك الرغبة المضطربة حول الصفاء والوضوح»، حيث لا يقين يؤطرالرؤى، ولا رضا للشاعر عن هيولي هذا العالم، الممتد في مرايا تدحرج حيرتها على بياض الورق، وتعبث بالمعنى وفق ما يقتضيه التحدي وأوضاع المواجهة:
كلُ شَاعِرٍ بَهْلَوان… أَما أَنَا فَحنْفُسَاءٌ تَلْعَبُ بِرَوْثِ الكَلِمَة
تُدَحْرِجُهَاَ عَلَى سَفْحِ بَيَاضِ هَذا الوَرَق.
هل يمكن القول ختاما، بأن الشاعر عزالدين بوركة نذر ديوانه لتمجيد العبث؟ أم للبحث عن المعنى؟ وهل يكرس تجربته الشعرية لبلورة أفق جمالي يحرض على شرعنة الصراع، بين حمأة الانتصار للوعي الإنسان وعقلانيته، وخيار الخضوع لمعايير النموذج؟

٭ كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية