الأمم التي تتعرض إلى متغيرات أو هزات أو انقلابات أو كوارث يتبعها تغيّر في الخريطة الأدبية، وربما تغيّر واحتدام حتى في علاقة الأديب مع المتغير الذي حدث. وما حل بالأمة العربية من متغيرات بدأت في العراق بعد عام 2003 وما تلاها، مما اصطلح عليه بالربيع العربي الذي اشتعلت ناره في تونس ثم مصر وما تبعها من حركات وإسقاط حكومات ومواجهات مسلحة ومتغيرات سياسية لبعض الحكومات، مخافة أن تصلها شرارة التغيرات. وكل ما حدث يجعلنا نطرح سؤالا مفاده .. هل يمكن أن تؤثر ثورات الربيع العربي على الإنتاج الأدبي العربي وتجعله مغايراً لما تم إنتاجه خلال العقود السابقة عليه؟ وهل يمكن أن يكون الربيع العربي سببا في الاختلاف والخلاف بين الأدباء العرب؟ وكيف سيكون مستقبل الإنتاج الأدبي العربي بعد ثورات الربيع العربي؟
الناس والحجارة والرموز
بداية يقول الناقد الجزائري حمام محمد .. أولا يجب الاتفاق على المصطلح هل تقصد «الربيع العربي» بتغير النظم السياسية؟ إذا كان هكذا فأنا في اعتقادي، ذلك يجانب فكرة التغير ويجعلها فكرة عشوائية متهورة، لأن من وضعها ليس معهدا أكاديميا أو سليل مدرسة معجمية حتى نندفع وراء تعليق أو فكرة للآخر مفروضة ونتبناها مباشرة، فالربيع العربي من هذه الزاوية مرفوض. أما إذا كان ما حصل مؤخرا في بعض الدول، ولا أعقب إنما في رأيي هي مرحلة وصل إليها سقف التفكير عند بعض النخب التي أرادت أن تأتي التغير من الزاوية التي تراها، واقعية الأدب أو الإبداع في هذه الحالة معروفة لأنه سوف يتأثر حتما ليس بفكرة الربيع، وإنما بفكرة التغير التي آمن بها المجتمع الذي يشاهد التغير من الداخل، وهذا بطبيعة الحال سيعمق الفروق ويوسع الهوة، لأن فيها الناس والحجارة والرموز، تتساقط سينمو المختلف إلى درجة ربما سيغيب فيها الماضي الجميل وتتعايش الشعوب على إرهاص جديد صنعته نخبة متسلطة في الفكر، قبل اللوجستيك.
إن قلت سيكون «جميلا» فهذا نفاق، وإن قلت سيكون «عبثيا» فهذا أيضا نفاق، بل سيطغى «إنطاق الحيوان على ألسنة البشر» في القصص والروايات وسنتحول على طريقة أفلام الكارتون إلى زمن بخلاء الجاحظ، وستعرف الأعمال الأدبية ثغرات كبيرة، ستعجل بكشف غبائنا بعد مئات السنين.
اختلاف المرجعيات
أما القاص والروائي العراقي عبد الأمير المجر فيؤكد على أنه من دون أدنى شك، أن حدثا بحجم ما يسمى بـ (الربيع العربي) لا يمكن أن يمر مرورا عابرا في حياة الأديب والمثقف العربي بشكل عام، لأنه محطة فاصلة بين مرحلتين، سواء اتفقنا مع مخرجاته أو اختلفنا عليها، وهو في حمولته التغييرية التي استدعت مرجعيات مختلفة، تمثلت بالكامن الثقافي المؤجل والمقموع، الذي انطلق بعد سقوط الأنظمة التي انهارت معها إلى حد كبير الدول أيضا، كما في ليبيا كنموذج أبرز. وأضاف أن المتغير وضع الجميع أمام استحقاقات قاسية، وهنا فإن هذا التحول الكبير، سيأخذ طريقه إلى نتاج الأديب والشاعر وكل المشتغلين في حقل الثقافة، لأن مهمتهم الأساسية هي رصد الواقع وتحولاته على مستوى الفرد والجماعة، ومن هنا فإن الاختلاف بين الأحكام خضع لضغط المرجعيات الثقافية المختلفة لدى الجميع، سواء على مستوى الأفراد مثقفين أو غير مثقفين، أو الجماعات التي ألقت بثقلها على الفرد وتحكمت إلى حد كبير بمزاجه الشخصي تجاه الحدث. ويوضح المجر أن هذه الحقائق هي التي وضعت المثقفين العرب أمام أسئلة متداخلة، ومحرجة أيضا، إذ أن اختلاف البعض مع الأنظمة القائمة سواء تلك التي في بلدانهم أو في الدول العربية الأخرى، مثال سوريا نموذجا، والخلاف على الموقف مما يجري فيها، يعطينا صورة واضحة عن هذا الانقسام، فمنهم من يرى ما يحصل في سوريا ثورة ويجب الوقوف معها، ومنهم من يرى أن ما يحصل مؤامرة تستهدف دولة عربية محورية ولكونها دولة مواجهة، وهذا أيضا يجرنا إلى الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، وخنادقه التي اختلف العرب في التوزع بينها، وهذا الخلاف بات واضحا حتى على مستوى الإنتاج الفني، وأدبيات الخطاب الإعلامي اليومي، كما هو معروف لنا جميعا. في المحصلة النهائية، أستطيع القول، إن ما حصل ويحصل من أحداث سيكون الفن والأدب ميدانها الأبرز لوقت غير قليل، لاسيما أن مثل هذه الأحداث يكون رصدها بطريقة أفضل كلما مر الوقت عليها، واتضحت ملامح المشهد بشكل جيد أمام الناظرين. كما لا يمكن التغافل عن أن الربيع العربي يشغل المؤسسات الثقافية العربية حاليا، بالخلاف والاتفاق، تبعا لمؤثرات الخطاب السياسي في كل بلد عربي، الذي لم يتخلص منه الأدباء العرب بشكل تام، وإن أدعوا ذلك، اي أن بعضهم سيكون صدى لصوت النظام، وهذا ما نراه اليوم أيضا!
أدب الربيع العربي
الكاتب والناقد المصري محمد الدفراوي يرى أن الأدب حالة وجدانية، انفعالية، لا تعنى بتوثيق وقائع وأحداث كالتاريخ، إنما يرصد الحلم وسقف التوقعات المصاحبة للحدث، لذا يقول إن علاقة أنواع الأدب بثورات الربيع العربي مرت بمراحل ثلاث: أولها أدب التنبؤ والإرهاص، تكفل بها الموهوبون من الأدباء الذين يملكون قدرة على كشف احتقان المجتمع وتمرده، وهم الأقرب لنبض الثورة ويطلق عليهم أدباء الرفض/التمرد/الثورة، وغالبا ما ينخرطون في حراك سياسي ما يجعلهم في طليعة الثورات، ومحط أنظار الثوار، فالأدب يقود ولا يقاد. والثاني أدب التوثيق والمتابعة ويعدها الأخطر لأن الأدب حالة تحتاج مزيدا من التأمل والنظر، لتكتمل فصول الرواية حتى يتسم الأدب بالدقة والموضوعية، خاصة أن الحراك الثوري لم يضع أوزاره بعد، بينما طبيعة الشعر الأسرع استجابة لتلبية نداء الثورة والتعبير عنها بلسانه، وأدب المتابعة إن لم يكن مصحوبا بقيم إنسانية وجمالية وفنية فلن يحظى بالبقاء والانتشار. والمرحلة الأخيرة تتمثل في أدب ما بعد الثورات، على اعتبار أن الثورة تعد مادته الخام يتناولها محاولا كشف الحقائق وماورائية الأحداث، وهذا الأدب حظي بعد الربيع بهامش من الحرية شجعت الأدباء على إنتاج أدب جريء، يتعدى كل الخطوط ويتجرأ على ثوابت المجتمع دينيا واجتماعيا وتاريخيا. هذا التحول حقق تغيرا في البنية السردية، وسيكون أشد في المستقبل.
طبيعية الاختلاف
ويقول الشاعر التونسي نجم الدين حمدوني إنه من البديهي أن تؤثر الثورات العربية في كل المجالات، وبالتحديد المجال الأدبي ومن البديهي أيضا أن تختلف آراء المبدعين والكتاب بين مساند ورافض، ومن هنا يولد النص المختلف الذي قد يصل لخلاف أحيانا، فيبقى المستفيد هو الأدب والقارئ، ويعتقد حمدوني أنه من الضروري أن يكون هذا الاختلاف، لكن لا نريده أن يصل للخلاف والتعصب الأعمى، مما قد يفقد النص جانبه الأدبي وجماله الإبداعي. وبالتالي فمستقبل الإنتاج الأدبي في الوطن العربي بعد هذه الثورات سيكون أفضل من السابق على الأقل، بسبب كم الحرية التي حصلت عليها هذه الشعوب في التعبير، بعد أن كانت الكتابات إما رمزية وموغلة غالبا في الضبابية، أو مدحية وتطبيلية للحاكم. إلا أن الخطر يكمن في توظيف هذه الحرية لخدمة مصالح ضيقة، فنكون قد خرجنا من سجن لندخل سجنا باختيارنا، أو نستخدمها في التعبير للمسّ والقدح في الأعراض أو المقدسات، ولكن تبقى الإيجابيات أكثر من السلبيات في المجال الأدبي.
