يدين التاريخ بوجوده للغة التي تتحكم بشكل أو بآخر، في توجيه وتأطير مختلف الحيثيات الزمكانية والبشرية الملازمة له. باعتبار أنها كساؤه الرمزي الذي يعتمده في الإعلان عن صيرورته. إنها بهذا المعنى، النبض الحي الذي تضمن الذاكرة من خلال توازن إيقاعه، استمرارية ما يتردد عليها من أطياف وصور وأصداء أصوات، أي أن انبعاث الأحداث والأسماء والصور، يتحقق عمليا عبر النداء الموجه إليها من قبل اللغة، التي تدعوها للنهوض من رماد الصمت ومن رماد النسيان، بوصفه رمادا يحيل على اللالغة، حيث لا شيء مطلقا يوجد خارجها. وفي حالة ما إذا وجد، فسيكون حتما موجودا في ذاته أولا وأخيرا، تماما هناك، أي في تلك المنطقة المجهولة والبعيدة عن تعرفنا.
وفي سياق الإشارة إلى التعرف، سوف تحضر إشكالية الفكر بامتياز، والذي به وعبره يعلن الكائن عن تفرده الاستثنائي تحت سماء هذا الكون، وطبعا من خلال صهر «المفكر فيه « في معدن اللغة، وفي صلصال القول. هكذا سوف نخلص تلقائيا إلى الاقتناع باستحالة تمثل دلالة أي خطاب فكري، خارج منظومته اللغوية. ذلك أن الفكرة عموما، تدين بوجودها، لحظوة اللغة التي تمنحها الحق في أن تكون. إنها «اللغة» بهذا المعنى، تأخذ شكل رحم تتخبط فيه نطفة الفكرة. ما يدعونا للقول، بأن ما من خطاب إلا ويستقل بجيناته التعبيرية، التي يتشكل بها ومنها. وضمن هذا التصور الأولي، سنجد أنفسنا في مواجهة ضغط الخصوصية التي لا تلبث أن تحدث ما يشبه الشرخ الفاصل بين الخطابات المنتمية للغة الواحدة، ثم بين غيرها من الخطابات، المتوزعة على قبائل وعشائر الكون. وهو الشرط الذي سيضعنا مباشرة في قلب زمن البلبلة، حيث يهيمن التلفظ على الإنصات، في ظل غياب أي تواصل ممكن، أو بالأحرى، في غياب أي مؤشر محتمل لفهم ما يبوح به هذا المقام أو ذاك، فلا شيء ثمة في العمق، سوى القطيعة، التي لا تكف عن تكريس حضورها بين الصوت والصوت، والصمم وذويه. وهنا تحديدا، يتم التساؤل الجارح، عن الدلالة الموضوعية المسندة عادة لمفهوم «الإنساني» في ظل انتفاء شروط التواصل اللغوي العام، الشامل والمشترك.
ويبدو لنا أن هذا البعد سيظل مؤجلا ربما إلى الأبد، في ظل الحروب الطاحنة الدائرة رحاها بين اللغات، بما هي هويات مغرقة في التباسها، والمعبر عنها بشكل صريح ومكشوف بالحروب الحضارية الكبرى، التي تشنها «اللغات» المهيمنة على اللغات المستضعفة. مع التذكير بأننا في هذا السياق غير معنيين بالأبعاد المثالية للإنسانية، التي لا تمل البشرية من تعقبها ومن استحداث أجوائها، ولو على سبيل حسن النية وما يتخللها من أوهام، بقدر ما نحن معنيون بإثارة الانتباه إلى جوهرها العصي، وغير القابل للتحيين، على مستوى ساكنة العالم ككل، دونما تخصيص أوتجزيء، حيث سنجد أنفسنا بصدد مفهوم ذي طبيعة وردية، مضببة وغائمة لإنسانية صاعقة وصادمة في آن، وموغلة في تجريدها. وهي تلك التي تلح البشرية على التمسك بها، رغم انتمائها إلى قيم، معلقة بين السماوات السبع، التي بالكاد تراود خواطرنا بعض من ظلالها، دون أن نكون بالضرورة أسرى كهف السيد أفلاطون.
