قد لا تتفاجأ من الحَجر الصحّي في العالم ، لأنّك كنت تعيش بينك وبين نفسك أكثر ممّا كنت تعيش مع الناس. أن تكون وحدك ليس ألاّ تكون مع أحد بل أن تكون كَلَا أحد! هو أن تكون كبصمتك فلا تتكرّر في يد أخرى وهو أن تكون حياتك عكس جِيناتك : تخلقها ولا ترثها.
لم نعش حجرا صحيّا من قبل، نحن الذين ننتمي إلى مجتمعات تحمل صحتها في كفّة وأدوات عملها وكدّها في كفّة أخرى. في مجتمع رأس مالك المعنويّ فيه هو صحتك وما كدّت يمينك فإنّ صحتك هي صحّة كثيرين: عيالك وأمّ عيالك وأهلك وهؤلاء هم دائما وأبدا عيال الله.
عيال الله هؤلاء ليسوا جميع خلقه ، وأنا لا أحرّف هنا النصوص لا سمح الله ، بل أتحدّث عن استعمال خاصّ للعبارة في هذا المقام. عيال الله هم خلقه الذين أضاعتهم الحسابات: أضاعتهم حسابات الطرح فطرحوهم من كلّ ربح ومن كلّ خسارة ، أضاعتهم حسابات الجمع : جمعوا أنفسهم وتركوهم خارجا، أضاعتهم حسابات القسمة إلاّ قسمة واحدة يعيدونها كالحكمة: أنّ الحياة قسمة ونصيب.
حين تكون من عيال الله تستعمل لغة أخرى غير تلك التي يستعملها أولئك الذين اشتروا كلّ شيء حتى صكوك الغفران.فحين يحدّثك عيال الله عن المستقبل حديثا من نوع الحياة قسمة ونصيب يعنون أنّ مفرّق الأرزاق يقصدك وأنت في موضعك فما آتاكه خذه ولا تناقش فلست تدري حكمة الغيب أكثر من مدبّره . الغيب ليس زمانا والغيب ليس مكانا والغيب مملكة بعيدة لا تظلم. النصيب في هذه القسمة هو الجزء الذي خصّص لك من قسمة لا تكون فيها الحصص متعادلة وهذا طبيعي. هناك طبعا من يكسب حصة أكبر منك لأن ذلك مشيئة كما أنّ نصيبك مشيئة . عيال الله هم قوم أخذوا من قسمتهم قليلا ولكنّهم واثقون أنّ الذات العليّة لن تتركهم. عيال الله هؤلاء هم الذين لا يفهمون الحجر الصحّيّ ولا يفهمون ما معنى كورونا ولا يعرفون من المجهول إلاّ ما سطّر لهم ؛ لذلك لا يأبهون بغلق أبوابهم عليهم ـ كثير منهم ليست لهم مغاليق وبعض منهم ينسى متى كانت آخر مرة أغلق فيها الباب.. عيال الله حين تقول له شيئا عن المستقبل يقولون لك « يا مَنْ عاش».
أقول لأحدهم بعد الحجر سأفعل فيقول يا من عاش .. أنا نفسي أقولها لأبنائي يقول أحدهم شيئا عن المستقبل القريب فأقول يا من عاشَ.. أقولها بلهجة عاميّة تونسية يغلب عليها السكون والكسر (يَا مِنْ عَاشْ) كسر الـ(مِنْ) لا يجعله حرف جرّ هو اسم موصول للعاقل لكنّه مكسور.. لست تدري من أوّل من كسره قبل قلب المواضعة عليه من فتح إلى كسر.
الفعل لا يُسكَّنُ في الفصيح لكنّه مسكّنٌ في عاميّة ( يا من عاش) ، هو مسكّن لا للوقف وإنّما لانقطاع الحركة فجأة. السكون في لهجتنا العاميّة نزع لحركة إن طالت شقّت على الأنفس ، السكون حَجْرٌ متدرّج على حركات الحروف بأن يغلق صوتها الجهير ويعيدها إلى همس بدائيّ قبل أن تنشأ الحياة بالحركة . لا أحد من عيال الله عارف بأحوال الحركة والسكون؛ هو يتكلّم وكفى ولا يعرف أنّه يوقّع الكلام ويستعمل النّبر؛ فلو أخبرت واحدا منهم عن هذا لفغر فاه ولضرب على صدره وافتخر بما يأتي من بديع الإيقاع وحدّة النبر.
يا من عاش جملة تفتتح بالنداء ولو كنت نحويّا كما كان النحاة القدامى من أمثال سيبويه والمبرّد والجرجاني وابن يعيش لقلت على نهجهم إنّ في الجملة حذفا أو تقديرا و لَقدّرت المحذوفَ كالتالي: ( يا بَخْتَ منْ عاشَ)؛ هذا إن كنت متفائلا
يَا منْ عاشَ ، جملة إن عرّبتها عنت:( إن شاء الله ). لكنّه تعريب يخون كثيرا من الفروق . (إن شاء الله) حتى لوقلت: (يا من عاش) هي رواية عامّية لـ(إن شاء الله) لظللت ترجمانا يخون . (إن شاء الله) عبارة تحيط الكون بمشيئة خالقه ، إن شاء اللهُ فعلَ . لكنّ (يا من عاش) عبارة فيها تبئير على خلقه وفيها خلفيّة المشيئة الإلهيّة. هذه الخلفيّة لا تراها صراحة لكنّها موجودة باعتبار أنّ (من عاش ) لن يعيش إلاّ بمشيئة ربّانيّة.يا من عاش ليس فيها وعدٌ بالعمل بل بالشروع في الحديث حول ذلك العمل. يا من عاش لا تعدك بالفرج القريب بل تعدك بفتح الموضوع في ذلك الفرج القريب الممكن.
حين كنت صبيّا وكنت أطلب من والدي أن يشتري لي كراسا كان يقول لي يا من عاش كنت أتركه لأعود له بعد ذلك كنت أفهم منها دعني الآن فالوقت ليس مناسبا للطلب. لم يكن يدور في خلدي مسألة الحياة والموت طبــــعا فقط كنت أتســـاءل مـــتى يكـــون الوقــت مناسبا لأفاتح أبي من جديد في موضوع الكراس. الكراس لا يعني لي شيئا إلاّ الفرار من عقاب المعلّم الذي لا يفهم يا من عاش حين يمرّ بين الصفوف ولا يجد عني كراسا. جبر المعلّم شيء لا يفهمه انتظار التنفيذ بـ ( يا من عاش).
أعيد على والدي الطلب في المساء، في المساء يكون قد عاشَ والدي طبعا ومعنى عاش هنا أنّه اشتغل ودخل الفلس جيبه لكنّه لن يسلمني ثمن الكراس إلاّ حين أعيد عليه الطلب . إعادة الطلب تعني فتح الموضوع من جديد ومدّي بالملاليم لأشتري الكراس وأسعد بأني لن أعاقب في المدرسة.
يمكن لـ (يا من عاش) ألاّ تقود إلى شراء الكراس؛ لكنها ستعيدنا إلى الشروع في الحديث عن شرائه من جديد. سيقول والدي في المساء مثلا : (وَرَأْسِكَ مَا دخل جيبي مليمٌ أزرق). سيكون والدي قد عاش لا لكي يكسب بل لكي يقول لي إنّه لَم يكسب ، عاش ليحدّثني عن أنّه عاش ولم يكسب ثمن الكراس. ستعني كلمته وقتها أنّي سأعاقب في المدرسة لأني لم أشتر الكراس. طبعــــا في ذلك الوقــــت لم أكــن أفكّر في الظلم ولا في العدل كان تفكيري السببي مؤمن بالقسمة والنصيب : أنّ على أبي ألاّ يجد ثمن الكراس وعلى المعلّم أن يعاقبني لأني لم أشرها وكفى بالصبي إيمانا بما حصّل من مدرسته ومن عائلته ومن المجتمع.
يا من عاش جملة تفتتح بالنداء ولو كنت نحويّا كما كان النحاة القدامى من أمثال سيبويه والمبرّد والجرجاني وابن يعيش لقلت على نهجهم إنّ في الجملة حذفا أو تقديرا و لَقدّرت المحذوفَ كالتالي: ( يا بَخْتَ منْ عاشَ)؛ هذا إن كنت متفائلا ؛ أو لقدّرت المحذوف كالتالي: (يا غُبْنَ من عاشَ) إن كنت متشائما. وهذا يعني أنّه بالجملة الأولى يأمل أبي أن يحقّق الفعل: لو عشت وكان البخت معي واشتغلت سأشتري لك كراسا؛ وبالجملة الثانية لا يأمل أن يحقّق الفعل : إن عشت واشتغلت فمن الغبن أن تنتظر مني أن أشتري لك الكراس.
إن شاء الله جملة أكثر ثقة في الله تربط العمل الإنساني بالمشيئة الربّانيّة ، لكن ( يا من عاش) جملة فيها ثقة في الله ما في ذلك شكّ لكنها تربط العمل الإنسانيّ بالعقد البشريّ أو الاجتماعي المؤسّس على اقتناع المنفّذ بما عليه أن ينفّذ. يا من عاش تعني دعني الساعة في همّي أو كما نقول بالتونسي أبدل هذه الساعة بساعة أخرى، وحين يصفو الجو يمكن للحمام أن يبيض ويفرّخ.
في الحجر باتت عبارة( يا من عاشَ) تحمل معناها الحقيقي، فعاد الكلام إلى منبته الأوّل قبل أن يبعده المتكلم عن تلكم المنابت . (يا من عاش) يمكن أن تعني يا بَخْت من عاش ونجا وعندما يعيش المرء سيفعل ما أريد ونريد فأولى أسباب الفعل : أن تعيش والعيش في الحجر يحتاج أن يعيش.ويمكن أن تعني العبارة يا غُبن من عاش : وهذه أقرب إلى العمق والمأساة من الأولى : ترى من يقولها يأمل قبل أن يموت وحين يعيش وينجو بعد الحجر يعيش غبنه من جديد ، غبن من أدركت حياته فيروسات كثيرة يسميّها الناس الفقر والخصاصة والجهل والحرمان لكنهم لا يصنفونها في قائمة الفيروسات المبيدة .
أستاذ اللسانيّات بالجامعة التونسيّة.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
/يا من عاش جملة تفتتح بالنداء ولو كنت نحويّا كما كان النحاة القدامى من أمثال سيبويه والمبرّد والجرجاني وابن يعيش لقلت على نهجهم إنّ في الجملة حذفا أو تقديرا و لَقدّرت المحذوفَ كالتالي: ( يا بَخْتَ منْ عاشَ)؛ هذا إن كنت متفائلا/..
ولو اطلعتَ حقا على ما رامه النحاة الآخرون من إلغاء ما يُسمى “نظرية العامل” برمتها، كمثل ابن مضاء في كتابه “الرد على النحاة، لعلمتَ علمَ اليقين بأن “تقدير المحذوف”، أيا كان مبناه ومعناه، إنما هو ضغثٌ من أضغاث الأحلام في أحسن أحواله.. !!
أؤيد بشدة ما نبهت إليه الأخت آصال أبسال بأن “تقدير المحذوف”، أيا كان مبناه ومعناه، إنما هو ضغثٌ من أضغاث الأحلام ، لأنه خفي على الكاتب بأن “يا” هي أداة للنداء قبل التقدير (أي ورودها قبل الاسم الموصول) في حين أنها تتحول إلى أداة للتنبيه بعد التقدير (أي ورودها قبل بخت للتفاؤل وغبن للتشاؤم)؛ وهذا يعتبر عبثا وخطلا في التمثيل النحوي من جراء التقدير الذي يظن أحد المعلقين (الباشا) بأنه امكان في التوسع في الدلالة !!!؟؟
استاذي توفيق عشت بين اخوة توانسة كثيرين و لمدة طويلة في ليبيا الشقيقة
–
و زرت تونس لكني لم اسمع يا من عاش بديلا لانشاء الله هذه الاخيرة هي التعبير
–
الوحيد الذي سمعته في كلامهم الدارج فهل ربما تكون خاصة بجهة معينة بتونس
–
ام لا تحياتي من مراكش
أحد الدلائل التجريبية التي تؤكد صحة ما ورد في رد الأخت آصال أبسال باركها الله !!؟
أنا أيضا يا أستاذ توفيق تلقيت هذا الرد الدبلوماسي في طفولتي ومراهقتي وشبابي كثيرا من جداتي وأجدادي رحمهم الله جميعًا.. كانوا يستعملونه لإفهامي أن طلبي ليسا ضروريا ولا يمكن تلبيته في الوقت الحاضر وبمعنى آخر سيفعلون مابوسعهم لإرضائي إن سنحت الفرصة وإن لازال في العمر بقية .. ولايزال كبار السن في الشمال الشرقي للبلاد التونسية ومعظمهم في القرى الأندلسية العريقة يستعملون هذه العبارة إلى يومنا هذا .. والله المستعان
لي ملاحظتان على ما تقدم من تعليقات :
أولا : تعبير ( يامن عاش) كما قال لي أحد الأحباب من بلدة تطاوين في الجنوب التونسي أنه شائع على لسان كبار السن في الغالب ،
والتونسي وكذا جيرانه في مناطق أخرى إذا سألته : هل يمكننا اللقاء غدا ؟ ربما يجيبك بقوله :( يامن عاش) ، والمعنى إذا عشتُ للغد سنلتقي ، وهو التعبير المرادف للقول المشهور (إن شاء الله) كما قال الكاتب .
ويحلو لبعض المتنطعين المقارنة بين التعبيرين والزعم بأن التعبير الأول يستخدمه العلمانيون ، والثاني يستخدمه المتدينون.
ثانيا : ابن مضاء القرطبي عرف عنه أنه خالف جمهور النحاة في مسائل كثيرة من بينها قضايا العامل والاشتغال والإعلال والإبدال والاشتقاق والتنازع ،لكنه كما يبدو بالغ في بعض المواضع في مخالفة جمهور النحاة ومن بينها تحريمه لتقدير الكلام في القرآن الكريم، لأنه في رأيه أن لا حذف في القرآن ، وبذا ودون أن يقصد نفى عن القرآن خاصية أسلوبية تتيح للقارئ امكانية التوسع في الدلالة.
السماح بتقدير المحذوف في القرآن شيء والسماح بتوسيع مجال الدلالة شيء آخر ؛ يرجى عدم الخلط !؟
هناك فرق بين عقلية الرد لأجل الرد، وبين عقلية المُبادرة في تسخير العلم لفائدة المجتمع، هو أول ما خطر لي بعد قراءة ما ورد تحت عنوان (يَا مَنْ عَاش!) والأهم هو لماذا؟!
في علم التدوين، وعلم اللسانيات، وعلم لغة الآلة، وتطويع ذلك في أي نشاط إقتصادي على أرض الواقع،
القولبة، أو النقل الحرفي كالببغاء شيء، وأن تنظر إلى ما ينقص السوق، وتعمل على توفيره من علمك شيء آخر،
التواصل والاتصال والتعليم والتأهيل عن بُعد بواسطة الآلة جزء من الواقع، في أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي (الإليكتروني)،
كورونا الآن، فرض علينا إضافة حتى الإنتاج، وتوقيع العقود في التبادل التجاري، كذلك عن بُعد، بواسطة الآلة،
الاستهتار واللا ابالية من أي عالة/آلة موظف في النظام البيروقراطي، لن تضيف أي مكسب تجاري، بشكل عام،
ولكن السؤال، كيف نحتضن أصحاب المُبادرات التقنية، وهذا ما لاحظت يجهله من يؤمن بالمال أولاً،
وليس الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية أولاً،
وهنا لاحظت إدارة وحوكمة دول أولاد السوق ،
في كيفية احتضان أصحاب المُبادرات، لمنافسة النموذج الصيني، في الأتمتة، على مستوى الدول، أو على مستوى أتمتة المُنتج المحلّي، لأي خدمة من خدمات الدولة، في عصر فايروس كورونا.
العبارة يا من عاش تستعمل في الشرق الجزائري كثيرا وهي معناه حين تاتي الفرصةللتفيذ الامر المطلوب
إلى الأخ خليل من المغرب. انا مرات و مرات سمعت من والدتي تقول لي اذا بقينا عايشين يا ولدي. يا من عاش في اعتقادي هذه العبارة تقال في جميع بلدان الدنيا بلهجات و بصيغ مختلفة.في لبنان و سوريا تقال اذا بقينا عايشين لبكرا يعني لغدا. واذا شخص وعد الثاني بشيء لعمل عمل ما بعد شهر .فيرد عليه الشخص الثاني و يقول اعطينا عمر من هنا لشهر. واذا شخص قام بالوعود و التمنيات بعد فترة من الزمن لشخص ما .فيرد عليه الشخص الثاتي واذا لم يصدقه فيقول عيش يا كديش حتى يخضر الحشيش. .
تستعمل كلمة يامن عاش في ليبيا للدلالة على إمكانية حدوث حدث اذا عاش الشخص المطلوب منه الفعل لمدة معينة
الكلمة مصيرها الاندثار اذ ان الجيل الحالي لايعرفها.