أسماؤنا: قراءة اجتماعية – سياسية

منذ أن ترى أعيننا النور إلى أن نغمضها الإغماضة الأخيرة يلتصق بنا وسم وسمنا به عبر تسمية أطلقت علينا، اسماء اختارها الأهل فأصبحت جزءا من تكويننا النفسي والوجودي، وقد قيل سابقا (إن لكل امرئ من اسمه نصيب). طقوس وعادات وتأثيرات اجتماعية وثقافية وسياسية تتدخل في اختيار الأهل لأسماء اولادهم، والأمر يختلف بحسب الزمان والمكان والثقافة والدين، لكن تبقى له خصوصية كبيرة يمكن أن تمنحنا فهما للمجتمع عبر قراءتها.
لقد أعطت الأديان أهمية كبيرة لاختيار اسم المولود، وربطته بعض الديانات بطقوس خاصة وتوقيتات محددة، ففي الديانة اليهودية مثلا تشير التوراة إلى تغيير اسماء بعض الانبياء بعد حدث مهم، مثال ذلك ما ورد في سفر التكوين فيما يخص تغيير اسم النبي إبراهيم (ع) بعد أن كان اسمه إبرام «أما أنا فهوذا عهدي معك وتكون أبا لجمهور من الأمم. فلا يدعى اسمك بعد ابرام، بل يكون اسمك إبراهيم لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم». كذلك كان الأمر مع زوجته التي ورد ذكرها في السفر نفسه «وقال الله لإبراهيم ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي، بل اسمها سارة). وبقي أمر اختيار الاسم في الديانة اليهودية، أو ما تبقى من الفلكلور والعادات الدينية أمرا مهما، حيث تذكر الباحثة غادة حمدي عبد السلام في كتابها «اليهود في العراق 1856- 1920» بعض العادات والمعتقدات التي قد تكون اليوم جزءا من الفلكلور اليهودي، حيث يميز اليهود بين الذكر والأنثى في كثير من الأمور، ومنها طقوس التسمية، حيث يقيمون مراسم واحتفالا في تسمية المولود الذكر، بينما لا يقام مثل هذا الامر للانثى، وعادة ما يتم تسمية المولود الذكر في اليوم الثامن، مع الاحتفال بختانه، لان ذلك جزء من عهد النبي إبراهيم (ع) مع الرب، عندما اختتن وتغير اسمه كما أشرنا.
كما أن للديانة المندائية الصابئية طقوسا خاصة في تسمية المواليد، حيث يكون لكل صابئي مندائي اسمان، اسم دنيوي متعارف عليه، واسم ديني هو ما يعرف باسم «الملواشة»، وهو اسم قائم على حسابات فلكية دقيقة، ويعده المندائيون الاسم الحقيقي للشخص، كما يستعملونه في جميع المناسبات الدينية والطقسية، وينسب الشخص المندائي في الاسم الديني إلى الام بدل الأب، وتوجد في أحد الكتب المقدسة لدى المندائيين، وهو «اسفر ملواشة» حسابات فلكية لحساب واختيار اسم الطفل المندائي، ويحتفظ رجال الدين بقوائم لهذه الاسماء، ويقترحون من بينها واحداً على الوالدين بعد أن يقوموا بحساباتهم.
كذلك كان حال الدين الإسلامي واهتمامه بالاسماء، حيث نجد رسول الله (ص) قد غير كثيرا من اسماء اصحابه عند دخولهم الإسلام، أو حتى من الناس العاديين ممن كانوا يأتونه لإعلان اسلامهم، فقد كان يسألهم عن اسمائهم فاذا وجدها غير ملائمة للمرحلة الجديدة التي سيدخلون فيها، أشار عليهم بتغييرها، أو كان يقترح عليهم اسماء بديلة، حيث يرضى البعض عن ذلك ويأتمر بأمر الرسول، كما فعل عبد الرحمن بن عوف الذي غير اسمه بعد إسلامه، فقد روى ابن اسحاق عن عبد الرحمن بن عوف قوله «كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن ونحن بمكة، فكان يلقاني أمية إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سمّاكه أبواك فأقول: نعم، فيقول: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف، قال: فكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه، قال: فقلت له: يا أبا علي اجعل ما شئت، قال: فأنت عبدالإله، قال: فقلت: نعم، قال: فكنت إذا مررت به، قال: يا عبد الإله فأجيبه، فأتحدث معه».
وقد لا يطع البعض مشورة الرسول (ص) في تغيير اسمائهم، كما يحدثنا بذلك سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده حين قال؛ أتيت إلى النبي (ص) فقال ما اسمك قلت حَزن فقال بل أنت سهل، فقال لا أغير اسما سمانيه أبي قال ابن المسيب: فما زالت تلك الحزونة فينا بعد ذلك حتى اليوم. كذلك سرت العادة في خلفاء الرسول (رض) في تغيير بعض اسماء من يجدون أن اسماءهم غير ملائمة، وللمفارقة يذكر الامام مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب (رض) قال لرجل ما اسمك قال جمرة قال ابن من قال ابن شهاب قال ممن؟ قال من الحرقة. قال: أين مسكنك قال بحرة النار قال بأيتها قال بذات لظى قال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال عمر.
