مصر – شادي عبد العزيز : عشت طفولتي في بلدة صغيرة بين القرية والمدينة، حيث الحياة الشخصية مشاع، والغرابة مادة للتسلية، ولا أغرب بين الأطفال ممن يقرأ وحيدًا في حصة الألعاب ولا يهتم بلعب الكرة. في هذا المكان الضيّق بساكنيه، كان الكتاب حاجة أساسية، ومكانًا يخصني وحدي. غفر لي تفوقي الدراسي تلك الغرابة في كثير من الأحيان، وإن كنت لا أنسى المُدرسة التي استدعتني لمقدمة الفصل لتسألني عن تعريف لكلمة (انقلاب) كما قرأته عليها من هامش رواية للجيب. كررت التعريف أمامها في أكثر من مناسبة، بفرح يناسب طفلا اكتشف فجأة في نفسه شيئًا جديدًا، وببهجة من يُرى للمرة الأولى.
كان في مكتبة المدرسة نفسها دولابًا من زجاج وخشب يضم كتبًا «ممنوعة». أذكر من هذه الكتب كتاب سيد قطب (في ظلال القرآن). لم أكن أعرف سيد قطب وقتها، وكان وضع الكتاب ضمن الكتب الممنوعة يرعبني من السؤال عنه، ولم يكن مصباح (غوغل) السحري متاحًا، فأحاطت بالكتب وباسم سيد قطب وقتها هالة غريبة، بدا لي زجاج الدولاب المحرّم كمرآة أليس السحرية، يفصلني عن عالم بعيد/قريب، عالم مرعب لغرابته.
كانت الكتب محدودة في بلدتنا ولكنها كانت كونًا كاملا بالنسبة لي. كان كشك الجرائد في مركز البلدة هو مصدر الكتب الوحيد من العاصمة، وكنت أضع يوميًا قبل يومي خطة لسرقة ما فيه من كتب. كنت مريضًا بجمع الكتب، وتصنيفها، وعدها، وإعادة تصنيفها، وتنظيفها من تراب يؤذي مشاعر أمي الطيبة ويستثير سبابها وتهديدها بحرماني من الكتب. تراكمت الكتب في المكتبة، وتحت السرير، وفوق المكتب ، وفي «جزّامة» قديمة حولتها لمكتبة أخرى، وفي كل مكان يمكنني القراءة فيه، ثم دخل الحاسوب عالمي.
كانت الشبكة العنكبوتية بابًا إلى مكتبة بورخيس السحرية، مكتبة العالم، بالكتب المحرمة، والبعيدة، والغالية، والأجنبية، لا يفصلني عنها سوى ضغطة زر مُغرية لسهولتها. قضيت وقتًا في جمع الكتب كان يصلح لقراءة كتب أكثر، وجمعت كتبًا لن أستطيع قراءة أكثرها حتى لو تفرغت لسنوات، ولكن كنت مطمئنًا لمرضي، عارفًا به، أنا أجمع الكتب، أما القراءة فتأتي بعد ذلك.
اكتشفت مع الوقت أن البلدة الصغيرة لا تختلف كثيرًا عن الحيّز الأوسع، فمن السهل أن يتهمك جارك في الحافلة بالكُفر لأنك تقرأ كتابًا بعينه، ومن السهل أن يسخر منك رفيق عملك لأنك تقرأ كتابًا في الفلسفة خلال مناوبة مملة بدلا من مرجع في الطب. هنا يخدمني هاتفي الذكي، فأفتح مكتبتي الافتراضية، أنتقي كتابًا، أفتح بابه، أضع السماعات في أذني دون موسيقى، وأتظاهر كغيري بتصفح الفيسبوك.
كانت الكتب الإلكترونية بالنسبة لي في البداية ركنًا أمارس فيه لذة المحرّم داخل المجال العام، فيمكنني أن أقرأ (هرطقات) جورج طرابيشي و(ظلال) سيد قطب دون الاضطرار للإجابة عن أسئلة الفضوليين من ركاب المترو، ملتذًا بتجاوز خط مجتمعي أحمر دون عقاب سوى نظرات التوجس التي لا تزال سلاح ركاب المترو ضد المتوحدين من القراء.
استولى الكتاب الإلكتروني بعدها على ميزة كبرى للكتاب الورقي، فصار بإمكاني اتخاذ هوامش وشخبطات تضفي عليه خصوصية كانت قاصرة على الكتاب الورقي. ومع ارتفاع أسعار الكتب في مصر، صار الكتاب الإلكتروني في أحيان كثيرة عيّنة تحدد ما إذا كان الكتاب يستحق الشراء. ولا أنسى للكتاب الإلكتروني أنه أتاح لي ممارسة الكليشيه الأكبر في تخيلي للقراءة، فصار بإمكاني ممارسة القراءة على شاطئ الإسكندرية أخيرًا رغم رطوبة الجو ورياحه.
ومع الإنترنت صارت القراءة مدينة أرحب، جيراني فيها ليسوا بالضرورة أطفالا معقدين لا يهتمون بكرة القدم، كلنا سكان مدينة افتراضية واحدة، ولكل بيته. منا من لا يحب القهوة مع الكتاب، ومنا من لا يفضل كوب ماء بجواره. منا من لا يطيق صوتًا ينغص عليه كتابه، ومنا من لا يقرأ إلا بصحبة موسيقاه المفضلة، وكلنا نحمل مكتباتنا كالسلحفاة تحمل بيتها.
عشت طفولتي أتنقل دائمًا ممسكًا بكتاب كمركز ثِقل، لا تتزن مشيتي إلا بوزنه في يدي. وحتى الآن تكتسب مشيتي ارتباكًا مضحكًا عندما أمشي متخففًا من الكتب. لا يحل ذلك كل الكتب الإلكترونية في هذا العالم، ورغم رحمة الكتب الإلكترونية بانطوائي القديم وتوحدي لا أزال في حاجة لمكتبة من خشب بني غامق، تضم كتبًا ذات وزن ورائحة وتراب.
كاتب ومترجم
المقالة جميلة ومتماسكة، وكنتُ أتمنى أن تطول أكثر من هذا. سلمتْ يداك.