يناير من بعيد

كل عام تهل ذكرى ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، فتبدأ المواقع في نشر صور مما بقي من أحداثها على الإنترنت. ذكريات تثير كثيرا من الشجن، وربما الحزن بالنسبة لمن شاركوا فيها وصدّقوا الأمل.
لا شك في أن من شاركوا فيها رأوا ما لم يروه من قبل، من جرأة ومن معارك مع رجال الأمن في كل البلاد، خاصة يوم الثامن والعشرين من يناير، وكيف انسحبت الشرطة مع آخر أضواء النهار، وتتالت الجماهير على الميادين. ولأني في القاهرة عاصرت ذلك اليوم منذ الصباح، ولن تختلف ذكرياتي عن غيري، سواء ما تعرضت له من موت بسبب غاز القنابل، أو آخر النهار حين ظهر البلطجية بالسيوف وطاردني وزوجتي معي واحد منهم. الفارق بيني وبين غيري هو أني وكثير من الأدباء والفنانين، كنا نحاول دخول الميدان من منطقة وسط البلد وليس من أماكن بعيدة، لكن كانت كل الطرق المؤدية إلى ميدان التحرير مغلقة بمتاريس من الجنود المدججين بالأسلحة والقنابل، ومن ثم انقضي النهار منذ أن انتهت صلاة الجمعة حتى انسحب البوليس، في عمليات كرّ وفر من كل الشوارع، التي يمكن أن تؤدي إلى الميدان، مثل شارع قصر النيل وشارع شامبليون وشارع هدى شعراوي وشارع الفلكي وشارع التحرير. كانت تخيم على المنطقة سحب من دخان قنابل الغاز، وظل الأمر كذلك حتى انسحبت قوات الأمن، وتوالت الحشود هادرة من كل الشوارع إلى الميدان. في الحقيقة أن الصور وذكريات الأحداث والشهداء في كل سنة تثير الأسى، لكني لاحظت هذا العام إنها تثير الأمل والفخر عند الكثيرين من المدونين، أو متابعي الميديا. لاحظت أيضا أن الكثيرين يتحدثون عن الأمل أن يحدث ذلك مرة أخرى من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
ليس مهما هل سيحدث أم لا، ولا من يناقش الأوضاع الحالية، لكن المهم هو نبرة الأمل التي سادت مواقع التواصل على غير ما يتوقع أحد، فبعد عشر سنوات لم تتحقق فيها شعارات الثورة، لابد أن يستبد اليأس بالجميع! ما رأيته هو العكس. ولا أعتقد أن هذا التفاؤل مجرد حيلة نفسية للبقاء. لم تحدث أو لم أر مناقشات كثيرة لما صارت إليه الأحوال، إلا في بعض الصحف الخارجية. لم أفكر أن اقرأ مقالا منها يحمل هذا العنوان، ليس تكبّرا، لكن لأني رأيت. في مثل هذه الأحوال إذا دار نقاش بيني وبين غيري أقول له، الحقائق أهم من الآراء. سنختلف كثيرا في الآراء لكننا لن نختلف كثيرا في الحقائق. أكبر حقيقة هي أن الشعب المصري في معظمه خرج إلى الميادين في اليوم الثامن والعشرين، بعد ثلاثة أيام حافلة بالمظاهرات في أكثر من مدينة، على رأسها القاهرة والسويس، التي عرفت أول الشهداء.
الحقيقة الثانية ان البوليس رغم جبروت قواته، ورغم رصاصه وأعداد الشهداء التي تجاوزت الثمانمئة في ذلك اليوم، لم يصمد وانسحب آخر النهار وصارت مقولة «الشعب ركب يا باشا» التي قالها أحد رجال الشرطة في حديث تليفوني مع الأعلى منه رتبة عنوانا لما جرى. لم يكن هذا الركوب سهلا طبعا فكلف الشعب مئات من الشهداء وآلاف من الجرحى، لكن هذه حقيقة حدثت. صار الميدان ـ التحرير- وغيره من الميادين في مصر مثل مدينة فاضلة، فلم تشهد الأيام التالية، حتى تنحي مبارك، أي حوادث بين المجتمعين، وارتفع الغناء بينهم. وارتفعت صور الشهداء والصور الكاريكاتيرية للنظام ورجاله، ومشاهد انسانية لا تنسى من التعاطف والمحبة، راحوا يظهرونها من الإنترنت، ولم ينغص الميدان إلا الأيام الأولى حتى يوم الأحد، حيث كان هناك القنص في شارعي محمد محمود والشيخ ريحان، والشباب يجري بالجرحى إلى المستشفى الميداني، لكن ذلك انتهي يوم الأحد، وعاد المجتمعون في الميدان كأنهم في المدينة الفاضلة، حتى وقعت موقعة الجمل يوم الأربعاء الثاني من فبراير/شباط. كانت هذه الموقعة من أغبى ما جرى، لأن كثيرا من المحتشدين في الميادين من العفويين، تأثروا بخطاب مبارك وتركوا الميدان، لكنهم عادوا بسرعة إليه في اليوم التالي، حين وقعت المعركة الغبية. احتشد الميدان بشكل أكبر وزاد التصميم على رحيل مبارك، وكانت هذه المعركة الغبية هي البداية القوية للرحيل. عاد الميدان غناء ونُكتا وخطبا وشعارات ولافتات، ورجالا ونساء وفتيات وشبابا وأطفالا، والكل بدا مطمئنا لرحيل مبارك.. هذه حقيقة رأيتها، لم يعد هناك أي يأس ولا أي تعاطف يمكن أن ينشأ مع مبارك بعد موقعة الجمل.

في الحقيقة أن الصور وذكريات الأحداث والشهداء في كل سنة تثير الأسى، لكني لاحظت هذا العام إنها تثير الأمل والفخر عند الكثيرين من المدونين، أو متابعي الميديا. لاحظت أيضا أن الكثيرين يتحدثون عن الأمل أن يحدث ذلك مرة أخرى من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.

في الحادي عشر من فبراير أعلن رحيل مبارك عن الحكم، وكانت هذه هي الحقيقة الأخيرة في أيام الميدان، بعدها بدأت الانقسامات والمراهقة السياسية، بل النوايا السيئة للبعض أيضا، الدخول في هذه المنطقة يحتاج كتّابا في السياسة، وما أكثر ما كتبت فيها وقتها من مقالات، لكني أجد أنه من الأفضل أن لا أعود إليها، فالكل يرى نفسه بريئا، والأفضل أن أظل مع أيام الأمل، والصور التي راحت تنسال منها على مواقع الاتصال. لماذا أفعل ذلك؟ لسبب بسيط قد أكون مخطئا فيه، وهو أن الثورات لا تحدث كل عشر سنوات، لا يبكر بها إلا أخطاء النظام حين تتراكم، وأن الطريق الأفضل إلى أي اصلاح الآن هو الديمقراطية، وهذه صارت عزيزة للأسف، بل وكلمة ديمقراطية ينالها الكثير من النقد والشتائم في بعض الأحيان. النظام الحاكم هو الذي يبكر بالثورة، أو يفتح طريق الديمقراطية فتتأخر وقد لا تحدث. ثم إني في النهاية أديب، مهما فكرت وكتبت من أفكار في مقالات، لذلك أترك نفسي استرجع مشاهد الميدان التي لم أر مثلها، تعطيني القوة ليس أملا، لكن من بهجتها وخروجها عن المألوف. كتبت روايتين عن تلك الأيام هما «قطط العام الفائت» و«قبل أن أنسى أني كنت هنا» وكتابا عن ذكريات الميدان هو «أيام التحرير» وصارت تلك الأيام وما بعدها تتسلل إلى رواياتي التالية فهي أحداث كبرى لا تضيع من الروح بسهولة، إلا إذا ضاعت الروح معها.
أذكر فقط شيئا شخصيا يحزنني حتى الآن، وهو أني يوما ما، وأثناء الوجود في الميدان وصور الشهداء حولي في كل مكان، واقرأ على الفيسبوك قصص موتهم، فكرت أن أكتب قصيدة عن الشهداء. امتلأت روحي بالقصيدة، أنا الذي لا أكتب الشعر إلا نادرا في رواياتي، وامتلأ صدري وقاربت القصيدة على الانفجار والخروج، لكن في ساعة راحة في مقهى البستان، جلست جوار شخص لا أعرفه. لم أره قبل ذلك ولا بعد ذلك، كان زحام المستريحين في المقهى والشارع والممر أيامها لا يعطيك فرصة اختيار مع من تجلس. أمر عادي أن يكون يعرفني لأنه رأى صورتي من قبل في الصحف أو رآني في التلفزيون. أخذنا الحديث إلى ما يحدث وتذكرنا الشهداء الذين تمتلئ روحي بهم، ولم يتبق على انفجار القصيدة إلا أن أجد الفرصة للجلوس وحيدا، فإذا به يسألني «هل تعرف سالي زهران؟» قلت أجل.
قال إنه من بلدها سوهاج، وإنها لم تستشهد في مظاهرة، بل انتحرت وألقت بنفسها من البلكونة. طبعا عرفت في ما بعد أنها هددت أمها بالنزول من البلكونة حتى تفتح لها الباب فسقطت، وكانت أمها قد منعتها من العودة للمشاركة في المظاهرات، التي كانت قد شاركت فيها في الصباح، وعادت إلى البيت لتغير ثيابها التي امتلات بالماء من عربات البوليس وتعود. حين قال لي ذلك أخذني الصمت، ليس دهشة، ولكن لأن ما في صدري من رغبة تكاد تنفجر بالقصيدة خرج كأنه هواء يخرج من عجلة، وأغمضت عينيّ وأنا أشعر بأن شيئا لم يعد موجودا في روحي ولا صدري، ظللت صامتا ألعنه في سري، وقام هو كأنه كان قد جاء ليفعل بي ذلك، ولم أره حتى اليوم.

روائي وكاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية