كطائر الفينيق نهض الفلسطينيون الباقون في وطنهم داخل أراضي 48 من رماد النكبة، وصار الغصن الناجي من سكين القطع شجرة فروعها تمتد من ترشيحا إلى تل السبع.
في مثل هذا اليوم قبل أربعين عاما، الذي يحتفى به بالإضراب العام والمسيرات الجماهيرية تحررت في 30 مارس/آذار 1976 جماهير الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل من صدمة النكبة، وهبت دفاعا عن بقايا ترابها الوطني، فالأرض أكبر من مزرعة وأهم من حقل.. ودفاعا عن الكرامة ورفضا لمحاولات التدجين والإخضاع. يوم الأرض الأول علامة فارقة في مسيرة فلسطينيي الداخل من ناحية الهوية والنضال من أجل الحقوق والكرامة. وبرؤية تاريخية ثمة إجماع على أن فلسطينيي الداخل استمدوا حجارة صلبة من مقلع يوم الأرض الأول لبناء ذاتهم، أقلية وطن قومية على ترابهم، ومن وقتها انتقلت إسرائيل لمحاولة تطويعهم والتغلب عليهم بالاستعداء أكثر مما بالاحتواء واحتلال الوعي. وهذه هي خلفية الانفجار الكبير الثاني في هبة القدس والأقصى عام 2000، وللمخاوف الديموغرافية ولهوس الدولة اليهودية والتشريعات والاعتداءات العنصرية السافرة الراهنة.
وقد عبّر الشاعر الراحل توفيق زياد، أحد صناع يوم الأرض الأول من خلال منصبه كرئيس بلدية الناصرة وقتذاك عن معزة يوم الأرض وموقعه في وجدان الفلسطينيين. زياد الذي شجع زملاءه في الحكم المحلي على إعلان الإضراب العام في ذاك اليوم احتجاجا على مصادرة آلاف الدونمات العربية ناجى حبيبته بقوله: بلادي بلادي.. لياليك بالنصر حبلى.. وأنت تراث الجدود الذي ليس يبلى.. وأنت التي كل يوم تصيرين أحلى وأنت التي كل يوم تصيرين أغلى.
كتابة التاريخ بالأحمر
في ذاك اليوم من الثلاثين من مارس 1976 استشهد في سخنين خديجة شواهنة، رجا أبو رجا، خضر خلايلة. وفي القرية المجاورة عرابة البطوف، استشهد خير ياسين، وفي كفركنا ارتقى محسن طه، وفي مخيم نور شمس في الضفة الغربية استشهد رأفت زهيري بالرصاص ذاته الذي لم يفرق بين دماء الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر. بدمائهم الزكية معا، مع مئات الجرحى والمعتقلين كتب هؤلاء الشهداء تاريخ ميلاد الباقين في وطنهم، وحاول الاحتلال تصحيح «خطأ تاريخي» ببقائهم، من خلال محاولة ارتكاب مجزرة كفرقاسم عام 1956 بهدف ترهيبهم وترحيلهم في مخطط تطهير عرقي جديد. استشهد 46 من أبناء كفرقاسم لكنها لم ترحل مفضلة الموت على الرحيل، ومن وقتها زاد فلسطينيو الداخل، كما وكيفا، بعدما تضاعف عددهم من 130 ألفا بعد نكبة 48 إلى 1.3 مليون نسمة اليوم، وبعدما راكموا مكاسب مهمة في التطور، وبالعلم والعمل والهوية الوطنية وربما ينعكس نجاحهم الكبير بأن 60٪ من طلابهم في الجامعات اليوم من الإناث.
سطوع شمس الحقيقة
حتى ذاك الانفجار الكبير عام 1976 تُرك الفلسطينيون في الداخل، كالأيتام على طاولة اللئام، وتعامل معهم العرب كـ»عرب إسرائيل» بأحسن الحالات، و «الخونة» في أسوأ الحالات لأنهم حملوا بطاقات الهوية الزرقاء في سبيل البقاء»، وكان الشاعر الراحل سميح القاسم محقا بقوله، إن العرب تركوا فلسطينيي الـ48 وهربوا كالمرأة التي تركت مولودها في السرير وغادرت.