حراك أدبي .. حراك اجتماعي
ويرى الشاعر المغربي حميد يعقوبي أنه عبر التاريخ لم ينسلخ الأدب عن الساحة السياسية والحراك الاجتماعي. فقد كان في قلب الحدث بل جزءا منه في التغيير والنقد. ويرى أيضا أن الثورات العربية التي نجحت أو في طريق النجاح، أو التي فشلت مازالت تلقي بظلالها على الساحة الأدبية، إما مؤيدة أو معارضة، وأحيانا محايدة ومترددة، لكن أغلبها حاضر وبقوة. ويوضح أنه في عهد الاستبداد والحاكم الواحد كان المنتوج الأدبي يعاني من الرقابة والمنع والإقصاء، بعد الثورات العربية عرف في ظل التحرر من القيود متنفسا واسعا للإبداع والنشر، وصارت أحداث الثورات نفسها موردا خصبا للتعبير وإثراء الساحة الأدبية بمواضيع كانت بالأمس محرم الخوض فيها. ورغم كل ذلك ظل التعامل مع التعبير الحر ناقصا، لأن هذا التغيير المفاجئ مع نقص الخبرة جعل الأدباء منقسمين على بعضهم بعضا، خصوصا بين الجيل الجديد وممن احتكروا مناصب الظهور بأعمالهم الأدبية سنوات من مجاورتهم للأجهزة الحكومية، ويعني هذا ظهور صراع فكري أدبي جديد بين الأجيال تتحكم فيه تيارات سابقة، وأخرى متحررة من الوسيط الحزبي أو الجمعوي السلطوي. ومن ناحية أخرى نجد أن كل الأجناس الأدبية عبّرت بتلقائية عن مواقفها كاملة بأساليب اختلفت عن فترة القهر والفقر والتجويع. وغيرت جلدها واستحدثت رؤاها وتطلعاتها، ما استوجب معه تغيير أدواتها الإبداعية. فالخلاف لا يعني العودة للوراء، بل إنه أفرز حقيقة المطالبين بحقوق الإبداع الحر غير الملزم بالقرارات السياسية، ممن ما زال يراودهم الحنين إلى الاستبداد الفكري ونخبوية المثقفين. بمعنى آخر أن الثورة عموما أظهرت أصحاب الأقلام البيضاء من أصحاب الأقلام السوداء. الثورات أفرزت من يحمل شرف الكلمة وهو متسلح بالقلم ممن يحملون سيفا يرسمون به عبارات وكتابات لا لون لها سوى ما استؤجروا من أجله. ويجزم يعقوبي أن الثورات العربية جعلت للحضور الأدبي بكل أجناسه نكهة جديدة في الوطن العربي مهما تعددت الاختلافات، فهي مسيجة بحرية التعبير المفقود سابقا وحرية النقد وتبادل الآراء مع الصحافة الإلكترونية والصحافة الحرة.
لا ربيع عربي
أما الشاعر المصري محمد رشاد فيقول إنه اذا كان السؤال عن الربيع العربي فأنا لم اقتنع أنه ربيع بل يمكن أن نطلق عليه الخريف العربي الذي يعري الحكومات ويظهر ضعف الشعوب العربية وعدم تماسكها والحقد والكراهية التي نخفيها خلف ابتسامات مصطنعة، ويضيف أن الحكام العرب قادوا شعوبهم إلى تحقيق الأهداف الصهيوأمريكية، إما بطريقة مباشرة وإما بطريقه غير مباشرة أحيانا. ويتساءل رشاد لماذا قامت الثورات في كل دولة تحمل لقب جمهورية، ولماذا الصراع دائر فقط في تلك الدول بعيدا عن أي دولة تحمل لقب ممكلة! ويؤكد أنه لا توجد ثورات ربيع عربي، بل هي لعنات على الوطن العربي ومشروع تقسيم له. أما تأثيرها على الأدب فسيكون سلبيا لأن الذين يدّعون الكتابة لا تحكمهم قيم أو مبادئ فأصبح كل شيء مباحا.
ولو على سبيل الأماني
لكن القاص العراقي حمودي الكناني يرى طريقة أخرى للسؤال مفاده كيف نرى مستقبل الإنتاج الأدبي العربي بعد ثورات ما سمي بالربيع العربي؟ فيقول إنه يرى واقعا تتغشاه الضبابية، إن لم يكن الإحباط بعينه إذا ما علمنا أن أدب أي أمة هو انعكاس لواقعها المعيش، بعيدا عما تفرضه الحالة الآنية لأي كاتب مهما كان جنسه عندما يكون في حالة توتر كتابي، فالفوضى التي خلفتها هذه الثورات في بلدان هذا الربيع الطويل ألقت بظلالها وحملها الثقيل على كاهل جميع الكتاب الذين يسيرون مع وضد ما حصل وما يحصل فمشاهد الدمار والخراب والدم المسفوح حتما يشكل المادة التي يستقي منها الكاتب ثيماته، ولا أظنها إلا ثيمات تغلب عليها سخرية سوداء من آمال أقرب ما تكون إلى أوهام عاشت في مخيلة جيل كان ينتظر تفتح زهور الربيع بدلا من تعملق غول الدمار والخراب، الذي حتما سينعكس سلبا على الإنتاج الأدبي العربي برمته. ويشير إلى أنه إذا كان ثمة أمل شفيف، فلنقل إن البعض ربما يتريث في رسم المشهد الذي يريد، لعل الأيام تأتي بجديد يجعل القلم نشوانا بما يملي عليه خياله حتى ولو من باب التمني.
٭ روائي عراقي
علي لفته سعيد