«إيران متورطة في أحداث 11 سبتمبر»، عندما قرأت ذلك العنوان لأول مرة ظننت أنه مقال رأي أو تحليل، فقد كثرت الاجتهادات التي تربط بين النظام في إيران والمجموعات الفوضوية كـ»داعش» وغيرها، باعتبار أنها المستفيد الأكبر من نشر الإرهاب وبعثرة الأوراق الإقليمية، كما أن لها المصلحة الواضحة في وسم السنة بالجريمة والإرهاب.
لكن ما قرأته لم يكن تحليلاً، بل خبراً مفاده أن دولة الملالي وذراعها «حزب الله» اللبناني تورطا فعلاً في تقديم مساعدة ودعم كبيرين لما يسمى بخلية هامبورغ، التي نفذت أحداث عام 2001، وأن أحد المخططين، رمزي بن الشيبة، كان في زيارة لطهران بداية ذلك العام. أعلن كل هذا قاضي محكمة نيويورك الذي كشف قبل أيام عن ست وثائق كافية لإدانة رموز النظام في طهران. استناداً إلى هذه الوثائق أصدرت المحكمة حكماً على الدولة الإيرانية بدفع مبلغ تعويضات كبير قد يفوق مجموع الأموال التي كان يجب الإفراج عنها، بعد دخول الاتفاق النووي حيّز التنفيذ. كما أدرج اسم المرشد الأعلى علي خامنئي على اللائحة الجنائية جنباً إلى جنب مع أسامة بن لادن.
الصدمة كبيرة بلا شك، خاصة لأولئك الذين كانوا يدافعون بحماس عن التحركات الإيرانية ويعتبرون أن إيران دولة بريئة لا يعاديها الآخرون إلا لعدائها للإمبريالية، كما أنها صدمة لأنصار «حزب الله» المتورط، بحسب الشهادات المتواترة، في تقديم تدريبات مهمة على التخريب واستخدام المتفجرات لأفراد «القاعدة» مما ساعدهم على القيام بضربات موجعة كحوادث الهجوم على السفارات الأمريكية. هكذا يكون نظام الولي الفقيه قد أمسك بخيوط لعبة الإرهاب باحتراف، ليس فقط عند المجموعات القريبة منه طائفياً، ولكن حتى عند تلك السنية، التي لم يكن يتبادر للذهن إمكانية وجود تعاون بينها وبين غلاة الشيعة، الذين يبادلونهم التكفير. لقد استطاعت إيران أن تجمع على سبيل المثال بين عماد مغنية رجل «حزب الله» المعروف وبن لادن زعيم «القاعدة». سوف يجعلنا ذلك نعيد فتح ملف الحادي عشر من سبتمبر ويحملنا على قبول ما اعتبر سابقاً أمراً غير مقبول، كوجود شراكة بين رجال «القاعدة» ورموز إيرانية أو شيعية، حيث أن من الوثائق ما يؤكد أن مقر «مجلس شورى القاعدة» خلال عام 2002 كان في إيران.
صدمة سبتمبر كانت كبيرة ليس فقط على الأمريكيين الذين رأوا أن مبانيهم الكبيرة والحساسة قد استهدفت ببساطة وسقطت لتسقط معها كرامة الدولة التي تتباهى بأنها الأقوى عسكرياً ومخابراتياً، ولكنها كانت صدمة كبيرة لباقي العالم، خاصة للدول العربية والإسلامية التي خشيت على نفسها من انتقام هستيري من قبل أمريكا جورج بوش المتهورة. في ذروة الغضب تلك فكر بوش بمعاقبة كل الدول المعادية. إيران سبقت الآخرين مؤدية واجب العزاء في ضحايا الأحداث ومركزة، رغم عدائها المعلن للأمريكيين، على رفضها الإرهاب ووقوفها مع الولايات المتحدة ضد الإرهابيين القادمين من أفغانستان. كانت رسالة موفقة ساندتها رسالة أخرى من وزير الدفاع الإيراني، عرض فيها تقديم أي مساعدة أو مساندة ممكنة للأمريكيين، سواء عسكرياً أو أمنياً. بالنظر إلى موقع إيران الجغرافي فالولايات المتحدة لم تكن لترفض مثل ذلك العرض، خاصة بعد عزمها على حرب طالبان. تلك الحرب التي ستحتاج من أجل إنجازها ليس فقط للموانئ والأجواء الإيرانية، ولكن أيضاً للمعلومات الاستخبارية التي قد توفرها طهران. الولايات المتحدة لم تطلب المساعدة الإيرانية، لكن الواجب الإنساني هو ما يدفع للمبادرة بعرض المساعدة، هكذا قال علي شمخاني وزير الدفاع الإيراني في رسالته آنذاك للقيادة الأمريكية.
نعود مرة أخرى للعلاقة بين أحداث سبتمبر وطهران. للتوضيح فإن المقصود ليس أن من نفّذ هذه العملية هو مجرد مجموعة مأجورة، بل إن المسألة أكثر تعقيداً، فأولئك كانوا مجموعة متحمسة تلقت الدعم والتدريب والتسهيلات من الطرف الإيراني، الذي أقنعهم لوهلة باشتراكه معهم في عداء المصلحة الغربية و»الأنظمة العربية العميلة». كل ما طلبه الطرف الإيراني كان أن يتعهد قادة «القاعدة» بعدم تنفيذ أي عمليات على أراضيه، وأن لا يورطوه أمام الرأي العام العالمي، وهو ما ظل أولئك ملتزمون به حتى النهاية. التفاصيل المثيرة تحكي عن الدور الذي لعبه «حزب الله» عبر عملائه في أفريقيا، من أجل السماح لـ»القاعدة» بشراء كميات كبيرة من الماس، وهو ما جعل مهمة متابعة تدفقاتها المالية وتحركاتها عبر العالم صعبة. كانت سمسرة ناجحة وشراكة اقتصادية ذكية مع التنظيم، الذي سمح له هذا التعاون بتنفيذ عدد من العمليات تحت غطاء لوجستي ومساعدة إيرانية، ابتداء من اغتيال أحمد شاه مسعود وتفجيرات الرياض ونهاية بالحدث الأكبر، تفجيرات سبتمبر وما تلاها. المفارقة هي أن إيران التي تضيّق على بسطاء السنة وتعلن حرباً موجهة ضد مسميات غامضة كالسلفية والوهابية، هي ذاتها التي كانت ملاذاً آمناً لقادة «القاعدة» كأبي مصعب الزرقاوي وغيره من المطلوبين. إيران تبدو هنا براغماتية لدرجة التضحية ببعض أبناء الطائفة الشيعية نفسها في سبيل تمكين مجموعات إرهابية قد تحقق لها مصلحة على المدى البعيد. من المعروف مثلاً أن مشروع الزرقاوي كان مبنياً بالأساس على الانتقام من الشيعة وإرهابهم، رداً على جرائم المليشيات ضد سنة العراق. رغم ذلك فقد وجد دعماً لوجستياً من النظام الذي يتحدث باسم شيعة العالم. لكن هذا لم يكن الموقف الوحيد الذي خذلت فيه إيران من تدعي حمايتهم، فلا يغيب عنا وقوفها مع إرمينيا وروسيا ضد أذربيجان ذات الغالبية الشيعية، وهو ما يجعلنا نزعم أن موقف إيران المساند لشيعة الخليج ليس موقفاً مبدئياً أصيلاً، وإنما مجرد ورقة ضاغطة تستخدمها طهران في إطار تنافسها الجيوسياسي مع دول المنطقة.
ربما لم يتوقع مغامرو «القاعدة» أن إيران ستتحالف مع الشيطان الأكبر وستبيع بثمن بخس رفاقهم المجاهدين في أفغانستان، أو على الأقل أن ذلك سيتم بهذه السرعة، خاصة أن ذلك قد كان قبل وقت طويل جداً من التقارب الحالي الناشئ عن توقيع الاتفاق النووي. بهذه الشراكة المزدوجة مع «القاعدة» أولاً، ثم مع الأمريكيين ثانياً استطاعت إيران تحقيق عدة أهداف، من بينها تصوير أعداء برنامجها السنة على أساس أنهم تكفيريون وإرهابيون، في الوقت الذي تظهر فيه كقوة حضارية مساندة للسلام ومكافحة ضد الإرهاب. كان ذلك مهماً أيضاً على صعيد بدء علاقات إيجابية مع الأطراف الغربية، خاصة الولايات المتحدة التي ستشعر بأهمية إيران الإقليمية، كما أنه سيكون مهماً من أجل الخلاص من النظام الطالباني الذي سبب لها الكثير من الإزعاج.
كانت إيران تراقب بتشفٍ العمليات الأمريكية التي دكت تورا بورا، والتي لم تفرق بين مدني وعسكري، وقدمت أجهزتها الأمنية خدمات مهمة لمعركة بوش الانتقامية ضد النظام الذي كان يهدد بجدية مصالحها ونفوذها الإقليمي. هل كانت العلاقة طيبة فعلاً واستراتيجية بين طالبان وقادة إيران، أم أنها كانت مجرد علاقة مصلحية استخدم فيها كل منهما سياسة براغماتية تكتيكية بانتظار أن تسنح له فرصة للتخلص من صاحبه؟ المهم هو أن الأمريكيين راهنوا منذ البداية على التنافس السني الشيعي في المنطقة، وهو ما جعلهم يقدّرون أن تحالفهم مع إيران ضد الدولة السنية المتطرفة في أفغانستان سيكون أكثر عملية وفائدة لهم من أي تحالف مع صديق سني تقليدي.
من جهة أخرى فإن الدور الذي لعبته إيران في العراق قبيل وبعد إسقاط حكم صدام حسين لا يمكن إنكاره، خاصة أن الأخير كان، كما نظام طالبان، عدواً مهماً للولايات المتحدة ولإيران، في الوقت ذاته وهو الرابط الذي شكّل نواة التحالف المستتر بين أعداء الظاهر. إن انكشاف علاقة طهران بأحداث سبتمبر رسالة جديدة لمن يؤمنون بالشعارات الإيرانية التي تروّج، بأن الإرهاب يأتي من السعودية وتركيا، وأن «حزب الله» ليس سوى مقاوم شريف. الغريب أن هذا «الإرهاب السني» ظل يركز على استهداف داعميه ولم يحاول تنفيذ أي عملية داخل الحدود الإيرانية، رغم دخوله مع تلك الدولة في حرب معلنة تشنها عليه بلا مواربة.
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
لا أعتقد أن أحداً من المطبلين لإيران سيعلق هنا
لقد أحرجتهم يا دكتور مدى
ولا حول ولا قوة الا بالله