في يوم الأرض الأول وربما بتأخر سنوات، انتصرت الحقيقة وسطعت شمسها، حينما تنبه العرب وحتى الشعب الفلسطيني إلى أن «العيال كبرت» والغصن نما وترعرع وتحدى السكين، وأن الكف لاطمت المخرز. في ليلة وضحاها تبدلت النظرات والمصطلحات وصار «حملة الهويات الزرقاء» «عرب الصمود» و»أهل الأرض المحتلة» و»فلسطينيو الداخل» الخ. بفضل تلك الهبة الوطنية المخضبة بدماء شبابهم تعززت ثقة فلسطينيي الداخل بأنفسهم وتغيرت رؤية الآخر العربي والفلسطيني لهم، بل صار يوم الأرض ذكرى وطنية فلسطينية وقومية عربية يحتفى بها سنويا. ليس هذا فحسب، بل فوجئت المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة بخروج المارد من القنينة واضطرت وقتها لإعادة آلاف الدونمات المصادرة من أرض الملّ في سهل البطوف وسواه.
الصراع على الرواية والأرض
ومن وقتها لا يزال الصراع على الأرض، كما هو على الرواية مُركّبًا مهاًّا وأساسيًّا من مركّبات الصراع بين المواطنين الفلسطينيّين وإسرائيل. وكثير من الدلائل تشير إلى أن الانفجار المقبل بات وشيكا، في ظل حالة التشدد القومي والديني وتفشي داء الكراهية والعنصرية. ولذا يعتقد 76٪ من الفلسطينيين في إسرائيل (17٪) أنّ الزّيادة في وتيرة هدم البيوت في بلداتهم من شأنها أن تؤدّي إلى مواجهات جديدة. هذا ما جاء في استطلاع لمركز «مدى الكرمل» للدراسات الاجتماعية التطبيقية في حيفا، الذي كشف أيضا أن 65٪ من المستطلعين تؤكد على أهمية إحياء ذكرى يوم الأرض. وترى غالبيّة المشاركين، 81٪، ان البناء غير المرخّص في البلدات العربيّة هو نتيجة لعدم وجود خرائط هيكليّة جديدة لهذه البلدات نتيجة سياسات إسرائيلية مبيتة.
لليهود فقط
وهذا ما يبينه مركز عدالة في تقرير جديد أمس مشيرا لاستمرار وتصعيد السياسات العنصريّة للسلطات الإسرائيليّة والتي تسبب بشكلٍ مباشرٍ في تفاقم أزمة الأرض والمسكن في القرى والمدن الفلسطينيّة داخل إسرائيل. وجاء في التقرير الذي أعدّه المحامي محمد بسّام من مركز عدالة أنّ «فحص المناقصات الحكوميّة يؤكّد أن الأغلبيّة الساحقة من مناقصات تسويق الأراضي ومساعي تخفيض أسعار البيوت، تُخصص للتجمّعات السكّانيّة اليهوديّة أو المختلطة، بينما لا تُبذل أي جهود لحل أزمة المسكن في 136 قرية ومدينة عربيّة يعيش فيها 91٪ من المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل».
أم الحيران وجه للتطهير العرقي
ويبقى النقب المنطقة الأكثر استهدافا لأن مشاريع التطهير العرقي هناك تتجدد بشكل فظ، ولذا أرسلت أمس منظمة العفو الدولية في البلاد عريضة إلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تحمل اكثر من 1500 توقيع لأفراد ومنظمات محلية ودولية عبروا من خلالها عن قلقهم العميق إزاء مستقبل السكان الفلسطينيين البدو في أم الحيران في النقب، التي قررت المحكمة العليا هدمها وبناء مستوطنة يهودية مكانها، ترث حتى اسمها. ولتسامحنا هذه الذكرى العظيمة فما يقوم به الفلسطينيون بشكل عام وفلسطينيو الداخل اليوم لإحيائها ولاستذكار صانعيها أقل منها ومنهم. وعلهم ينفضون عنهم غبار التقادم والتكلس في فعاليات متجددة السنة المقبلة وبهمة الشباب لأن المسيرات الشعبية التقليدية لم تعد مجدية أو كافية على الأقل.
٭ كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»
وديع عواودة