فمن حيث الظاهر، توهم الرؤية الإنسانية للكون، برفعها للحدود الفاصلة بين اللغات والأجناس والأعراق، بحثا عن مشترك إنساني وحضاري ممكن. وهو مطلب على درجة عالية من النبل، خاصة حينما يضعنا ضمنيا في قلب الرؤية الكونية للأشياء، التي أمست بفضل التحديث المهول لوسائط الاتصال، من ثوابت اللحظة الكونية، نتيجة تحول العالم ككل، إلى مجرد قرية إلكترونية، تتقاطع فيها الأصوات والأصداء، دون أن يتحقق فيها أي تواصل أو تفاهم، بالمعنى التقليدي الذي تعنيه الكلمة. وهو شيء جد طبيعي، ما دامت كل مرحلة معينة من مراحل الصيرورة التاريخية والحضارية، تمتلك تصورها الخاص للتواصل والتفاهم، انطلاقا من رؤيتها المتفردة، أولا للغة، وثانيا، في ضوء رؤيتها الذاتية لما تستهدفه العملية التواصلية، ذلك أن التحولات الحثيثة والمتسارعة التي تعرفها الوسائط الحديثة، تتماهى مع حركية التحولات اللغوية، بما يتخللها تباعا من انقلابات جذرية أو تكاد، في إواليات التلقي وقوانينه. وانسجاما مع المعطيات الجديدة التي تمدنا به اللحظة اللغوية، فإننا سنسلم من جانبنا، بحلول الزمن الكوني، أسوة بما تروج له المنابر الحداثية كافة، من منطلق الحلم في إمكانية انتقام هوامش العالم/هوامشنا، من ضراوة البؤس الشامل المقحمة فيه، ضدا على تطلعاتها إلى أي خلاص محتمل. ما يجعل الانتماء إلى المؤسسة الكونية، ولو في حدوده الدنيا، مكسبا مهما، سيساهم حتما بشكل أو بآخر، في حفظ وصيانة ما قل من ماء الوجه.
إلا ان هذا التمسك بهذا الهاجس/ الأمل أو الحلم، لا يمكن بحال، أن يعفينا من استحضار شروطه الصارمة والمضمرة، مجسدة في ضرورة قبلية الهامش لنسيان لغته متى دعت الضرورة لذلك، بالعمل على استبدالها باللغة الكونية، التي تسمح له بتجاوز بؤس الهامش، والاندماج في فراديس الكوني. علما بأن تحقيق هذا الأمنية غير معطى، ولا يمنح بالمجان. إنه ومن هذا المنطلق عبارة عن جواز مرور إلى آفاق الحداثة، بما يعنيه هذا الأفق من إلمام كاف بالقوانين والقيم المركزية التي بها تتشكل هوية الكوني. وبالتالي، فإن اللغة هنا هي بمثابة المقابل الموضوعي للإبدالات الجديدة، التي سيكون على الهوامش النائية أن تحيط بها، حيث ستكون معنية بتكييف طاقاتها المعرفية والسلوكية واللسانية، كي ترقى إلى لغة الكوني. والتكيف هنا، يعني أساسا، بذل مجهود عقلي وسيكولوجي هائل في عملية تشذيب القناعات الذاتية، وما تتبناه من قيم ومنظومات وأنساق. وقد يقتضي ذلك اجتثاث الكثير من الجذور التاريخية، المقترنة بهوية هذا الهامش، وبتر نسبة كبيرة من وحداته المعجمية، تلافيا لنشوب أي خلاف سلبي مع هذا الآخر، المتربع سلفا على عرش الكوني.
إن الأمر يتعلق ـ إن صح القول ـ بإكراه الذات على التنكر لكل مقومات خصوصيتها، تلافيا لمغبة إفساد مزاج «الآخر». علما بأن التنكر لمقومات الخصوصية، يفيد عمليا استعداد الهامش للتخلص النهائي من حمولة هويته اللغوية، بوصفها ـ من وجهة نظر الآخر ـ جماع أنساق، منغلقة على قيمها وعلى أعرافها، وغير «مهيأة أصلا»! للتفاعل مع أنساقه الكونية، التي تتحكم في تصنيعها وفي ترويجها سلطاته العليا.
وبالاستناد إلى هذه الاستنتاجات، يمكن القول، بأن الكونية هي اختبار ماكر موجه للغات الهوامش، قصد التأكد من حدود اقتناعها بالتنكر لجلدها الذي يعتبر من وجهة نظر المراكز الغربية، مصدر تهديد وإزعاج ثقافي وحضاري، خاصة في شقه التراثي والعقدي. كما أن الكونية في الوقت نفسه، عبارة عن فخ معد بعناية لإشعار الهوامش ذاتها، أنظمة وشعوبا، بأن أفق انتظارها الحتمي، يتمثل في ضرورة الاندماج اللامشروط في الإيقاع العام، الذي تسير عليه المراكز الغربية، في سياق إيهامها بقدرتها على التفاعل التلقائي مع الفضاءات الحداثية، المتبرئة من أي خصوصية تذكر. وتلك هي بعض مقالب لغة الكوني، التي لا تخلو من سحر جاذبيتها، شاءت الهوامش الممانعة أو رفضت.
شاعر وكاتب من المغرب