وللاسماء دلالات سياسية يمكن قراءتها بوضوح، فقد كتب أحد الأصدقاء على صفحته في الفيسبوك أن بإمكانه فرز أعمار الاشخاص من دلالات اسمائهم، وهو هنا يتكلم عن العراق تحديدا لبروز ظاهرة ربما لا توجد في الدول العربية الاخرى، أو حتى إن وجدت، فإنها ليست بكثافة ما موجود في العراق، واعني بها انعكاس تأثير السياسة على الانسان العادي عبر التسمي باسماء الساسة والقادة والتيارات والأحزاب والحركات السياسية، ففي العهد الملكي تجد شيوع اسماء فيصل وغازي لدى العراقيين بشكل لافت، تيمنا أو تقربا لملوك العراق، وربما تجد اسم عبد الإله بدرجة اقل، رغم أن الأمير عبد الإله حكم العراق بوصفه وصيا على العرش، لأكثر من عقد من الزمان، إلا أن شعبيته كانت محدودة في الشارع العراقي. ثم تجد شيوع اسماء كريم وقاسم وعبد الكريم بعد 1958 تأثرا بالزعيم عبد الكريم قاسم، كما تجد اسماء مثل فهد وسلام وعادل انتشرت في الأوساط القريبة من اليسار العراقي، لانها تمثل اسماء قيادات حزبية شيوعية، بل تجد من العراقيين من ذهب ابعد من ذلك فسمى ابنه أو بنته بأسماء غربية ذات دلالات يسارية مثل، جيفارا ومكسيم وموسكو وهانوي وهافانا وروزا، في المقابل تجد شيوع اسماء قادة التيار القومي لدى جماهير هذا التيار في العراق، حيث تسمع باسماء ناصر وجمال وعامر وعروبة وبورسعيد ونضال ووحدة. بعدها ابتدأ العراقيون باختيار اسماء مواليدهم تماشيا مع عهد البعث في السبعينيات فشاعت اسماء احمد وصدام وبعث وعروبة في عهد الرئيس احمد حسن البكر، ومن ثم في عهد الرئيس الاسبق صدام حسين شاع وبكثافة لافتة للانتباه إطلاق اسمه على المواليد الجدد أو اسماء اولاده عدي وقصي وحلا ورغد، بالإضافة إلى انعكاسات الحرب العراقية الايرانية التي طبعت مواليد حقبة الثمانينيات بأسماء مثل تحرير وسيف أو سيف سعد وبيان، بالاضافة إلى اسماء قد تشير إلى ما يعتمل سرا في النفوس، حيث تجد اسماء الإناث لافته وفيها حزن مكبوت في اختيار اسماء مثل صابرين ودمعة وحسرة لتصف مرحلة المحرقة العراقية بامتياز. ثم نستطيع قراءة سطوة التغير في المزاج العراقي في التسعينيات تحت وطأة الحصار والعقوبات الاقتصادية، وانسداد الأفق وفرض الحملة الإيمانية من قبل النظام، ومعها شاعت تسميات ذات اصول أو مرجعيات دينية، لذلك انتشرت اسماء فاروق وعمر وبكر وعلي وحسن وحسين ومحمد ومصطفى وآية وفاطمة، حيث المزاج تحول نحو الاسماء الكلاسيكية، مع انكباب على الألوف والمتعارف عليه، وعدم وجود رغبة في اختيار الاسماء الجديدة والحديثة، علما انها كانت سمة تسم العراقيين المعروفين بالجرأة في اختيار اسماء مواليدهم. وبعد اطاحة نظام صدام حسين على يد قوات التحالف، وشيوع التوتر الطائفي في المجتمع، اصبح الكثير من الاسماء عبئا على اصحابها، وحاول الكثيرون تقديم طلبات للدوائر المختصة لتغير اسمائهم، لان الامر اصبح خطيرا عندما انتشر القتل على الهوية في شوارع المدن العراقية أبان الحرب التي اندلعت في 2006 حيث قتل على يد مسلحي الحواجز، التي كان المتقاتلون ينصبونها على اطراف الاحياء السكنية، اعداد لم يتم احصاؤها وحصرها حتى الان، فقتل عمر وبكر وعثمان في حواجز شيعية، كما قتل كرار وحيدر وعبد الحسين وعبد الزهرة في حواجز سنية، لا لشيء وانما كان الامر قتلا على الهوية فقط، حتى بات الكثير من العراقيين يسعون للحصول على اكثر من هوية مزورة تحمل اسما أو لقبا يمكن تمريرها على مختلف الفصائل المتقاتلة.
ومع شيوع المبالغة في اختيار الاسماء المعبرة عن الهوية الفرعية طائفية كانت أو اثنية في الحقبة الاخيرة، لكننا يمكن أن نقرأ وجود ميل واضح في الشارع نحو اختيار الاسماء المحايدة التي لا توحي بهوية الشخص، لكن تبقى المحنة مرتبطة بأسم الاب واللقب، اذن يجب أن نتعايش مع محنة اسمائنا حتى نجد حلولا تخرج عراقنا من مأساته.
كاتب عراقي

