في زمن السرعة الذي نعيشه في كل حيواتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية، هذا الزمن الذي تعتبر المجانية والجاهزية أهم تجلياته؛ يحدث كل شيء على عجل، فيأتي هشا ناقصاً ونيئاً. إنه زمن الصورة، زمن الرقمية التي جعلت كل شيء سهلاً، من الإعلام حتى الظهور والبروز الشخصي للبعض، والذي ما هو في الحقيقة إلا حالة من الدعائية المصنوعة أو المدفوعة الثمن، حيث يخرج علينا كل يوم أبطال بثياب المجد والعظمة يتشدقون بكل شيء، ويهرفون بما يعرفون، وما لا يعرفون، وفي المقابل ينتفخون في ثيابهم بصفة الوهم والبطولة الزائفة، وربما يصل بعضهم لدرجة المرض النفسي بالوهم والسلطة الضمنية للفعل غير الحقيقي، والحضور المختال اللامع الذي لا يحمل ثقلا موضوعيا أو إنسانيا.
هؤلاء يخرجون لنا عبر وسائل الإعلام الرقمي وغير الرقمي، وأولهم أبطال وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الوسائل التي خلقت لنا كل هذا الضجيج والجلبة، ووقع أغلبنا في شركها الضوئي المغري، بالتواصل الظاهري والاغتراب الضمني. أدى هذا الانشداه الجمعي، والتعلق الغريب أو المريض أحيانا بوسائل التواصل الاجتماعي، وتلك الشهوة الجموح في رصد كل حركاتنا وسكناتنا عبر الفيس بوك، والواتس أب، وتويتر وغيرها من وسائل؛ إلى جعل البعض أسرى هذه الحيوات، فأصبحت حياتهم تبدأ بلمسة زر وتنتهي بذلك. وهكذا فقد أضحى الكثيرون منا لا يعيشون الحياة، بل فقط يسجلون اللحظات لنشرها للآخرين، والحالة في حدتها تختلف من شخص لآخر، ولكن ليخيل للمرء أن البعض يعيش في جهازه النقال تماما.
ولقد أفرز هذا التعالق النفسي، والتعلق المرضي العديد من الظواهر غير الصحية، أهمها «أبطال الوهم»، وهم مشاهير مواقع التواصل، الذين يصدقون أنفسهم بأنهم أصبحوا مشاهير فعلا، بمجرد أن يزيد عدد أصدقائهم عن الألف، والتعليقات عن العشرة، فينتفخون، ويتحركون كأبطال، ويتصرفون بشكل مضحك كنجوم حقيقيين، يضعون لنا كل ما يعنيهم. ويعينهم على الظهور، كالمأكل والمشرب والكتب الضئيلة التي تضخمها الصورة. وتتضخم لغاتهم مع الوقت، وتصبح نبرتهم فوقية، وحديثهم ثقيلاً، وربما حاداً أحيانا، فقد صدقوا أنهم أصبحوا بالفعل مشاهير، وبالتالي يتساوى لديهم كل شيء وكل شخص، فيمجدون ذواتهم ومن في دوائرهم، وتتصاعد نبراتهم الفوقية مع من هم أكبر منهم عمرا ونتاجا، فلا يعودون يفرقون بين أحد إلا في الحضور الرقمي، والظهور العلني البائس. وقد لا تملك الأغلبية منهم ما يسند تلك الصورة ويدفعها للأمام، بل أن بعضهم لا يملك أبسط الأدوات المعرفية أو النضج الثقافي، أو الوعي الإنساني، كما أن بعض هؤلاء ـ وهم كثر للأسف ـ يعتاشون على نتاجات الآخرين نقلا وتشويها وسرقة. ولهذا تظهر لنا صورة مرتبكة لبطل وهمي غير حقيقي ولكنه محاط بالمريدين والتابعين والمعجبين.
ومن أبطال الوهم بعض الإعلاميين، ممن يظنون أنفسهم قد أصبحوا أبطالا ومشاهير فعلاً، حيث يخرجون علينا كل يوم من شاشاتهم المغبرّة بالحقد والضغينة والجهل، بتلك الصورة الهزلية التي يقدمون بها دمنا رخيصاً، ويخاطبون وعينا بشكل أرخص، بلا تقدير ولا احترام لمشاهد واعٍ، أو لعقل يعمل، وأن الشخص ليشاهد قناة غربية ويشاهد بعض الإعلاميين الغرب فيصاب بالحسرة والدهشة معا، وحين يعرف ويقرأ سيرتهم العميقة وتفاصيل معرفتهم المتزايدة بين كتب وإنجازات ثقافية سيصاب بالوجع في كبده تماما. ونحن مازلنا نخاطَب من عقول جاهلة بكل هذه الجهالة والتجهيل في أكثر القنوات العربية وربما أكبرها، لأنه ببساطة الإعلامي الحقيقي والعميق يترفع عن الدخول في مثل هذه المهازل الإعلامية، وهذا الكذب الدعائي الرخيص، وذلك التحريض الضمني على القتل أو الجهل أو كلاهما معا، وحين يغيب العميق لابد أن يتصدر الضحل.
وهناك بعض الأقلام الصحافية التي تظن أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وتذهب بأوهامها كل مذهب، بغية الحضور والظهور مثل فقاعة رخيصة، فتنتهج مبدأ الإثارة والحضور البراق الذي ما يفتأ أن يفنّده كل واع ومثقف حقيقي. وأي حزن يمكن أن يصيب القارئ العربي حين يقرأ سيرة سفيتلانا ألكسيفيتش، الكاتبة والصحافية الحاصلة على جائزة نوبل لهذا العام 2015، وهو يعرف كيف تعالج القضايا الإنسانية، وكم من الوقت تستغرق لتعد تحقيقا صحافيا، أو تؤلف كتابا عن قضية ما، في مقابل السلق الصحافي اليومي الذي نقرأه على عجل، ويخرّب ذائقتنا بمهل.
وهناك الكاتب أو المثقف (مع تحفظي الدائم على الصفة الثانية) الذي يجعل نفسه في مرتبة الكمال، وينظر لكل من حوله بالنقص والتصغير، ولا يكاد يرى إلا نفسه أو ثلته المقربة (شلّته) التي يتحرك ضمنها، ويصدّرها ويصدر عنها، ويمضي منتفخا كبالون على وشك الانفجار بدبوس حاد أو عقل جاد.
وهناك الابتلاء العظيم الذي مني به أعلامنا العربي، وهو ما يسمي بـ»محلل»، أو «خبير» والذي أصبح عجينة لينة قابلة للتشكل على كل صورة وشكل، من السياسة فالثقافة حتى الرياضة، والذي تجلدنا القنوات بأشكال وألوان منهم كل لحظة في كل موضوع وفكرة. محلل أو خبير يعرف كل شيء، ونحن لا نعرف صدقا ممكناته النقدية والمعرفية والتحليلية، فلا نملك أن نصدّق الكثير من الترهات التي يقولها والتي تتناقض غالبا فيما بينها، وكأن هذا أصبح هدف كل القنوات في تسطيح بيّن لفكرة «الرأي والرأي الآخر» حتى ليجد المشاهد نفسه بين فكرتين لا رابط بينهما، وحقيقتين لا مساحة للصدق في كل منهما.
ومن أبطال الوهم أيضا أعضاء البرلمانات ومجالس الشوري والمجالس البلدية، الذين يضعون لنا صورهم الكبيرة والدعائية في كل مكان وزاوية وشارع، بين ممسك لجريدة، ومسافر في دنيا الخيال، سارح يضع يده على خده كبطل سينمائي، وبين ممتشق عصاه، ومتمنطق خنجره، ومتعالٍ «ببشته» في كل مكان، مدعمة بتاريخ أسطوري من العمل الثقافي والاجتماعي والإنساني الذي لم نسمع عنه قبلا، وكأن السماء أو الأرض انشقت عن ذلك الإنجاز، وذلك البطل بين عشية وضحاها. وسيوهمنا بدعائياته أنه قادر على تغيير الحالة السياسية بعصا الساحر، وإصلاح شأن ولايته بقوة خارقة سيفرضها فرضا على الحكومة، وهو ونحن ندرك حجم إمكانياته، ومساحة تحركه السياسي أو البرلماني المتاحة والضيقة جدا، والأهم إدراكنا لغايته الحقيقية من هذا المنصب الصوري من الوجاهة والمال والسلطة والظهور، هؤلاء هم أنفسهم الذين لا يمكثون إلا قليلا، وسيذهبون في غياهب الصمت، والممالأة الحكومية والوجاهة الاجتماعية. إلا من رحم ربي.
وهناك المسؤول الذي لا يملك شيئا من مقومات الصورة الأنيقة التي يظهر بها دائما منتفخا وبراقا، خارج السلطة السياسية أو الاجتماعية القبلية أو حتى الدينية التي يستند إليها، فكل ما يفعله أنه يعمّد صورته الباهتة بمغريات السلطة الملونة والبراقة وممكناتها، وحضورها الفوقي. وحين تتأمل في ممكناته وإمكانياته الحقيقية، لا تجد الكثير مما يميزه أو يمثله شخصيا حيث الإنسان والعالم أو المبدع الذي لن يظل حبيسا في ضوء السلطة. وحين نجترح الفكرة بالسؤال: كم مسؤول عربي يملك موهبة فذة أو حقيقية في الإبداع بأي شكل من أشكاله؟ وكم مسؤول يستمر في مزاولة الفعل الإبداعي وهو على رأس السلطة؟ لا أظن أن أصابع اليد الواحدة يمكن أن تخذل الإجابة هنا، فحتى من كان يملك موهبة ما، وهم قلة، يتخلون عن عمق الموهبة لضحالة الصورة السلطوية اللامعة التي يتقدمون بها أكثر من صورتهم الحقيقية وهي صورة المبدع والإنسان التي تبقى بعد زوال السلطة.
وهناك المسؤول الأقل شأنا في دائرة ما، أو حتى الموظف الذي يملك سلطة نسبية، فيتعامل على أنه يملك السيطرة على كل شيء من مصالح الناس، مع الرغبة المحملة بمرض نفسي في إذلالهم، فتصبح السلطة (البطولة الوهمية) عقدة لا يستطيع التخلي عنها أو الوصول إليها.
وهنا الكثير والكثير من أبطال الوهم الذين علينا أن ننتبه لهم ونبتعد عن ضوئهم الجارح، بالتمترس في منطقة الظل الراقية، التي تضم الحقيقيين والصادقين. فما على المرء الصادق مع نفسه، مع تفشي هذه الحالة من أبطال الوهم إلا أن يتذكر أن العالم أيضا يضج بالعاملين الذين ينتمون للظل، حيث الصدق والعمل والحقيقة، فيركن إليهم.
٭ كاتبة عُمانية
فاطمة الشيدي
هل لي بعد هذا المقال الرائع والتشخيص الدقيق أن أستدعي بيتي الشافعي وهما كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي واذا ما ازددت علما زادني علما بجهلي صدق لعمري ولكن لماذا يتشدق المتشدقون ويتعالى أنصاف المثقفين ويمتهن الكاذبون مهنة التصدي لوسائل الاعلام ؟ أليس هناك من يصدقهم ويدفعهم ويسبغ عليهم نعوت المجد وأكاليل الغار ؟ وهل لي مرة أخرى أن أستشهد ببيت الجواهري وهو ويل الكذوبين من يوم يسل به مخضوضر القول من مستوبيء العمل شكرا للفاضلة فاطمة الشيدي على شجاعتها ونفاذها الى العميق من الظواهر وهي خطيرة بلا شك تؤذن بمستقبل بعيد عن الاشراق والازدهار مع الشكر للقدس العربي الغراء الدكتور وليد محمود خالص
مقال رائع شكرا لك يافاطمة.
[email protected]