صنعاء ـ « القدس العربي» من أحمد الأغبري: تأتي رواية الكاتب اليمني وجدي الأهدل «أرض المؤامرات السعيد» ــ دار نوفل/هاشيت أنطوان ببيروت ــ بعد نحو ست سنوات من صدور آخر رواياته «بلاد بلا سماء»، و16 سنة منذ صدور روايته الأولى «قوارب جبلية» الصادرة عام 2002، التي أثارت جدلاً ظل يتصاعد وصولاً لتهديد حياة الكاتب، ومن ثم فراره لخارج البلاد، وصولاً لتدخل الروائي الألماني الراحل غوانترغراس لدى الرئيس اليمني آنذاك؛ الذي وجه بإغلاق ملف القضية ليعود الكاتب إلى بلاده.
في هذه الرواية انفتح الكاتب أكثر على المجتمع بعدما كان يعتمد رمزية عالية ظلت تتراجع نسبياً في رواياته الثلاث السابقة، في ظل ما نتج عن روايته الأولى من إشكالات مع الرقيب، تضاعفت معه فعالية رقيبه الذاتي؛ وهو الرقيب الذي مازال أثره موجوداً ـ أيضاً- في روايته الأخيرة، لكن بشكل أقل كثيراً. الملمح الثاني في روايته الجديدة هو تراجع اشتغاله على فانتازيا الواقعية السحرية؛ التي انحصرت في مساحة محدودة على حساب تمدد واقعية المجتمع الحقيقية؛ فهنا يقف الأهدل وجهاً لوجه مع المجتمع والسلطة، وما تمارسه الصحافة في علاقتها بالسلطة والمجتمع؛ وإن بدا مبالغاً في بعض تفاصيل تلك العلاقة، إلا أنها مبالغة يريد منها الوصول بالقارئ إلى مستوى من (الصدمة) يجعله قادراً على تجاوز أفخاخ قراءة ما تنتجه الصحافة، بما فيها صحافة المعارضة. ربما تم تحوير اسم الرواية إلى «أرض المؤامرات السعيدة» لما لكلمة السعيدة من مدلولات تاريخية مصدرها تسمية اليمن قديماً بالعربية السعيدة؛ وبالتالي تكون تعبيراً عن اليمن؛ اليمن بكل ما فيه من مشاكل و(مؤامرات صغيرة) أدت إلى ما يعيشه البلد اليوم من احتراب؛ فالحرب الراهنة كانت تفاصيل صغيرة انحرفت معالجاتها لتؤدي، في الأخير، إلى هذه الأزمة العاصفة داخل نظام الحكم والمعارضة على حد سواء.
المجرمون
تناولت الرواية زواج القاصرات كموضوع رئيس اشتغل من خلاله الكاتب، على طبيعة العلاقة بين السلطة والمعارضة، وعلاقة كل منهما بالصحافة وحقوق الإنسان، من خلال تجربة صحافي باع روحه لشيطان السلطة، التي استخدمته في مواجهة المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان، وصولاً إلى تضحيتها به في نهاية المعركة، عندما استدعى الأمر أن يكون جزءاً من (المؤامرات الصغيرة)، التي يرى الكاتب أنها تشغل الجميع في المجتمع أفراداً وكيانات. تعرّي الرواية المجتمع في علاقته بكل شيء، بما فيها ما يعتبرها الناس تفاصيل صغيرة .. فالشخص اليساري في المعارضة كرّس حياته ليساريته، ونجح في أن يكون بطلاً في عيون الناس، لكنه فشل في منح عائلته ما تستحق من رعاية، وعجز عن توجيه ابنه بشكل صحيح، وضحى بحياة عائلته مقابل شهرته ومكانته وتاريخه؛ فجاء ابنه منحازاً للسلطة؛ فضحى بعائلته مقابل المال والجاه الذي نشأ محروماً منهما، بدون وعي بالقيمة الإنسانية للحياة. وفي المحصلة تتجلى السلطة والمعارضة مجرمتان بحق الحياة والإنسان.
البناء السردي
اعتمدت الرواية بناء تصاعدياً في سرد أحداثها التي تدور حول الصحافي «مُطهّر فضل» الذي كلفته صحيفة «الشعب» الحكومية بمهمة في محافظة الحديدة متمثلة في الدفاع عن سمعة أحد رجال السلطة ممثلاً في الشيخ بكري حسن المتهم باغتصاب الطفلة (جليلة)؛ وهو المتهم باستعباد واغتصاب فتيات أخريات والزواج بالإكراه، والمتاجرة بعدد منهن في بلدة (الجروم)، فذهب الصحافي في مهمته تلك أبعد مدى في تزوير الحقائق، غارقاً في وحل انحراف مهمته حداً يتجاوز تصور القارئ. لقد استطاع الكاتب، من خلال شخصية مُطهّر، كشف ما يجري في دهاليز صحافة السلطة في علاقتها بالحقيقة، لكنه، في المقابل، لم يبرأ صحافة المعارضة؛ فالجميع مهووسون بـ (المؤامرات الصغيرة) محكومون بأهداف السلطة، وهنا، قد يؤخذ، على الكاتب، وتحديداً من العاملين في هذه الصحافة، ما قد يعتبرونه مبالغة في تصوير علاقة السلطة بصحافتها وعلاقة صحافة السلطة بالمجتمع؛ وإن كانت العلاقة سلبية بلا شك، لكنهم قد يقولون إنها ليست بذلك المستوى الذي قدمته الرواية، لاسيما أن الكاتب في الرواية يتحدث عن مرحلة تنتشر فيها وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء المفتوح، لكن في المقابل؛ فالكاتب ليس معنياً بما في الواقع، بل بما يريد الوصول إليه، وهنا يعتمد الصدمات النفسية القاسية، بما يجعل من النتائج مضمونة التأثير لدى القارئ؛ إذ لن ينسى القارئ شخوص وجدي الأهدل في رواية «أرض المؤامرات السعيدة» في علاقته بالواقع؛ ذلك أنه يتشكل، من خلالها، وعي مضاد.
القاصرات وعالمهن
تدور أحداث الرواية على مدى أربعة وستين يوماً؛ هي فترة مَهمة الصحافي في تلك البلدة، التي ارتبط فيها بعددٍ من القضايا وعدد من النسوة والفتيات مارس خلالها ما يمارسه مَن هو في مهمة الدفاع عنه، وإن بطريقة مختلفة ومستوى آخر. تفاصيل كثيرة أزال من خلالها، الستار عن واقع مؤلم تعيشه الطفولة، في بلد فقير يتحالف فيه الأثرياء مع السلطة في تكريس التخلف، بهدف تكريس هيمنة السلطة، التي هي، في الأخير، هيمنة القوى المتخلفة، التي من حقها أن تعمل ما تشاء، بينما الآخرون يصبحون أعداء للوطن متى وقفوا في طريق أولئك؛ وعندئذ يسخّر ضدهم كل شيء تملكه الدولة؛ فالدولة، في الأخير، تظهر وكأنها ملك للأغنياء وأصحاب النفوذ من (ذوي الولاء) للسلطة في مواجهة (ذوي الكفاءة).
توزعت الرواية تحت عناوين «يومية تنازلية العدد» بدءاً من يوم الثلاثاء والعدد (64)، وهكذا وصولاً إلى يوم الثلاثاء والرقم (1)؛ وهو اليوم الذي كان الصحافي قد أصبح نفسه المجرم المدان بارتكاب جريمة استعباد واغتصاب قاصر؛ وهي الفصل الأخير من فصول الرواية والتي تحول فيها البطل إلى مجرم، عندما أرادت السلطة ذلك خدمة لمن هو أهم منه بالنسبة لها، وهو الشيخ بكري حسن، ما أضطره لمغادرة المدينة براً في سيارة ركاب عامة تعرضت لحادث في الطريق أدى إلى وفاته، وقبيل وفاته يعود الكاتب في، الفصل صفر، إلى مدينة الحديدة ليتعرف القارئ، من خلاله، على بقية تفاصيل الحكايات، ويعود بعدها (مطهر فضل) إلى السيارة، وهي تهوي في مشهد فانتازي ساحر.
الخطاب الروائي
على صعيد الخطاب ثمة قضايا كثيرة تناولتها الرواية تحت عنوان قضية زواج القاصرات، وهي علاقة المجتمع بذاته وإنسانيته، كما سبقت الإشارة؛ فالوعي بالجانب الإنساني غائب ليس في المجتمع وما ظهر في علاقته بطفولة الأنثى، وما يرتكب في حقها من جرائم استعباد واغتصاب وزواج بالإكراه، وما تمارس السلطة في علاقتها بالصحافة والمعارضة في تكريس هذه الانحرافات والجرائم، فالرواية تقدم علاقة السلطة بمسؤولياتها عارية من أي قيمة إنسانية أو وطنية أو أخلاقية؛ فقد ذهبت مع الصحافي مُطهّر لارتكاب أي شيء؛ وهو نفسه ذهب معها إلى حيث كانت تشاء مستسلماً لأحلامه ونزواته، إلى أن كان هو نفسه المجرم والمُدان والضحية لسلطة وثقافة منحرفة.
كشفت الرواية العالم السفلي ليس في جرائم زواج القاصرات في اليمن وإنما أيضاً، في علاقة السلطة بالدولة وفي علاقة الدولة بالإنسان، حيث تُرتكب أبشع الجرائم وتُنتهك الحُرمات وتُداس القيم، وكل تلك الانحرافات عكست هشاشة البُنية العامة للدولة؛ وبالتالي لم تكن الحرب الراهنة إلا نتيجة لدولة هشة لم تحترم نفسها ولم تؤسس لحضورها القانوني والمؤسسي. فالعبودية التي يمارسها المجتمع من خلال اغتصاب القاصرات والزواج بهن، تمارسها الدولة، بشكل أبشع، من خلال استعباد موظفيها بمن فيهم الصحافيون وتحويلهم إلى أدوات تغتصب من خلالهم الحقيقة والمعرفة التي تكرسها صحافة السلطة يومياً في وعي المجتمع؛ وبالتالي فالوعي الناتج عن تلك المعرفة وعي منحرف ينتج عنه أشكال أخرى من العبودية والاغتصاب.