أسماؤنا: قراءة اجتماعية – سياسية

صادق الطائي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    مقال جميل ومعبر وفيه بحث تاريخي مفيد، ويبدو ان الصابئة هم اعقل في اختيار الاسماء كونهم “سمائيون” لا بعثيون ولا شيعيون ولا سنة ولا .. والغريب في الامر ان اسم حافظ، لم يدرج كثيرا في سورية بعد تولي المقبور الحكم، وكان من المألوف ان نرى الكثير من السوريين وخاصة اهل الريف يسمون أبناءهم بأسماء حيوانات: فهد، نمر، غضنفر، سبع، صقر، شاهين، عقاب، باز، حوت، ويمامة، وغزالة، ..وذلك تآلفا مع المحيط وإبراز صفة القوة والبأس لدى المسمى، ومن مفارقات الأشياء بعض الاحيان ان هذه الاسماء لم تكن على مسمى، فلا الفهد فهد، ولا النمر نمر، وبالطبع لا الأسد أسد

  2. يقول نسيمة حرة - الجزائر:

    مقال جميل.
    للأسماء في الجزائر حكاية أيضا، فالتسمية نسبة إلى الشخصيات المشهورة موجودة، سواء كانت تاريخية، ثقافية، فنية أو حتى المرتبطة بأحداث محليا أو عربيا. مثلا كثير من الجزائريين ولدوا في سنوات التسعينات يحملون اسم “صدام حسين” كاملا و آخرون سميوا “ياسر عرفات”. أتذكر عندما كان الحدث:”الوئام المدني” أغلب مولودات ذلك اليوم أسماؤهن وئام (الحمد لله لم يأخذوا الاسم باكامل).
    في الماضي غالبا ما كان الجزائريون يختارون لأبنائهم أسماء آبائهم و أجدادهم، كما توجد عندنا الأسماء المعبرة عن الهوية، عربية أو أمازيغية”، و حتى أسماء حيوانات ( أعرف من اسمه “سبع”) .. أما الآن تنوعت مصادر الأسماء حتى صار من يفضل أسماء أوروبية لضمان مستقبل أولادهم في المهجر.

  3. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    عام ١٩٨١ إشتغلت في مدينة القرنة جنوب العراق . أحد الأيام جلست أمامي إمرأة في حوالي الخمسين من عمرها . سألتها ، ما أسمك ؟ . بنفس واحد أجابتني ” ورْسَنْ بنت إمْسنْسَنْ ، و أمي بِشيشةْ”.. إبتسمت فقد وفرت علي سؤالين !
    و أيضاً رجل ربما في الستين من العمر أجاب أن إسمه ماكنزي !…إستفسرت منه عن السر في ذلك ، أجاب أن أباه كان عنده بندقية بهذا ألأسم!
    و أيضاً أسماء أخرى صادفتها مثل دكسون و ميجور .
    و أيضاً هنا في بريطانيا أسماء عائلة ظريفة ، مثل Whitebottom , Rosebottom غير أني لم أصادف Blackbottom بعد !

إشترك في قائمتنا البريدية