ليس من أسوار صينية فاصلة بين نهاية عام وبدء الذي يليه، إنما هي خطوط مراجعة وحساب في دفاتر أعمار الأفراد والأمم، وقد كانت نهاية عام 2017 في مصر مبشرة داخليا، فقد بدأ الإنتاج مبكرا من حقل «ظهر» الأكبر للغاز الطبيعي، وانتهى حفر أربعة أنفاق عملاقة تحت قناة السويس إلى سيناء، وجرى إطلاق إشارة البدء في مشروع «الضبعة» النووي.
ولا نظن أن وطنيا عاقلا ينكر ما جرى من إنجازات هائلة في السنوات الأخيرة، قامت إدارات الجيش بالدور الجوهري في الإشراف عليها، بالدقة والانضباط الحازم المعروف عن تقاليد الجيش المصري، وبمشاركة مئات من شركات المقاولات، وما قد يصل إلى ثلاثة ملايين مهندس وفني وعامل مدني، وبما عجل بإتمام مشروعات كبرى، بينها سلاسل المدن الجديدة الأحدث بمعايير عالمية، وشبكة الطرق غير المسبوقة في امتدادها وجودتها، ومحطات الطاقة الكهربية التي تجاوز إنتاجها حد الاكتفاء الذاتي، والدفعة المميزة في التنقيب عن البترول والغاز الطبيعي، وتحويل مصر إلى مركز إقليمي متقدم لإمدادات وتداول الطاقة، والشروع في إنشاء مناطق اقتصادية وصناعية طموحة.
ناهيك عن الطفرة المذهلة التي جرت في تسليح الجيش، والقفز بمكانته المتقدمة بين جيوش العالم العظمى، وإنعاش الصناعات العسكرية والمدنية في مصانع الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع، والتقدم الجاري في صناعات الكيماويات والبتروكيماويات بالذات، من مجمع مصانع الكلور و»الشبة» في الفيوم، إلى «مجمع ايثيدكو» العملاق في العامرية، وإلى أكبر مصانع الأسمدة المقرر افتتاحه قريبا في «العين السخنة»، والتحضيرات الجارية لإنشاء أكبر مصانع الأدوية، وغيرها من إنجازات مرئية في تطوير محطات تحلية المياه ومحطات الصرف الصحي والمعالجة الثلاثية للمياه، ومزارع الأسماك وتربية مليون رأس من المواشي وزراعة الصوب بالآلاف.
وإن كان مشروع استصلاح المليون ونصف المليون فدان، قد شهد تعثرا ملموسا، وقد لا تكون تلك هي نقطة النقص وموضوع التساؤل الوحيد، فقد كان بالوسع ولا يزال، توجيه دفة الإنجازات إلى مجالات أكثر حيوية، خصوصا أن موارد هائلة قد توافرت على نحو ما، ومن خارج موازنة الحكومة، وبما لا يقل بحال عن تريليوني جنيه مصري إلى الآن، جرى إنفاقها في المشروعات الجديدة، وكان ممكنا، ولايزال، أن يجري تخصيص نصف الموارد المهولة إلى هدف آخر، هو التصنيع الشامل للبلد، وبناء مصانع كبرى، استنادا إلى مجمع صناعي عسكري مدني جديد، توفر فرص عمل حقيقية دائمة منتجة لملايين العاطلين، وتحل محل الواردات المصنعة، وتضاعف طاقة التصدير، وتخلق اقتصادا إنتاجيا لا ريعيا، يكون التصنيع عموده الفقري، وعلى نحو يعوض ويتجاوز هدر الطاقة الصناعية وتجريف القلاع الكبرى، الذي جرى في عقود «الخصخصة». وربما يكون عام 2018 فرصة لمراجعة أهداف طاقة الإنجاز، والتقدم من الأعمال الإنشائية إلى المشروعات الصناعية، وبدون انتظار لا يعول عليه لتدفق استثمارات أجنبية ذات مغزى مؤثر.
وبالطبع، لا يصح فصل تساؤلات الإنجاز عن حالة الاقتصاد الراهنة، فلا تزال الحالة منهكة، رغم بعض التقدم في المؤشرات الكلية، والديون الخارجية صارت عبئا ثقيلا متزايدا، ونظن أن التوقف عن الاستدانة والاقتراض صار واجب الوقت، ويكفي ما لدينا من ديون خارجية وداخلية، صار عبء تسديد أقساطها وفوائدها غاية في الإرهاق، ويكبل أعناق أجيال حالية ومقبلة، وهو ما يدعو إلى مراجعة وتساؤل عن دواعي وجدوى الاستمرار في تنفيذ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، فقرض الصندوق المقرر استكماله، والبالغ 12 مليار دولار في جملته، هو دين جديد يرهن مواردنا ويستنزف أصولنا، وشروطه فادحة في تكاليفها الاقتصادية والاجتماعية، وبالذات شروط «الخصخصة» الضمنية أو الصريحة لبنوك عامة ومحطات طاقة وشركات بترول استراتيجية، وألف باء الاتعاظ بما جرى من قبل، أن يتوقف أي اتجاه للخصخصة المنتهية دائما إلى مصير «المصمصة» وخلع الأصول وتجفيف الموارد.
وبالوسع تخليق موارد ذاتية تغنينا عن ذل الاستدانة ومد اليد السفلى، بالتقدم إلى نظام ضريبي عادل، والتطبيق الجاد المدروس لمبدأ «الضريبة التصاعدية» المعمول به في دول تحترم نفسها وشعوبها، فلا يعقل أن يبقى الحد الأقصى للضرائب على أعلى شرائح الدخل عند نسبة 22.5%، والمطلوب مضاعفة الحد الأعلى لضرائب الدخل لا الشركات، وهو ما يقفز بموارد الموازنة العامة، ويشفينا تدريجيا من داء الاقتراض الخارجي، خاصة لو جرى فك تجميد العمل بضريبة الأرباح الرأسمالية في البورصة، وتخليص هيئات تحصيل الضرائب من الفساد المتفشي، وتحصيل تراكمات التهرب الضريبى للكبار، التي تبلغ نحو 400 مليار جنيه سنويا بحسب الأرقام الرسمية، وهي تساوي عشرة أمثال المبلغ الذي وفرته الحكومة برفع أسعار البنزين ومشتقاته، وقد جرى رفع أسعار المحروقات لثلاث مرات في السنوات الأخيرة، ومن المقرر رفعها مجددا في السنتين المقبلتين تنفيذا لشروط صندوق النقد الدولي، وهو ما يثير التساؤل، ويدعو إلى مراجعة حان وقتها، فلم يعد أي معنى عادل لرفع أسعار الكهرباء والبنزين وتوابعه، خاصة بعد اكتشافات البترول والغاز الطبيعي، وبدء إنتاج حقل «ظهر» بالذات، الذي يوفر الآن نحو 60 مليون دولار شهريا، أي 720 مليون دولار في السنة، أي 13 مليار جنيه سنويا بأسعار الصرف الحالية، تتصاعد إلى 2 مليار دولار، أي نحو 36 مليار جنيه سنويا، مع زيادة إنتاج «ظهر»، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، والتوقف تماما عن استيراده، والغاز المكتشف هو ملك للشعب، ومن العدل أن يعود خيره على الشعب، وعلى طبقاته الفقيرة والوسطى أولا، لا أن يجري التفكير فقط، كما يحدث الآن حكوميا، في خفض أسعار توريد الغاز لمصانع بارونات الحديد والسيراميك والأسمدة وغيره، وكأن خير البلد لابد أن يذهب دائما إلى خدمة الكبار، الذين لا يدفعون ضرائب تذكر، ولا يخفضون أسعار منتجاتهم، بينما تذهب الطبقات الفقيرة والوسطى إلى مزيد من جحيم الغلاء، وأبسط دواعي الإنصاف تقتضي التوقف من الآن عن زيادة أسعار الطاقة المقررة سنويا، فغلاء الطاقة يشعل أسعار كافة السلع والخدمات الأساسية، ويحمل الفقراء والطبقات الوسطى وحدها فواتير ما يسمى «إصلاح» الاقتصاد، بينما تبقى مصالح الكبار والناهبين محصنة بغير مساس.
ولا يمكن فصل أحوال الاقتصاد عن داء الفساد المسيطر، وتحكم امبراطورية الفساد في مفاصل الاقتصاد والبيروقراطية، ومص دم البلد وموارده، والنظام القائم يعترف بتفشي الفساد، ويقول إنه يخوض حربا ضده، وما من مظهر مرئي للحرب المعنية، سوى نشاط جهاز الرقابة الإدارية الذي لا ينكر، وقد تلاحقت حملات ضباط الرقابة الإدارية، وبلغت ذروتها عام 2017 المنقضي، وكشفت أرقاما مذهلة لنهب وثروات موظفين كبار وصغار، في وزارات ومحليات وهيئات قضائية، وهذا جهد مقدر، لكنه لا يكفي بالطبع، فقصة الفساد في مصر أكبر من ملاحقات متفرقة لجهاز الرقابة الإدارية، وهو ما أبرزته عناوين نهاية العام، وعلى نحو ما جرى في حجب سويسرا لأموال منهوبة من مصر، وتبجح المخلوع مبارك وعصابته في الادعاء بنظافة اليد، وتأخر القبض على حبيب العادلي لتنفيذ الحكم الصادر ضده في قضية «فساد الداخلية»، والإفراج «القضائي» عن أمواله وأصوله المهولة داخل مصر، وعودة رجال ونساء جماعة مبارك ونجله إلى تصدر مواقع مؤثرة في عالم البيزنس والسياسة والإعلام، وتهريب الحيتان لمئات مليارات الدولارات، والميل التشريعي إلى عقد مصالحات صورية مع كبار الفاسدين، والشلل شبه التام في عمل الجهاز الإداري للدولة، ووقف مفعول مبادرة استعادة الأراضي المنهوبة، التي أمر بها الرئيس السيسي قرب أواسط العام المنقضي، وكشفت عن نهب قرابة المليوني فدان زراعي من أراضي الدولة، إضافة إلى 165 مليون متر مربع من أراضي البناء، وبعد الرصد الأول، توقف كل شيء تقريبا، ولم يجر تحصيل المقابل المستحق لنهب الأراضي، والمقدر بنحو ثلاثة تريليونات جنيه مصري، تكفي لسداد ديون مصر الداخلية والخارجية معا، وهو ما يثير التساؤل الجدي عن مصير الحرب المعلنة على الفساد، فالفساد لا يهزم بغارات متقطعة، بل باجتثاث شامل شرط توافر إرادته السياسية.
وربما يتبقى حديث الإرهاب والسياسة، فمصر تخوض حربا ضد جماعات الإرهاب الحليفة موضوعيا لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، ولا بديل عن كسبها الممكن، وقد تعهد الرئيس بتصفية البؤرة الرئيسية للإرهاب بسيناء، قبل ربيع عام 2018، والمصريون ينتظرون تحقق الوعد، وعندهم تمام الثقة في كفاءة الجيش المصري، وإن كانت الثقة أقل في أجهزة الأمن المدنية، التي يقع عليها عبء رئيسي في الحرب ضد الإرهاب، وهو ما يثير التساؤل عن دور الأجهزة، وعن ميلها للقمع العشوائي، وعن تدخلاتها الفظة في السياسة والصحافة، وقد آن الأوان لفك التداخلات المهلكة، وضرورة التمييز الصارم بين الإرهاب والسياسة، فالإرهاب يستحق حربا ومحاكمات بلا سقف، بينما السياسة تستحق نظرة أخرى، تفكك احتقانا سياسيا متزايدا، وترد الاعتبار للحريات العامة، وتقيم حوارا وطنيا عن مستقبل النظام السياسي، وتخلي سبيل آلاف المحتجزين بالسجون في غير تهم العنف والإرهاب المباشر، وبقانون عفو عام.
كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
إلى متى هذا الإنفصام عن الواقع المُعاش ؟
ولا حول ولا قوة الا بالله