يقولون يمّى إنك الآن في مكان أفضل!
حسناً.. أينَ المشكلة في مكانك الذي كنتِ فيه أصلاً؟ لماذا قد تتركين غرفتك الصغيرة التي تحوي دفءَ الكون كلّه؟ غرفتك التي تتمطّى فيها الشمس أول صحوها؟ وينام الليل على كتف نافذتها الوحيدة نصف المفتوحة على الدوام، آمناً مطمئناً بأن لا شيء سيقضّ عتمته؟
كل شيء في الغرفة، غرفتك، في مكانه، وكل شيء في غرفتك في المتناول. أتخيَّلك مستلقيةً على الصوفا أمام شاشة التلفزيون المثبَّتة على الحائط؛ توزعين أصابع يديك بين أزرار الموبايل وأزار الريموت كونترول، يتقلّب هواك بين قنوات الشاشة من قائمتك المفضلة وتعلّقين على منشورات «أصدقائك» الكثر على الفيسبوك وتدخلين على صفحة فيفي عبده، تتابعين فيديو منزلياً لها ترقص فيه بعفوية «فجّة» قبل أن تتركي لها تعليقاً «يسم بدنها»! من نوع «كرشك كبرانة يا فيفي ولم تعد تصلح لهزّ الخصر!». وبين هذا وذاك، ترسلين لي صورة أو فيديو من «منشورات» الأمهات الرائقات التي تحتفي بزقزقة الصباح وصفاء الوقت وفنجان القهوة وشلالات الماء (رغم عطش خزانات الماء في بيتك بسبب انقطاع مياه البلدية منذ يومين!) وباقات الورد النضرة.
لكنك يمّى لست كالأمهات. أنت أمي أنا؛ المرأة الجميلة، اللمّاحة، الذكية بلمسة دهاء، المرحة، الحكيمة، المحنَّكة، القوية بلا تجبُّر، الضعيفة بلا انهزام، الصبورة، المتهكِّمة، الساخرة، الناقدة اللاذعة علناً أو «من تحت لتحت»، الحنونة، الشغوفة، العطوفة، الكريمة، النقية، «الحقانية» لو على قطع الرقبة، باسطةً اليدَ للسائل قبل أن يسأل، فاتحةً الباب للطالب والشارد والمقطوع، سخية الدمعات، سخية الضحكات، سخية الجيب رغم فراغ الجيب، المرأة المحبَّة للحياة والطعام والناس، كل الناس. أنتِ أمي أنا المحبَّة لي أكثر من حبّك للناس.
«لمن هذا الطعام كلّه يمّى؟ بيتنا لا يتسع لكل الناس يمّى!» أعاتبكِ على الكثرة فتفحمينني بحكمة جدتي، التي ورثتِ منها نفَسَها المذهل في الطهو: «بيت الضيق يسع ألف صديق»، مطعِّمةً الكلمات بلهجتك الشامية المعتقة!
***
الناس يمّى، كل الناس، يقنعونني بأنك أصبحتِ في مكان أفضل!
أي مكان يمّى يمكن أن يكون أفضل من بيتك؟
أهان عليك يمّى أن تتركي بيتك؟ بيتك العتيد الذي تشتاقين إليه ما إن تغادريه؟ بيتك العتيق الذي تعشقينه حتى وإن حتّت طبقات الطلاء من حوائطه وتخلَّعت حفنةٌ من حجارته وتكسّرت بعضُ بلاطاته و»انفجرت» ماسورة مياه هنا أو هناك؟
طيّب يمّى.. قولي لي: ماذا نفعل الآن بكومة بطانيات نظيفة وطبقات من الوسائد تفوح بصابون الغسيل في خزائنك؟ ماذا نفعل بقدور الطبخ الهائلة التي تحمل بقايا حرارة في مطبخك الفواح بتاريخ شهي من وصفاتك؟ ماذا نفعل بتفاصيلك اللانهائية في ما تبقّى من حياتنا؟
أجِيبيني؟ ألستِ أنتِ المرأة التي تملكين جواباً شافياً عن كل سؤال، وحلاً لكل مشكلة مهما استعصت على الحل؟
ماذا أفعل أنا يمّى بفيديوهاتك ورسائلك الصوتية التي تعجُّ في صندوق هاتفي؟ بربّك أخبريني؟
بالمناسبة، أرسلتُ لك رسالة صوتية، بعد أيام من رحيلك، وفي كل يوم كنتُ أتفقّد موبايلي، على أمل أن أرى العلامة التي تشير بأنك سمعْتِها. بل وذهب قلبي في هلوساته حدّ أنني توقعتُ أن ترسلي لي عدة قلوب حمراء، أو حتى «إيموجي» قلب مفطور.
ماذا أفعل أنا يمّى البعيدة إذا كان قلبي لا يزال يحجُّ إليك من غربته كل يوم؟
بالله عليك يمّى اشرحي لي: أي أرض طيبة ستؤويني بعدما أمحلت أرضك وخلا بيتك منك، وأغمضت عيون موقد الغاز إلى الأبد؟ أي حضن سيسعني غير حضنك، أنا «البغلة»، إذ أضع رأسي على وسادة ساقيك المتداعيتين، تمسحين شعري بكفك العابقة بالمستكة التي نكَّهتِ فيها الرز بالحليب الذي أعددْتِه لي خصيصاً، حتى إذا غفوتُ على إيقاع عزف قلبك في أذني وروحي، عدتُ طفلتك الجميلة.
***
أتعرفين يمّى؟ بسببك أنا جميلة.. أو بالأحرى أشعر بأنني جميلة.
أتذكرين يوم عدتُ من المدرسة باكية؟ «ليش أنا مش حلوة؟» سألتك بالدموع تغرق كلماتي. أخذتِ وجهي الباكي بين يديك وحكيتِ لي عن فيلم شاهدتِه في السينما. الفيلم جميل جداً، ووجوه كل من فيه جميلة. بطل الفيلم الكابتن جورج فون تْراب لديه سبعة أبناء، خمس بنات وصبيّان ومربيّة فاتنة. كانوا يقضون كل وقتهم في الغناء. يومها تمنَّيتِ أن تلدي بنتاً تشبه واحدة من بنات الكابتن «القمرات». وبالفعل، تحققت أمنيتك، حملتِ بي وولدتني، وها أنا اليوم «قمر» طبق الأصل عن إحدى بنات عائلة فون تراب! و»من يقول غير ذلك أكبر كذّاب!» حسمْتِها يمّى!
طبعاً صدقتك يمّى. فالأمهات لا يكذبن. ثم من حسن الحظ أنه لم يكن في ذلك الزمن إنترنت ويوتيوب وكل وسائل الفضح لأكتشف الحقيقة. أذكر في تلك الأيام أنّ صديقاً لأبي زارنا. كان من نوعية المعارف العابرين الذين لا يشبهوننا، ممن يدخلون حياتنا مرة واحدة فيلصقون في الذاكرة. كان الرجل في عُمْر أبي، لكنه كان أكثر وسامة منه وأكثر تأنقاً. (والحق فإن معظم معارفنا من الرجال الذي عبروا حياتنا كومضات قصيرة غامرة كانوا أكثر وسامة من أبي وأكثر أناقة منه! لكن هذا موضوع آخر). اقتربتُ منه بكل ثقة، وسألته: «هل تستطيع أن تحزر من أشبه؟»، عابثةً بشعري المعقود في ذيلين على جانبي رأسي. نظر الضيف إليّ حائراً. وحين لم يجد الجواب، أخبرته بثقة: «أنا أشبه واحدة من بنات الكابتن فون تراب». بدا متفاجئاً، أو بالأحرى مصعوقاً. أعطاني تلك النظرة المتفحِّصة. اعتقدتُ بأنه أراد أن يعاين ملامح وجهي جيداً ليطابقها على بنت بعينها من البنات الخمس. واعتقدتُ وقتها بأن نظراته كانت إقراراً بالشبه العظيم أو إعجاباً بملاحتي. لكن بعد سنوات، حين تسنّى لي مشاهدة فيلم «صوت الموسيقى» في التلفزيون أدركتُ أنّ نظرات الرجل الأنيق الوسيم لي كانت إشفاقاً، عززها بأن وضع في يدي ورقة نقدية؛ كانت في وقته – وفي أي وقت – تساوي الكثير، قبل أن يقول لي: «الله يجبر بخاطرك عمّو!».
الله يجبر بخاطرك يمّي. جعلتني أصدق بحق أنني أجمل امرأة تمشي على الأرض.
****
أتعرفين يمّى؟
بقدر ما كنتِ لصيقةً بالحياة، بقدر ما كنتِ قريبةً من الموت. تلحقين أخباره. تبكين على كل ميتة مؤلمة وتسيرين في جنازات شعبنا اليومية على التلفزيون.
«يا حسرة قلب أمك عليكِ!»، كنتِ تردّدين، وأنتِ تشهقين بالبكاء، فيما كنتِ تتابعين جنازة ريم بنا، غزالة فلسطين، التي ماتت في ريعان إبداعها. كانت تلك أول مرة تسمعين بها. كانت تلك أول مرة تسمعين لها. «يا الله كم أن صوتها جميل!» قلتِ بأسى. حزنتِ لموتها. لكنك حزنتِ أكثر لحزن أمها على موتها. قلبك تقطّع على قلب الأم المكلوم. «يا الله ما أصعبها!»، كنتِ تضربين على صدرك بكفيك وتهزّين رأسك علامة الندب، وقد اشتبكت دموعك مع دموع أم ريم المفجوعة، قبل أن ترفعي وجهك تخاطبين الله: «يا رب لا تفجعني بأولادي»! ثم نظرتِ إليّ قائلة: «الله يجعل يومي قبل يومكم!».
وها قد جاء يومك يمّى قبل الجميع. مبسوطة الآن؟
سأعترفُ لك يمّى بشيء أخفيتُه عنك عامدةً متعمِّدة. حدث ذلك قبل سنوات بعيدة. كنتُ أعيش في المدينة التي نامت لاهيةً مطمئنة، ثم صحت على حرب. وبما أن كل صدمات الحروب تتوارى بعد أيام لننقاد لشروط الحياة محتالين عليها بكل السبل الممكنة، فقد خرجتُ من البيت لإيصال ربطة خبز لصديق منتهزةً ساعات رفع حظر التجول. كنتُ أسير على الرصيف حين نادى عليَّ أحدهم كي أقف حيث أنا. أطلَّ من الشارع جندي على ظهر دبابة كانت تسير فوق الإسفلت الذي تكسّر. وقفت. وتوقفت الدبابة قبالتي. على الأرجح أن الجندي كان يشعر بالملل. سدَّد بندقيته نحوي، متخذاً وضعية التصويب. «هكذا إذن سأموت!» سمعتُ نفسي تقول لنفسي. لم أتحرك من مكاني. حتى ربطة الخبز التي كانت مدلاة في يدي تجمّدت. أصبحتُ صورة. لا أذكر مشاعري آنذاك. سؤال بعينه جال في رأسي. كيف سيتعرّفون على جثّتي؟ لم أكن أحمل معي هويتي أو أي شيء يدلّ عليّ. لكن أكثر ما أقلقني يومها يمّى هو أنتِ. لقد تخيَّلتُني وأنا ميتة أراكِ تبكين عليَّ بحرقة ما بعدها حرقة، لدرجة أن قلبي الميت انسحق مرة أخرى من الحزن لحزنك. من كل وجوه البشر في حياتي، وجهك المنتحب وحده مثل أمامي. ثم سمعتُ دويَّ رصاصة، اصطكت معها مفاصل الشارع شبه الخالي. وقعت ربطة الخبز من يدي. تحرّكت الدبابة ومضى الجندي ضاحكاً. كانت الرصاصة قد مرقت بالقرب من أذني. شعرتُ بنار هائلة تلفحني. أعتقد أن مصدرها كان حماوة الخوف في داخلي. ليومين، فقدتُ قدرتي على السمع. كنت كأني أعوم في بحر من الطنين. ولأيام، لم أغادر البيت. كنتُ أرتجف يمّى من فكرة السقوط ميتة على الطريق. يا لها من ميتة بائسة.
كثيراً ما تخيلتُ موتي. أعرف يمّى أنك لا تحبين «هذه السيرة»، لذا لم أجرؤ في حياتك أن أشاركك تصوراتي. على كل، فلتعلمي يمّى بأنني لا أريد موتاً بطولياً، أو فيه تضحية من أي نوع. وفي الوقت نفسه، لا أروم موتاً مأساوياً، زيادة عن اللزوم، يتحول فيه جسدي إلى أشلاء، أو يكون من الصعب جمعه. كما لا أودّ أبداً موتاً عبثيا أو مجانياً، على شاكلة ميتة غريبة عجيبة قرأتُ عنها مرة، وظلت عالقةً في رأسي، حول سائحة صرفت «تحويشة» العمر كي تقضي إجازة في بلد «إكزوتيكي». كانت مستلقية على كرسي بجوار بركة الفندق حيث كانت تقيم حين أقدم أحدهم على الانتحار بأن ألقى نفسه من أعلى سطح الفندق، ليسقط عليها. هي ماتت وهو عاش.
حتماً لا أريد موتاً يشبه موت أبي، الذي ذوى تدريجياً، ثم ذاب تماماً. راح عقله ثم راح جسمه. أذكر آخر مرة زرتُه فيها قبل شهور من رحيله. كان قد تحول- فعلياً- إلى هيكل عظمي، مكسوّ بطبقة رقيقة من اللحم. لم يكن يعرفني ولعله لم يكن يعرف أنه حي، إن كانت تلك حياة. اقتربتُ منه كي أودِّعه قبل سفري، فجفلت. رأيتُ قلبه. أقسم بالله يمّى أنني رأيتُ قلبه. كان يخفق صعوداً وهبوطاً في قفصه الصدري الذي شفَّ من تحت طبقة اللحم الرقيقة. سامحيني يمّى! ليلتها تطاولتُ على القدر. «يا رب خذه عندك!» خاطبتُ الله. سامحيني يمّى! لقد تمنيتُ موت أبي.
أريد موتاً أنيقاً، على سرير آلفه ويألفني، في بيت أعرفه ويعرفني. أريد موتاً بلا كثير وجع، بجسد يعمل بالكامل، وذهن واع تماماً. ولا بأس إذا كان موتاً عاطفياً، درامياً، تكونين فيه يمّى بقربي، وتكونين آخر من أراه ومن يحضنني ومن يهمس بكلمة «بحبك» في أذني قبل أن أرحل.
***
لكنك أنتِ التي رحلتِ يمّى. لم أستطع أن أهمس في أذنك «بحبك». لم أستطع أن أودعك. لم أحضنك. لم أقبلك على الخد الأول وعلى الخد الثاني. لم أقبِّلك على جبينك وعلى رأسك. لم أكن مع «خواتي» وهنّ يغسلنك. أقسمنَ لي بأنك كنت جميلة. وجهك منوِّر، لا أثر لمرض أو شحوب عليك. كلهن ودَّعنْكِ يمّى إلاي.
أنا في بلد يمّى وأنتِ في بلد. كنتُ أزحف فوق الأرض، وقد هدّني فقْدُك، فيما كانوا ينزلونك تحت الأرض.
يؤكدون لي يمّى إنك في مكان أفضل!
ربما..
أما أنا فوالله يمّى في مكان أسوأ.. أسوأ بما لا يقاس.
قاصة وروائية فلسطينية
خواطر رائعة ومؤثرة.. نعم، هي في مكان أفضل ونحن في مكان أسوأ يقينا!
بعد بيتي ابن نويرة:
لقد لامني عند القبور على البكا صديقي لتذراف الدموع السوافك.
فقال اتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوا بين اللوا فالدكادك.
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا.
فدعني فهذا كله قبر مالكِ.
بعد هذين البيتين لم أجد أبلغ من رثائك هذا.
مؤثر جدا ورغم هذا فهو رائع خاصة عندما تتعلق بخواطر فيه اسم الام الام الحبيبة تحياتي وتقديري للرواية
رمضان كريم عليكم…
قال أحمد شوقي.. الأم مدرسه إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق… هذا كلام صحيح وشكرا لك…
ان اتمكن من قراته كاملا لكني اراه من اجمل المقالات التي قراتها لا ادري لماذا ابتدات به يبدوا ان المقال رائع جدا وشكرا لك سيدتي علي هذا المقال امي هي الجميل فالام مدرسه فما اجمل كلمه يمّى