يوغرطة التونسية: صخرة صقلها الزمن وقاومت الغزاة

روعة قاسم
حجم الخط
4

 تونس ـ «القدس العربي»: تقع مائدة يوغرطة في منطقة قلعة سنان التابعة لولاية الكاف شمال غربي تونس، في مكان مرتفع عن سطح البحر بـ 1170 مترا، وتعتبر امتدادا لجبال الكاف العالية كما يسميها التونسيون. وتبلغ مساحة هذه المائدة 800 ألف متر مربع، وهي صخرة جبلية ضخمة في شكل مائدة تشرف على القرى الحدودية التونسية وفيها كهوف ومخابئ وتصلح لأن تكون ملجأ للثوار والمقاومين ومكانا لمراقبة تحركات الغزاة والأعداء.

ويبدو أن العوامل المناخية هي التي صقلت وعلى مر الزمن هذا الجبل حتى بات على شكله الحالي الذي جعله شبيها بالمائدة التي لم يعد ينقصها إلا يوغرطة وجنده للاجتماع والتخطيط لمقاومة الغزاة من الرومان. فمن تلك المائدة قاوم يوغرطة الشمال أفريقي إلى الرمق الأخير حلفاء جده، أو من قام بكفالته بتعبير أدق، ذلك الخائن ماسينيسا النوميدي، الذي غدر بقرطاج وباعها للرومان بثمن بخس بعد أن أبلغهم بمخابئ أسلحتها في جهة غربها ثم قاتل معهم ضدها.

ثكنة عسكرية

وتوجد في مائدة يوغرطة خزانات مياه ومساكن للنوميديين تعود إلى أكثر من 2000 سنة، وكذلك معبد ومقام لأحد الأولياء الصالحين، وهو دليل على تعاقب العديد من الحضارات. كما توجد بمائدة يوغرطة مغاور وآثار هامة تعود إلى مراحل مختلفة، ويوجد أيضا درج صخري يمكن الصعود والنزول منه وهو ما يجعل منها موقعا مثاليا لمقاومة أي حصار ظالم وجائر لفترة طويلة مثل ذلك الذي تعرض له يوغرطة من قبل الرومان. وبالتالي فهي مكان جيد جدا للهجوم والدفاع على حد سواء وكأن الأمر يتعلق بثكنة عسكرية مرتفعة ومشرفة على أرض شاسعة على امتداد البصر يمكن من خلالها رؤية العدو من بعيد خلال مسيره.
وتحيط بالصخرة الجبل سهول خضراء وهضاب تميز المشهد العام في ولاية الكاف التي تتألق شتاء بتساقط الثلوج وربيعا بالكساء النباتي الأخضر والأزهار الجميلة التي تنبت طبيعيا في تلك الربوع من أرض الشمال الغربي التونسي. فولاية الكاف تعتبر واحدة من أجمل مناطق الخضراء وفيها مخزون ثقافي وحضاري كبير وهام يغري بالزيارة في كل الأوقات سواء تعلق الأمر بموسم التساقطات أو في مواسم الصحو.
وللإشارة فإن يوغرطة الذي نسب إليه الموقع هو أحد رموز المقاومة للغزو الروماني في شمال أفريقيا خلال فترة ما بعد سقوط قرطاج التي كانت حامية الشمال أفريقيين من الإغريق والرومان على مدى قرون، وبسقوطها تغير تاريخ المنطقة والعالم بأسره. وتدفع شعوب جنوب المتوسط إلى اليوم ثمن سقوط قرطاج بعد أن أصابها الوهن النفسي نتيجة الإذلال الذي عاشته تحت حكم الرومان الظالم الذي سعى إلى كسر شوكة كل مقاوم حر، وتواصل الأمر بعدهم مع سائر الغزاة من عثمانيين وفرنسيين وغيرهم.

جمهورية مدنية

لقد كانت قرطاج في عصرها الذهبي جمهورية مدنية امتدت على الساحل الغربي لشمال أفريقيا من خليج سرت في ليبيا اليوم وصولا إلى طنجة في شمال المغرب، وضمت أيضا جزرا متوسطية مثل كريت ومالطا وصقلية وسردينيا وكورسيكا والباليار، إضافة إلى شبه الجزيرة الايبيرية، أي إسبانيا والبرتغال اليوم. وكانت عاصمة هذه الجمهورية الديمقراطية، الفريدة في عصرها، مدينة قرطاج أين يقع مقر الحكم وإدارة شؤون الدولة في مدينة تونس اليوم حتى باتت تونس هي مدينة قرطاج، ومدينة قرطاج هي تونس، واستحال الفصل بين المدينتين.
ويقول الفيلسوف والمفكر الإغريقي أرسطو عن النظام السياسي الديمقراطي في جمهورية قرطاج بداية من القرن التاسع قبل الميلاد، بأن القرطاجيين «اشتهروا بإرسائهم لمؤسسات جيدة ذات مؤهلات خارجة عن المألوف، والكثير من هذه المؤهلات بلغ حد الامتياز. وهو ما يقيم الدليل على حكمة القائمين على شؤون قرطاج بما جعل العنصر الشعبي محافظا بمحض اختياره على وفائه للنظام المؤسساتي القائم. وهكذا فإن قرطاج لم تعرف أبدا من الانتفاضات والنظم الاستبدادية ما يستحق الذكر» (أرسطو: كتاب السياسة II-XI «.
وبالتالي فقد ضمت جمهورية قرطاج الديمقراطية المدنية منذ القرن العاشر قبل الميلاد مختلف الأعراق في شمال أفريقيا وعلى رأسهم الأمازيغ إن صح استعمال هذه التسمية الغربية، ولم تكن يوما دولة مبنية على لون أو عرق أو دين أو غيره. وكان حكامها سواء تعلق الأمر بنواب المجلس أو بالأسباط ما يشبه رؤساء الحكومات يصلون إلى مواقع القرار بالانتخاب. وبالتالي فإن الذريعة التي سوق لها من غدر بقرطاج وحرض عليها الرومان وغدر بها، أي النوميديين الذين ظهروا على المسرح السياسي بعد قرطاج بسبعة قرون واستوطنوا في البداية المناطق الداخلية نظرا لوجود قرطاج على السواحل، وهي أن جمهورية قرطاج دخيلة على المنطقة ويجب إخراجها بمساعدة الرومان، لا أساس لها من الصحة، لأن قرطاج قديمة ومتجذرة في تربتها وانتخب فيها الأمازيغ حكاما حتى وإن كانت عاصمة جمهوريتها، أي مدينة قرطاج، هي من تأسيس الفينيقيين، في تشابه مع روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية التي أسسها الإغريق.

ظهور يوغرطة

لقد غدر النوميديون بقرطاج طمعا في حكم شمال أفريقيا والتوسع على حسابها فمدوا أيديهم إلى الرومان وسوقوا لأكاذيب عن قصص عشق لزعيمهم ماسينيسا لا وجود لها إلا في خيالهم ونفوسهم المريضة التواقة للقصص الغرامية. وبعد أن انضموا إلى الرومان وأسقطوا أبناء جلدتهم القرطاجيين، مكنتهم روما بالفعل من مساحات شاسعة من أراضي جمهورية قرطاج وتوسعوا على حسابها. لكن في نهاية المطاف، وبعد مضي سنوات معدودة وانتهاء دورهم، قررت روما حكم شمال أفريقيا بنفسها مباشرة من دون بيادقها النوميديين، فظهر حينها يوغرطة حفيد الخائن ماسينيسا على المسرح وأعلن التمرد على روما ومقاومتها وعدم الإذعان لرغبتها في إنهاء وجود مملكة جده خائن قرطاج. وبالتالي لم يتمرد النوميديون على روما إلا بعد أن قررت حكم شمال أفريقيا بنفسها ودون الحاجة إليهم كوسطاء فظهر يوغرطة وجمع الأنصار ولجأ إلى الجبل الذي يحمل اسم مائدة يوغرطة وأقام فيه سنة بعد محاصرته من قبل القائد الروماني ماريوس، ثم قبض عليه بعد حرب طويلة بخيانة من زوج والدته بوكوس ملك موريتانيا (غرب الجزائر وشرق المغرب اليوم).
لقد اعتقد النوميديون، وهم عشائر من مرحلة ما قبل الدولة، أنهم بغدرهم بجمهورية قرطاج وافتكاك أراضيها الشاسعة في شمال أفريقيا أن الأمور استتبت لهم لكن سرعان ما عجزوا عن الحفاظ على أراضيها موحدة فتم اقتسامها بين ورثة الخائن ماسينيسا إلى أن أجهز عليهم حلفاؤهم الرومان. وحتى يوغرطة الذي كان أمل بعضهم لإنقاذ «المملكة القبيلة» عجز عن ذلك رغم تحصنه بتلك المائدة الحصينة وذلك بسبب الغدر الذي طاله من العائلة نفسها التي غدرت بقرطاج.
كان يوغرطة محاربا شجاعا لا يشق له غبار ولم يكن مسؤولا عن خيانة جده وحاول بشتى السبل عدم التسليم للرومان بروح القرطاجيين الذين لم يسلموا إلى الرمق الأخير، ويبدو أنه تعلم الصمود من سيرتهم، لكنه عجز وتجرع كأس الغدر والخيانة الذي تجرعت منه قرطاج. وخلد التاريخ ذكره مثلما خلد ذكر قرطاج كعنوان من عناوين العزة والكرامة في العالم القديم. ولاحق الخزي والعار جده ماسينيسا ونبذته كل شعوب الأرض باستثناء شرذمة من أبناء جلدته دافعت عن خياره الخائن وزورت التاريخ وأرادت تصوير قرطاج بأنها دخيلة على المنطقة وهي المتواجدة قبل ثمانية قرون من وجود مملكة نوميديا وحكمها الأمازيغ الذين كانوا من أهم مكونات شعبها.

تراث إنساني

وتسعى أطراف في تونس اليوم لإدراج مائدة يوغرطة والآثار المتواجدة بها ضمن قائمة التراث العالمي الإنساني، وسيتم التقدم بملف إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية الثقافة والعلوم، اليونسكو، في هذا الغرض. فهناك معالم مدرجة في هذه القائمة ليست بالأهمية التي لمائدة يوغرطة في حين أن هذا المكان الذي يروي أساطير الأولين تأخر كثيرا إدراجه وحفظه في الذاكرة الإنسانية. ويحظى هذا التوجه بدعم من أطراف عديدة من بينها منظمات من المجتمع المدني تهتم بمائدة يوغرطة وبتراثها الإنساني وتدرك أهميته وأهمية حفظ الذاكرة بوجه عام. ويبدو أن الجهات الرسمية لا تقوم بما يجب القيام به في سبيل تحقيق هذه الغاية.
ورغم أن المائدة هي أهم معالم قلعة سنان على الإطلاق، وواحدة من أهم معالم ولاية الكاف بوجه عام إلا أنها تعاني من الإهمال ولا يتم التعريف بها كما يجب لتحريك النشاط السياحي في المنطقة. فالمغارات داخلها يمكن العناية بها أكثر وتجهيزها للإقامة لمختلف الزوار أو للقيام بأنشطة ثقافية وترفيهية وغيرها.
وقد أقيمت بالفعل في وقت سابق أنشطة ثقافية بالمائدة على غرار المعارض الحرفية لأهالي المنطقة والعروض الفروسية وغيرها لكنها ليست كافية على ما يبدو، لأنه بالإمكان خلق حركة ثقافية في تلك الربوع على مدار العام تساهم في جلب الزوار من الداخل والخارج على حد سواء. ولا يمكن انتظار الدولة التي اعتادت على عدم استغلال الموروث الحضاري الاستغلال الأمثل، بل يجب على القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني أن تبادر إلى القيام بذلك.
ولعل قيام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بتخصيص إقامة لنفسه للراحة والاستجمام محاذية لمائدة يوغرطة في قلعة سنان من ولاية الكاف، وغير بعيد عنها، دليل على جمال المكان وسحره. كما أنه دليل على أهمية الهواء النقي الذي يميز ولاية الكاف بوجه عام وقلعة سنان على وجه الخصوص، والذي كان بورقيبة يبحث عنه سواء في الخارج أو الداخل لعلاج نفسه من الأمراض الصدرية. كما أن بورقيبة كان يعشق شخصية يوغرطة في تمرده على الاستعمار مثلما أحب حنبعل القرطاجي رجل الدولة القوي وصاحب القرار النافذ.
وما يعرف عن الزعيم بورقيبة أنه أمر بعد الاستقلال بوضع صورة يوغرطة على قطعة نقدية تونسية مثلما طالب خلال زيارة له إلى تركيا باستعادة رفات القائد التاريخي القرطاجي حنبعل وقوبل طلبه برفض «لطيف». وتم ذكر يوغرطة في بعض خطب بورقيبة في إطار إبراز التشابه بين الطرفين في مقاومة الاستعمار الأجنبي لبلدان شمال أفريقيا. لذلك لم يكن مستغربا أن يقيم بورقيبة في فترة ما قرب مائدة يوغرطة للراحة والتأمل وهو الذي كان مريضا وكثير البحث عن الهدوء والسكينة وراحة البال.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تعليق:

    مقال روعة حقا كروعة اسم الكاتبة وخاصة حينما تقول .. وبسقوطها تغير تاريخ المنطقة والعالم بأسره.. وتبقى تونس حقا من أجمل البلدان في العالم وملتقى حضارات الشرق والغرب ودرة المتوسط

  2. يقول سارة عسّال:

    إضرار لا واعي على التمرجع في البائد وهذا ما يريده أهل الضفة الشمالية من أهل الضفة الجنوبية.

  3. يقول عمر-الجزائر:

    لم يذكر التاريخ أبدا بأن الملك النوميدي ماسينيسا كان خائنا بل بالعكس فهو صاحب مقولة ” إفريقيا للأفارقة ” وهو من واجه التمدد الروماني والتمدد الفينيقي القرطاجي قي شمال إفريقيا وأسس أكبر وأقدم دولة موحدة للأمازيغ في شمال إفريقيا إمتدت من طرابلس شرقا إلى وادي ملوية غربا.. لوكان حقا خائنا كما ذكرت الكاتبة لتبرأ منه حفيده الملك يوغرطة الذي حارب الرومان ..هو فقط خائن في نظر حكام قرطاج الذين تحالفوا مع خصمه الملك سيفاكس ملك نوميديا الغربية التي تقع غربي الجزائر..يعود الفضل لفرسان نوميديا في إنتصارات القائد القرطاجي حنبعل عند إجتياحهم أوروبا لكن حنبعل لم يعمل بنصيحة أستاذه مهربعل النوميدي في الإنقضاض على روما مما تسبب في هزيمتة في آخر المعارك وهو مادفع بالنوميديين بالنأي عنه وتركهم له لمصيره في معركة زاما..

  4. يقول نورالدين:

    ماسينيسا حارب في البداية لصالح قرطاج ليس حبا فيها وإنما سعيا للحصول على مزيد من الموارد واكتساب خبرة في الميدان لأن مخططه كان يتمثل في توسيع مملكته نحو الشرق على حساب دولة قرطاج. لكن عندما أيقن بأن القرطاجيين لن يفوزوا بالحرب البونيقية الثانية (218-202 ق.م.) تحالف مع روما لأنه كان يدرك بأن مصلحته ومصلحة الرومان واحدة وهي إضعاف قرطاج والاستيلاء على أجزاء كبيرة من أراضيها. انتظر ماسينيسا نفي حنبعل نفسه إلى سوريا سنة 193 ق.م. ليبدأ بشن حملات عسكرية ضد أراضي قرطاج. بدأ أولا بغربي خليج سرت الليبي التابع آنذاك إلى قرطاج واستولى على كامل الأراضي الساحلية في غربي ليبيا اليوم. اشتكت حكومة قرطاج هذه الاعتداءات لدى مجلس شيوخ روما وذلك بموجب اتفاقية نهاية الحرب البونيقية الثانية الموقعة بين روما وقرطاج سنة 202 ق.م. لكن روما المنهمكة آنذاك في حربها ضد مملكة مقدونيا غضت البصر عن توسع ماسينيسا بل أجبرت قرطاج على مواصلة دفع الغرامة لفائدتها المنصوص عليها في اتفاقية 202 ق.م. واصل ماسينيسا بعد ذلك توسعه على حساب قرطاج بمساندة روما وحصل على أراضي جديدة لم تحددها لا المصادر الرومانية ولا الإغريقية. باختصار لا أدري هل هي خيانة أم تكتيك سياسي أملته الظروف الإقليمية.

إشترك في قائمتنا البريدية