العراق: عندنا تكفر الدولة مواطنيها!

صوت مجلس الوزراء العراقي يوم 25 تموز/ يوليو 2023 على مشروع قانون العطل الرسمية، وتضمن القانون إقرار «يوم الغدير» عطلة رسمية. والغريب أن الشيخ همام حمودي رئيس المجلس الأعلى الإسلامي يرى أن يوم «الغدير جامع لكل العراقيين»!
الحقيقة أنه لا توجد دولة إسلامية تعد «يوم الغدير» عيدا وطنيا أو رسميا سوى إيران، وقد جاء في وكالة أنباء فارس الرسمية الإيرانية يوم 7 تموز/ يوليو 2023، وبمناسبة عيد الغدير ما نصه: «يوم الغدير وعيد الغدير هو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين والمؤمنين بتنصيب علي بن أبي طالب عليه السلام خليفة لرسول الله محمد «ص» وهو يوم عظيم يحتفل به المؤمنون، ويفرحون به، وذلك للأدلة التي وردت في فضله وعظمته وأهميته». والحقيقة أن هذا يكذب الرواية العاطفية التي تسوَق على أن «يوم الغدير» جامع للمسلمين جميعا، أو «جامع للعراقيين جميعا» فهو إذا كما يقول الإيرانيون أنفسهم عيد «للمؤمنين» بالولاية حصرا!
وإذا كان هذا مفهوما، وليس مقبولا، في دولة ثيوقراطية يقرر دستورها أن مذهبها هو «المذهب الجعفري الاثنا عشري»! فهو غير مفهوم بالمطلق، في دولة فيها مجتمع متنوع ويقرر دستورها أن نظامها ديمقراطي!
وإذا ما صوت مجلس النواب العراقي، الذي يمثل العراقيين بكل أطيافهم، على مشروع هذا القانون وعلى فقرة «يوم الغدير» ضمن قائمة العطل الرسمية، فهذا يعني أن مواطني الأنبار وأربيل سيحتفلون بعيد تكفرهم فيه دولتهم رسميا!
لقد أشرنا في مقال سابق إلى أن «يوم الغدير» والذي يسمى أيضا « عيد الغدير» أو «عيد الولاية» في المدونة الشيعية، أن ليس ثمة تاريخ إسلامي موحد و«جامع» متفق عليه، بل ثمة مدونتان سنية وشيعية لهذا التاريخ، ولكل منهما مقدماتهما التي لا تلتقي بالأخرى. وهذا يعني عمليا أننا أمام حدث تاريخي يختلف على روايته العراقيون، وتختلف المقدمات لهذا الحدث لديهم، وكل طرف منهم له سردياته التي يتعامل معها على أنها حقائق مطلقة لا يدخلها الشك، وغير قابلة للمراجعة!
فالمدونتان الشيعية والسنية تتفقان حول «واقعة» غدير خم التي حدثت بعد حجة الوداع، لكنهما تختلفان في ما ترتب على هذه الواقعة، لأن المدونة السنية لا تقول مطلقا بأن ثمة «وصية» بالولاية/ الإمامة لعلي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) أو الولاية/ الإمامة لأهل بيته من بعده، فيما تذهب المدونة الشيعية إلى أن ثمة وصية صريحة بالولاية/ الإمامة لعلي وأهل بيته من بعده، وإن من ينكر ذلك ولا يؤمن به «كافر» بالإجماع، وقد نقلنا الخطاب التكفيري الصريح الذي ورد في أمهات الكتب الشيعية حول ذلك!

الطائفية لا تتحقق إلا عبر الدولة نفسها؛ فالشعور أو السلوك الطائفي الفردي، أو حتى الجماعي، مهما كان واضحا، يبقى هامشيا غير ذي قيمة خارج السياق الاجتماعي

وكل الفرق/ المذاهب الإسلامية تقول بحديث «الفرقة الناجية» الذي رواه أبو داؤد والترمذي وابن ماجة والحاكم، ونصه: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» وفي بعض الروايات: «هي الجماعة». وبعيدا عن محاولات بعض العلماء تأويل هذا الحديث، ومنهم الصنعاني في مسنده، إلا أن منطق الفرق والمذاهب في كل الديانات، هو إيمان مطلق بأنها هي الوحيدة الصحيحة، وغيرها تحريف، وهو ما ينطبق تماما على الفرق/ المذاهب الإسلامية جميعها، ويجعل المدونات الخاصة بها حريصة على تثبيت هذه الحقيقة، لهذا نجد خطابا تكفيريا صريحا أو ضمنيا «للآخر» عند الجميع!
وهذا أمر يمكن معالجته من خلال حصر المدونات التي تحمل خطابا تكفيريا متبادلا، في مجالها الخاص المتعلق بالدرس الديني العالي، وأن تبقى مناسبة شيعية بحتة مثل «عيد الغدير/ عيد الولاية» يحتفل بها المؤمنون الشيعة في المجال الخاص، ولا تنُقل إلى المجال العام بأي حال من الأحوال، لأن هكذا نقل سيصطدم بالضرورة بسردية «الآخر» أولا، كما أنه سيعيد الجدل العقيم مرة أخرى حول قضايا تاريخية/ عقائدية لم تحسم على مدى 1400 عام، ولن تحسم إلى قيام الساعة!
لكن الذي يحدث في العراق اليوم هو أن الدولة نفسها قد انحازت هذه المرة إلى مدونة دون أخرى، واعترفت بسردية دون أخرى، وتريد أن تفرضها بنفسها على المجال العام! وهذا الانحياز ينقض منطق الدولة نفسه، الذي يفترض أنها كيان حيادي تجاه مواطنيه، وبالتالي حيادي تجاه «مدوناتهم وسردياتهم» وعقائدهم، خصوصا في بلد متنوع كالعراق!
وقطعا لن نناقش لماذا صوت الوزراء السنة والكرد بالموافقة على مشروع قانون يتضمن تحيزا غير منطقي للدولة تجاه مواطنيها، بل ويتضمن «تكفيرا» ضمنيا صريحا لـ 50٪ من المجتمع العراقي، أو على الأقل الغالبية العظمى منهم (حسب معلوماتي صوت 4 من الوزراء السنة بالموافقة مقابل رفض 2) فهذا مفهوم تماما في سياق البنية الكلبتوقراطية والزبائنية للنظام السياسي في العراق! وهو ما يجعل التفكير بإمكانية أن يعطل مجلس النواب تشريع هذا القانون، او تعديله لحذف «يوم الغدير» من قائمة الأعياد والعطل الرسمية مجرد «عبث»!
نحن نؤكد دوما على أن الطائفية لا تتحقق إلا عبر الدولة نفسها؛ فالشعور أو السلوك الطائفي الفردي، أو حتى الجماعي، مهما كان واضحا، يبقى هامشيا غير ذي قيمة خارج السياق الاجتماعي، وهو قابل للتقييد عبر وسائط الضبط الاجتماعي أولا، والقانوني ثانيا. لكن الطائفية حين تتجسد وتتحول من وجود بالقوة على المستوى النظري، إلى وجود بالفعل على المستوى العملي، عبر الدولة ومؤسساتها، ويتم تبني مدونة وسردية محددة مختلف عليها، عندها فقط يمكن الحديث عن «الطائفية» وعن «طائفية الدولة»!

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية