أخبار الأيام… كما يرويها بوب ديلان

حجم الخط
0

بين انشغالات أخرى كثيرة كان منهمكا بها بوب ديلان كانت الكتابة عملا يوميا يؤدّيه. ليس كتابة القصائد، فهذه كان يمكن أن ينجزها وهو جالس في مقهى أو سائر على الطريق، كما يقول بنفسه. ما أعنيه هنا هو دأبه على تسجيل يومياته في عمل متصل ومستمر. ذاك أني لا أحسب أنه أنجز كتابة يومياته في مرحلة محدّدة من حياته، مثلما يفعل الكتاب المحترفون. أولا لأن الذاكرة لا يمكن أن تتسع لهذا القدر من الحوادث الصغيرة والكبيرة التي يحتويها الكتاب، كما الحوادث الأساسية والعابرة، مروية بتسلسلها وتفاصيلها، كأنها حدثت للتو، أو حدثت مساء البارحة على أبعد تقدير. ثم تلك الأسماء التي يعجّ بها الكتاب، التي تبدو لكثرتها كأن كل من التقاه بوب ديلان، سواء في سهرة موسيقية أو في اجتماع عمل أو حتى في لقاء مصادفة جرى عند توقّف المصعد عند أحد الطوابق، جرى ذكره في الكتاب. وأضف إلى ذلك كله الرحلات التي قام بها الكاتب، رحلات العمل مع فرق الغناء والعزف، التي لم تقتصر على أمكنة الولايات المتحدة طولا وعرضا، بل شملت أنحاء العالم كله. التفاصيل المتعلّقة بذلك مدوّنة كلها، ما يجعل الكتاب، وأيضا بين أمور أخرى كثيرة، كتاب رحلات أو جولات لا تنتهي.
على غلاف النسخة العربية من الكتاب صورة له، هو بوب ديلان، جالسا يعزف على البيانو. لكنني، في كل مرّة أمد يدي إلى الكتاب لأستأنف قراءته، يخطر لي أن ما أراه هو جلوس الرجل إلى طاولة كتابة. حين منحته لجنة نوبل جائزتها، فكّرت أنها غلّبت الخفّة هذه المرة، أو انها كررت خطأ سابقا، وذلك حينما سمّت رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل للجائزة. رأيت خفّة في تسمية بوب ديلان، من قبيل ما يحدث حين تنتشر موضة، على ذلك النحو الهائل الذي يشمل العالم، فتسرع إلى التنازع عليها مؤسّسات مختلفة الاهتمامات، سواء كانت ذات صلة أو غير ذات صلة، لذلك رأيتني مسرعا إلى قراءة الكتاب، حين رأيته معروضا في إحدى مكتبات القاهرة، الكتاب الذي، وللحق، لم يكن، ابتداء من صفحاته الأولى، عملا ثانويا يؤدّيه راغب في كتابة سيرته.
الكتاب أغنى بكثير مما تحتويه سير مشاهير من تلك التي يشوبها رغبة كتابها في الإفصاح عن عقبات رافقت مراحل نجاحهم، من دون أن يهملوا تطلّبهم النرجسي. منذ صفحات الكتاب الأولى من الكتاب يكتب بوب ديلان ما ينشغل به الكتاب الذين يعرفون أن جمهورهم متفرّق وقليل، فيذهبون إلى ما ليس سطحيا وعابرا. ودائما، في ما هو ينتقل في كتابه من مكان إلى مكان في أمريكا، ومن قضية إلى أخرى، يبدو بوب ديلان محيرا ومدهشا في جمعه بين التعمّق في المسائل الخلافية الصغيرة، وسعيه في الوقت نفسه إلى أن تضم حفلته الموسيقية ثلاثين ألف مشاهد. ذاك التساؤل عن جمعه الأمرين معا، أن يكون جماهيريا ونقديا في الوقت نفسه، تحقيق للمثل الجامع بين الماء والنار في قبضة واحدة. وهو نفسه لم يتوقّف عن التساؤل لماذا يحتشد كل هؤلاء الناس أمام باب بيته، ولماذا يوقفونه في وسط الطريق، ولماذا يلتفت جميع من في المقهى حين يقول واحد «إنه هو» أو «إنه هنا».
وفي الكتاب يبدو يوب ديلان مستنكرا ذلك التطويب الذي أعطي له بكونه ممثل جيله كله، أو على الأقل أنه الناطق باسم جيله. لا أريد أن أكون نبيا جديدا يقول، ثم إن هذه الكثرة الهائلة من المؤيدين تحول بينه وبين الحياة الهادئة التي يشاؤها لنفسه. لكنه مع ذلك لا يتوقف عن متابعة ما ستؤول إليه التبدلات العميقة في الحياة الأمريكية. «أمريكا تتغيّر»، وهو إذ يتنبأ بذلك لا يجد نفسه، حسب تعبيره، إلا ممتطيا صهوة التغيّرات. أما ما ينبغي فعله، لمماشاة التغيّر، فهو أن يكون في طليعته: «ثمة شيء واحد كنت واثقا منه: إذا أردتُ أن أؤّلف أغنيات شعبية فعليّ أن أعثر على قالب جديد، وعلى هوية فلسفية لا تستنفد».
للقيام بمهمة كهذه ينبغي عدم انتظار الإلهام وما قد تأتي به القريحة، الموسيقية والشعرية. بوب ديلان ينبو عن الصورة المعروفة لسائر المشتغلين بالفن في أنه منخرط بالحياة العامة الأمريكية إلى حد متابعته لتحرك النقابات على اختلافها وملاحقة القطاعات المختلفة الصانعة للحياة الأمريكية. دائما يرغب في أن يعرف كل ما يجري حوله. في إحدى السنوات قرّر أن يقرأ كل ما كتبته الصحف المحلية للسنوات ما بين 1850 و1860، وهي ست صحف أو سبع، ليعــــرف كيف كانت الحياة الأمريكية في ذلك الزمن، وعلى أي قواعد كانت قائمــــة من قبل.
أما عن صلته بالأدب فهو، في القسم الأول من الكتاب، يعيّن الحيّز الأدبي الذي أراده لنفسه انطلاقا من معرفته بآداب العالم المختلفة.
وفي هذا الجانب الأدبي سيكون عليه أن يوسع نظرته ليكون بين ما يرغب في الكتابة عنه موضوعات تتصل بالشاغل الأمريكي المتنوّع. فها هو يقول رأيا في ما يخصّ عصابات أمريكا: «كان آل كابون رجل عصابات ناجحا وقد أتيح له أن يحكم قبضته على العالم الخفيّ لشيكاغو، لكن لم يكتب أحد أيّ أغنية عنه. إنه ليس مثيرا للاهتمام وليس بطلا. إنه فاتر ووضيع، تسمعه هكذا كأنه يُذكَر وسط مقدّمة موسيقية بائسة. بريتي بوي فلويد، من جانب آخر، يثير فيك روح المغامرة. ثمة ما هو طليق وغير متجمد في الكلام البذيء الذي قيل عنه…إلخ».
ومن ذلك أيضا اندهاشه الطفليّ بـ«المصارع العظيم» جورجوس جورج الذي حضر إلى المدينة حيث كان ديلان. حضر المصارع مع فرقته المتألّفة من مصارعين، غولياث، ومصاص الدماء، والعاصفة، والخانق، ومحطم العظام، والرعب المقدس، ومصارعين أقزاما، واثنتين من المصارعات. لكن، «فجأة، انفتحت الأبواب ودلف جورجوس جورج نفسه. اندفع داخلا مثل عاصفة، وبدا كما لو أنه أربعون رجلا وحده. إنه جورجيوس جورج، بكل مجده الرائع. خصلات شعره الأشقر الطويل تطايرت بينما مرّ سريعا، والتفت نحو مصدر صوت الموسيقى (حيث كان بوب ديلان هو العازف). لم يخفف من سرعة مشيه، لكنه نظر نحوي، وكان لعينيه بريق ضوء القمر، غمز وكأنه يقول «إنك تبث الحياة في الحفل».
أما عن نفسه، عن نجاحاته وإحباطاته، فكتب مفكّرا في الأمرين معا، كأنه يفلسفهما أو كأنه ينظر فيهما كتجربة بشرية عامة. وهو مع ذلك لن يتعداهما في فصول لاحقة من الكتاب، دافعا قرّاءه إلى التساؤل كيف لرجل مثله، بلغ في نجاحه ذرى كثيرة، أن يرى نفسه واقفا في الوسط، بين النجاح والخيبة.
كتاب بوب ديلان «أخبار الأيام» صدر المجلد الأول منه، في 270 صفحة «مجموعة كلمات»، وقد نقله إلى العربية عبد الوهاب أبو زيد، 2018.

٭ روائي لبناني

أخبار الأيام… كما يرويها بوب ديلان

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية