أسئلة كثيرة تطايرت في ملتقى السرد الثالث عشر في الشارقة ( 18-20 سبتمبر/أيلول) الذي حمل عنوان «الرواية العربية في المهجر»، وهي تساؤلات تبدو بدهية وبسيطة إلا أنها تعكس حذر المثقفين وارتباكهم إزاء مفهوم كلمة (المهجر) المستجلبة من ذاكرة ووعي تم تجاوزهما، وهذا الاحتراز المنهجي هو الذي وسع دائرة الجدل وأضفى على الحوارات بعض الحيوية، إذ لم تعد مفردة (المهجر) لا من الناحية الزمانية ولا المكانية كلمة توصيفية جامعة للفعل الروائي المتجدد والمبعثر خارج الوطن العربي.
ذلك التشظي الموضوعي هو الذي دفع نبيل سليمان إلى عنونة ورقته بعبارة تختزن اعتراضه على فكرة (المهجر)، وفتح أفق الجدل على محطات أو تنويعات أوسع للهجرة، حيث جاءت بعنوان «الهجرة وأخواتها في الشعر والرواية»، وقصد بها آداب اللجوء والنزوح والاغتراب والمنفى وغيرها من تمظهرات الهجرة والتهجير، حيث يفرض كل شكل من أشكال تلك النزوحات موضوعه ولغته.
أما سعيد يقطين فقد اقترح مصطلح (الفضاء الثالث) وذلك في ورقته التي حملت عنوان «الرواية العربية في المهجر بين المركزية والتهميش»، حيث شخّص حالة الروائي المنفصم ما بين فضائين: فضاء ينتمي إليه، حيث أصوله الثقافية والتاريخية، وفضاء يهاجر إليه ليقيم فيه منفياً أو بشكل مؤقت أو دائم، وهنا يتموضع الروائي، أي في فضاء ثالث، وفيه يحاول الروائي أن يجمع بين الواقع الذي بات وراءه والواقع الذي يمثل مستقبله، حسب رأيه، حيث يحمل معه متخيله وذاكرته اللذين تشكلا في فضائه الأول، إلى الفضاء الثاني المهاجر إليه، والذي يتفاعل معه حسب الضرورات التي يفرضها عليه الواقع الجديد، وهذا هو ما يفسر تعدد العلاقات مع الفضاء الثالث بمقتضى أنواع العلاقات والمنظورات، سواء كانت الهجرة وقتية أو قسرية لها طابع المنفى الأبدي.
هناك فرق ما بين رواية غسان كنفاني بعنوانها وعبارتها الجازمة «عائد إلى حيفا» حيث الإصرار والتحدي، باعتبارها رواية من روايات المهّجرين النازحين، وبين معظم الروايات العربية اليوم التي تحمل عناوين نوستالوجية رخوة، مكتوبة بلغة استعادية سياحية لأن بعض الروائيين العرب لا يعيشون بالفعل حالة الهجرة بالمعنى الشعوري للكلمة، بقدر ما يمارسون الترحال في عالم بات على درجة من الانفتاح والتواصل، وهذا التباين في دوافع الهجرة وفضائها الزمني، هو الذي شجع الباحثين على طرح سؤال اللغة، أي فحص لغة الروائي المهاجر أو المهّجر أو النازح أو المنفي أو السائح، على اعتبار أن اللغة مؤشر من مؤشرات وعي الذات الروائية في المهجر، كما يمكن مقاربتها كمجس لفحص صدقية موضوع الهجرة، والكشف عن مرادات الروائي، ولذلك ميز محمد قاسم نعمة ما بين مفهومي الهجرة والاغتراب.
الروائي العربي يتوزع اليوم في جميع أنحاء العالم، ويكتب من الـ«هناك» الإنساني باعتبارها لحظة انزياح أنطولوجي تتجاوز المكاني إلى الزماني، حسب تعبير رسول محمد رسول، وهو الأمر الذي يحرض على الخوض في تجليات المهجر لقراءة التنويع الروائي، حيث تكشف العودة قليلاً إلى الوراء عن تباينات ما بين المهجر الاشتراكي والمهجر الرأسمالي، وهي محطة زمكانية أسست لمتوالية من الروايات، وفرضت أيديولوجيتها وشكلها المقترح للحياة داخل الرواية، كما يفرض أطلس الرواية العربية المكتوبة في الخارج الانتباه إلى أهمية هذه الكتلة التاريخية التي يعول عليها كقوة ناعمة في مخاطبة الآخر، وكذلك مساءلة اللفحة الاستشراقية التي تتضمنها بعض تلك الروايات، إذ لا يمكن وضع كل ذلك المنجز الروائي في سلة واحدة والتعامل معه من منظور أحادي بالتحديد ما يدفع إلى مجادلة الرواية العربية المكتوبة أصلاً بلغة أجنبية، أو ما سماه سعيد يقطين بالمهجر اللغوي، وهي روايات تثير التساؤل حول عروبية الفضاء أو التفكير الذي كُتبت فيه.
الروائي الذي يكتب من مهجره عن مكانه الأول وغبطة بداياته، هل يُنظر إليه ككاتب مهجري؟ هذا هو السؤال الذي لم يستقر في أجواء الملتقى، لأن موضوع رواياته ولغته لم تتغير بتغير المكان الذي يقيم فيه، كما أن زاوية الرؤية عنده لم تتبدل بما يكفي من الوجهة السوسيوثقافية ليتم التعامل معه كروائي مغاير، خصوصاً أن العالم اليوم يسمح للإنسان بإعادة التموضع المكاني من دون أن يفقد إحساسه بالانتشال من مكانه الأول، وهذا هو ما حرض الباحثين على عرض نماذج جديدة ومتنوعة لروائيين عرب يكتبون الرواية من منافيهم القسرية أو الاختيارية بالإيقاع ذاته واللغة الحنينية التي لا تشير إلى أثر المكان على الثقافة والوعي والذاكرة، وهذا هو بالتحديد ما حرض عزت عمر على التساؤل عن تبدلات الوعي مع اختلاف الأمكنة المهاجر إليها، مع ميل واضح إلى أن الذات العربية الروائية لم تتزحزح عن مواقعها.
الرواية المترجمة أيضاً كانت محل تساؤل باعتبارها رواية مهجّرة إلى لغة الآخر، حيث أثيرت الأسئلة حول دوافع الترجمة سواء من قبل المؤسسة الثقافية العربية أو من قبل دوائر الآخر، بوجود باحثين مثل أستاذ الأدب العربي المعاصر واللغة العربية في أمريكا بنجامين سميث، والبولندية باربارا ميخالك مديرة معهد الاستشراق، والإيطالية إيزابيلا كاميرا أستاذة كرسي الأدب العربي المعاصر في جامعة روما، الذين أكدوا على ضعف الترجمة وعدم إقبال الآخر الغربي على مطالعة الرواية العربية، وهو البعد الذي أكده خالد المصري مدير برنامج اللغة العربية في كلية سوارثمور في ولاية بنسلفانيا، كما ثنّت عليه نجوى بركات التي قالت بانعدام أثر ترجمات رواياتها على القارىء الأجنبي. كل ذلك أثار التساؤل عن جدوى تلك القائمة من الأسماء التي يُراهن عليها لمخاطبة الآخر، سواء برواياتها المترجمة أو المكتوبة بلغة الآخر، لأن الرواية العربية اليوم تعاني بالفعل من ارتباك وهي لا تقدم أي إضافة للظاهرة الروائية العالمية، أو ما سماه يوسف القعيد بظاهرة (الازدهار البائس) ويعني به ذلك التسونامي من الروايات الرديئة التي يتم ترحيل بعضها إلى لغات الآخر.
الجيل القديم من النقاد استعادوا الروايات والأسماء المعروفة، والمكرسة، التي تحضر غالباً كمقررات مدرسية، أما النقاد الجدد فقد استحضروا منظومة من الأسماء الجديدة المجهولة عربياً التي عكس حضورها مدى تمدد المهجر وتنوع دلالاته، حيث تطرق فهد الهندال من منطلق التجاور الأدبي إلى تجربة الكندي الكويتي ناصر الظفيري، كما استذكر فهد حسين أربع تجارب روائية عراقية مكتوبة بأربع لغات مختلفة استلحاقاً بالمكان الذي كتبت فيه، وجادلت عائشة الدرمكية العمانية غالية آل سعيد على حدود تبدلات خطاب هوية الشخصية وحدود الفن، كما حضر الإريتري أبو بكر كهال وهكذا، حيث شكلت كتابات الغربة هذه فرصة لإعادة الحديث عن المهجر كمختبر للرواية، وإثارة الجدل حول ازدواج مفهومي الهجرة في الرواية ورواية المهجر، وفحص ما سماه الرشيد بوشعير بالآثار الكولونيالية الثقافية التي فُرضت على كتاب المغرب العربي، وهي أسئلة على درجة من الأهمية يُحسب للملتقى إثارتها كعنوان عريض لتمفصلات هي بحاجة إلى قراءات أعمق وأشمل للإجابة على سؤال المركز والهامش في الرواية.
٭ كاتب سعودي
محمد العباس
شكراً لأنك وضعتنا في ( أتون ) ملتقى الشارقة…ولقد ذكرني مقالك المحقق عن رواية المهجربأغنية عبد الحليم حافظ ( سواح ).ياأخي محمد أنّ كلّ الرّوايات مهاجرة ؛ ولوكانت في داخل النفس والناس والوطن المسكون.فهي في معراج الرّوح صعوداً وهبوطاً (الهبوط إلى أسفل أيضاً يسمّى معراج كما في معراج محي الدّين بن عربي).فهي تهاجرإلى عوالمها الذاتية والموضوعية ؛ ففي زمن العولمة هيهجرة من المهد إلى اللحد…وكان الأولى تسمّية ملتقى الشارقة ( الرّواية العربية في الغربة ).فعلاً لفظة المهجرأصبحت ( مقعدة ) على كرسي متحرّك.نحن في زمن العولمة والمعلوماتية والاتصالات الفائقة..حتى وأنا أكتب كلماتي هذه فهي تهاجرإليك عبرحرس حدود القدس العربيّ من الساهرين ليل نهارعلى كلّ صغيرة وكبيرة ؛ خشية من الهجرة غيرالشرعية للكلمات.لكن لا أعرف هل هم مسلحون من الرأس إلى الكعب كغيرهم أم حواسرفقط بأقلام وكتب ؟ أخيراً أعجبتني بدايتك الطيّارة :
{ أسئلة كثيرة تطايرت في ملتقى السرد الثالث عشرفي الشارقة }.فإلى أين تطايرت؟ هل إلى المهجرأم إلى المهجع النازف بدم أحمربوسم النار؟ والسؤال الذي نريد الاجابة بشأنه : متى يُعقد ( من التعقيد لا من الانعقاد ) ملتقى العرب ليهاجرالوطن جميعاً إلى المهجر؟ لنكتب حكاية بل قصّة بل رواية بل ملحمة تقول : كان يا ما كان في يوم من الأيام : قوم يسمّون العاربة انقرضوا كالديناصورات ؛ لأنهم لا يعرفون كتابة الرّواية إلا في المهجر.أما في داخل الوطن فقد كتبوها بحبراسمه : فقدان الناموس ؛ فتهافتت لديهم غيرة الرجال فكانوا قرون جاموس.
لا تزال شروط و محددات الأدب المهجري بين أخذ و رد. و من أهم المتفق عليه أن الغربة تكون اختيارية لدوافع مختلفة. و لذلك هي لا تشمل المهجر قسرا و أدباء النكبة. لأن معاناتهم خاصة و نوعية. و أن لا تكون الكتابة من الذاكرة أو من مصادر متنوعة و المعايشة جزء من النص. عموما النقد عملية ديمقراطية و من الصعب أن تضع القاعدة لتنسج على منوالها.
(سماه الرشيد بوشعير بالآثار الكولونيالية الثقافية التي فُرضت على كتاب المغرب العربي، وهي أسئلة على درجة من الأهمية يُحسب للملتقى إثارتها كعنوان عريض لتمفصلات هي بحاجة إلى قراءات أعمق وأشمل للإجابة على سؤال المركز والهامش في الرواية.)تعمدت نقل هذه العبارة لأطرح السؤال التالي : هل المشكلة هي في الغرب العربي وحده؟ الحقيقة أن الأدب المنتج في غير وسطه كيفما كان هو الذي هاجر بإرادة من صاحبه لينبت في تربة اخرى و يزهر بإسم صاحبه من هنا اقول ( إذا كنت في بلدك سلطان فانت في بلد غيرك راعي) عفوا استاذ محمد العباس مجرد ملاحظة