القاهرة ـ «القدس العربي»: اختلفت الآراء حول مفهومين للفن، ويثار سؤال دائم عما إذا كان الأفضل ان يكون الفن للفن أم أن يكون الفن للمجتمع؟ ومثل هذا الخلاف اشكالية كبيرة أمام كتاب السيناريو والمخرجين منذ التعرف على فن السينما في مصر والمنطقة العربية، فهناك من حسم الصراع وآثر البعد عن المخاطر السياسية والمشاكل واختار المنهج الأسهل فجعل الفن للفن واجتهد اجتهادا حثيثا كي ينجو بالسينما خارج أزمة التصنيف وسلك المسلك الكوميدي كوسيلة للتعبير والنقد والترفيه ونجح نجاحا مذهلا في فرض هذا النمط كلون فني يختص ويعمل فيه ككاتب وفنان.
أبرز من كتب الكوميديا وأفلح في توظيفها حسب رؤيته وثقافته هو الكاتب والسيناريست أبو السعود الابياري، ذلك الموهوب الذي بدأ زجالا في فترة مبكرة من حياته ثم احترف كتابة الأغنية والمونولوغ والسيناريو بعد أن شب عن الطوق وصارت له شخصية إبداعية متميزة، اتسمت بالخفة والسلاسة وأكتسب روح الكوميديا. كان أبو السعود أحمد خليل الابياري الذي ولد في مثل هذه الأيام تشرين الثاني/نوفمبر عام 1910 مولعا بالصحافة والشعر والغناء لذا شارك في إصدار مجلة «الأولاد» وهو لا يزال تلميذا صغيرا في المرحلة الابتدائية وما أن اشتد عوده وتوسعت مداركه حتى نظم الشعر والزجل وكتب المونولوغ وقد لفتت موهبته النظر فأثنى عليه أساتذته وشجعوه ليستمر في الإبداع وبالفعل فقد عمل في مرحلة الشباب محررا صحافيا في مجلة «أهل الفن» ومجلة «الكواكب» وتقدم مستواه إلى الحد الذي سمح له بكتابة مقال دائم تحت عنوان «يوميات أبو السعود الابياري» في خمسينيات القرن الماضي. ولكن الصحافة لم تستغرقه طويلا ولم تأخذ من الأجواء الإبداعية التي كان يعيشها، بل ظل الفن والمونولوغ هاجسه الرئيسي فأبدع فيهما واشتهر شهرة واسعة جعلته واحدا من صناع الكوميديا والضحك حيث ارتبط ما يكتبه بالنكتة والسخرية والنقد الاجتماعي الخفيف للظواهر والسلوكيات الفردية. وقد خص المرأة ببعض النقد الكوميدي فكان أول مونولوغ يكتبه للمونولوغست ذائع الصيت آن ذاك سيد سليمان بعنوان «بورية من الستات» وتبعه برواية ذات عنوان ساخر عام 33 هي رواية «أوعي تتكلم» قدمتها الفنانة بديعة مصابني ونجحت نجاحا ملحوظا فاستثمر الابياري النجاح وتعاون مع بديعة في عدد من الاسكتشات الأخرى التي استقى كلماتها من الشارع المصري والحارة الشعبية حيث أحاديث أولاد البلد ونكاتهم ومسراتهم ومساخرهم أيضا.
لقد تأثر أبو السعود الابياري بالأستاذ والنجم الكبير في فترتي الثلاثينيات والأربعينيات بديع خيري، الذي كتب روائع سيد درويش وأحدث ثورة بأغانيه الشعبية ولغته البسيطة الدارجة ومن هنا كان ارتباطه بالبيئة الشعبية وحكايات المقاهي وفئة العمال والصنايعية والحرفيين ومن ثم وصل إنتاجه من الأغاني والمونولوغات لأكثر من 300 أغنية ومونولوغ، غير أنه كتب نحو 65 مسرحية و 50 فيلما كان من بينها فيلم «لو كنت غني» بطولة بشارة واكيم وعبد الفتاح القصري وهو أول أفلامه في السينما، حيث قدم من خلاله قضية الشحاذة وتعرض لمفهوم الثراء وسطوة المال والنظرة الاجتماعية والإنسانية إزاء أصحاب الثروة والنفوذ وناقش كافة الجوانب والزوايا الدرامية في إطار من السخرية والكوميديا.
وفي مسرحياته قدم الكاتب الراحل الكبير معالجات شتى لكثير من القضايا وعرج على قضايا المرأة كعنصر رئيسي في المجتمع فكتب العديد من الروائع الكوميدية منها «مراتي قمر صناعي» و»الست عايزة كدة» و»ركن المرأة».
أما تعاونه مع الفنان إسماعيل يسن فيمثل الرصيد الأكبر من الناحية الكوميدية على المستويين المسرحي والسينمائي، حيث أسسا سوية فرقة مسرحية استمرت لفترة طويلة وقدما للسينما أفلاما لها خصوصية في تراث إسماعيل يسن نفسه ومعظمها حملت اسمه مثل «إسماعيل يسن في الجيش» وإ»سماعيل يسن في البحرية» و»إسماعيل يسن في البوليس» و»إسماعيل يسن في حديقة الحيوان» و»إسماعيل يسن طرزان» و»إسماعيل يسن في الطيران» وهي سلسلة أفلام لم يكن لها مثيل قبل ذلك ولم تتكرر في تاريخ السينما المصرية ومن هنا جاء التميز وكانت الخصوصية.
كذلك كان لأبو السعود الابياري السبق في كتابة أفلام الفانتازيا والخيال فهو من كتب فيلم «الفانوس السحري» وتحدث عن الأحلام التي تداعب خيال البشر والوقوع في أسر الرغبة في الثراء والارتكان إلى الصدفة المستحيلة باستحضار أجواء ألف ليلة وليلة وأسطورة الفانوس السحري وخادمه من الجن الطيب الذي يلبي الطلبات ويحقق الرغبات في الحال وهي ثيمة كوميدية كانت جديدة في حينها. غير أنه قدم رؤية درامية أخرى لقصة طاقة الاخفاء بعد أن سبق تقديمها في فيلم بطولة بشارة واكيم بعنوان «سر طاقية الاخفاء» إذ استهوته الحالة الفنية فكتب فيلما بعنوان «طاقية الاخفاء» أسندت فيه البطولة لعبد المنعم إبراهيم وأخرجه نيازي مصطفى وكانت التجربة الوحيدة بينه وبين الفنان الكبير سابق الذكر ولم تتكرر مرة أخرى.
الكتابة عن كوميديان كبير مثل أبو السعود الابياري تحتمل الكثير من التفاصيل والإضافات فهو الرائد في مجاله والمختلف في عطائه وتراثه وموهبته والمهضوم حقه فلم يأخذ نصيبه الكافي من البحث والقراءة والنقد، فإبداعه ينسب غالبا لأبطال أفلامه ومسرحياته ويبقى هو في الظل.
كمال القاضي