أصنام

أحد أهم مصادر مشاكلنا اليوم في العالم الإسلامي هو التقديس العميق لكل ما يحتويه التراث الإسلامي من أشخاص وكتب يرفض «أهل الدين» اليوم مراجعتها أو حتى التحري حولها. ليس في ذلك فضل لمذهب على مذهب، فلكل المذاهب الإسلامية كتبها المقدسة التي لا تمس وشخوصها المبجلة المرتفعة عن كل نقد. ولأن الحقيقة والكمال لا يمكن أن يحتويهما كتاب بشري أوحد، ولأن المفاهيم والمبادئ وأحياناً حتى الحقائق تتغير بتغير الزمن، ولأن المسلمون يصرون على كتب لا جدال حولها وثوابت لا قراءات مختلفة فيها وشخوص لا نقد له أن يطالها، تجدهم يقفون دوماً في مؤخرة قافلة الزمن، فلا هم قادرون على متابعة المسير ولا هم قادرون على التوقف تماماً والتخلي عن الحياة الجديدة بكل ما تستجلبه من متغيرات وتحديات.
وهكذا تجمدت الدنيا بالمسلمين في معظم نواحيها، والذي أصبحوا يعانون من متلازمة «التناقض الداخلي» أو «الشدة النفسية» ما بين أحكام مستقرة في كتب كتبت لزمن غير الزمن ولبشر غير البشر، وما بين حياتهم اليومية الحالية بكل ما تحمله من التزامات وإيمانيات وقيم متجددة أهمها تلك الإنسانية الحديثة التي تتناقض في معظمها وأغلبية ما ورد في كتب الدين التراثية. يحتاج المسلمون لنفضة قوية لطريقة التفكير في هذه الكتب، ابتعاداً عن تقديسها وباتجاه وضعها في إطارها التاريخي، فهي كتب كانت لزمان ومكان، وهي كتب بشرية تحتمل الخطأً فلا يجوز لها تقديس، بل مستوجب لها التمحيص والنقد، وصولأً إلى فهم تاريخي للحدث وظروفه ثم استنباطاً لمفاهيم حديثة يمكن للإنسان المسلم أن يحيا بها ويتعايش من خلالها مع المجتمع الحديث.
وهكذا أجد أن ما يأتيه الأستاذ إسلام البحيري صاحب برنامج «مع إسلام» على قناة «القاهرة والناس» هو عمل مهم جد وإن كان باهظ الثمن. يفصل البحيري كتب التراث تفصيلاً دقيقاً، مستخرجاً منها تشوهات انطبعت اليوم على أمزجة وتصرفات المسلمين حتى عزلتهم عن بقية الدنيا ككائنات مكروهة. وفي حين أن قوة الرأي والصراحة بل حتى السخرية الحادة هي أحياناً في الواقع مطلوبة، والنقد الجريء «لعلماء» الدين وكتب التراث هو محمود، فتلك لربما هي ما نحتاج لنصحو من غفلتنا الطويلة وخدرنا التقديسي الغريب، الا أنني كنت أتمنى شخصياً لو كان البحيري أكثر هدوءاً وأقل حدة في مناظراته وفي حلقات برنامجه التي شاهدت عددا قليلا منها، فالأستاذ إسلام تأخذه انفعالات حادة تحيد به عن نقطته أحياناً، وتفقده القدرة على متابعة محاوريه وتخسره معركة لربما هو رابحها.
يتناول البحيري، في الحلقات التي شاهدتها من برنامجه، كتاب البخاري تحديداً بالنقد والتمحيص، وهذه الخطوة، من حيث فتح مجال الحوار والنقد وبهذه الجرأة والوضوح لكتاب تقدس لألف سنة وتزيد، هي بحد ذاتها خطوة تطهيرية ضخمة للعقل الإسلامي. فليست النقطة هنا هي مدى صحة ما ورد في الكتاب من عدمه، ولكن النقطة الأهم والأوقع هي تحطيم صنم القدسية عن أي كتاب بشري بإمكانية تناوله بكل درجات النقد بل والرفض. وفي الواقع، لا تخلو المذاهب الأخرى من محاولات نقدية مماثلة، الا أن الظهور الإعلامي القوي للبحيري ودرجة صراحته ومستوى نقده الساخر النافذ بحدة إلى العقل لربما يفردانه في تجربته التي أتمنى لها أن تستمر مكتسية بدرجة أكبر من الهدوء وبدرجة أقل من العنف اللغوي، حتى يتمكن مشاهدوه من تتبع حديثه، ولربما بدرجة أقل كذلك من الإشارات الشخصية لنفسه وقدراته، وبه هو شخصياً سالماً ومداوماً دون أن يصل إلى قلبه يأس أو يسحق عزيمته نقد أوتجريح أوتكفير.
ولقد أتيت أنا في مقابلة سابقة على ذكر قصة إرضاع الكبير في صحيح مسلم، ثم على ذكر موضوع زواج الصغيرة في «تحرير الوسيلة» للخميني، كمثالين على التشوهات الكثيرة في كتب التراث الدينية عند الطوائف المختلفة للمسلمين والتي تحتاج إلى نفضة من النقد والتمحيص، ليس من أجل تغييرها، فهي كتب باقية بأسماء أصحابها، ولكن من أجل إزالة القدسية عنها وتحرير الناس لتمكينهم من تخطيها واستبدالها بعقولهم التي يمكنها أن تحكم وتفصل في مواضيع إنسانية منطقية لا تحتاج إلى فتوى أو نص قديم.
أذكر أن هذه الجزئية الصغيرة جداً من المقابلة، والتي ترك فيها المقطع الناقد لكتاب الخميني وأزيل منها المقطع الناقد لصحيح مسلم أثارت غضبة كبيرة، لربما تجعلني أكثر قدرة على تصور حجم التجريح الذي يتعرض له البحيري، وهو الذي يفرد برنامجاً كاملاً لنقد كتب التراث وعلماء الدين.
تحدث البحيري في مناظرة، كانت مزعجة في معظمها بسبب درجة الحدة في الحوار لربما منه هو بحد ذاته، مع ممثل للأزهر حول موضوع زواج الصغيرة في كتب فقه السنة. أتى البحيري على تفاصيل ما ورد في كتب من يسمون بالعلماء في موضوع زواج الصغيرة وموضوع مكانة المرأة، وهما بالطبع أكثر موضوعين جذبا انتباهي في هذه المناظرة، وتناولهم بالنقد القاسي واصفاً تفاسيرهم بأنها ما كانت لتتأتى للشيطان لو أراد أن يفسر القرآن. ان هذا التناول والنقد مهمين جداً، والأهم منهما طريقة تقديمهما من البحيري، الذي وبلغة عامية مبسطة، يقسو في هجاء ما لا يتماشى مع العقل والمنطق والمفهوم الإنساني الحديث، حتى يأتي بك لأن تشعر بفظاعة ما تقدس الأمة الإسلامية من كتب تراث لم تفكر هذه الأمة في محتواها ولم تتفكر في أبعاد ما يتأتى منها.
ان أول خطوة لتغيير أفكارنا لا تتحقق سوى بتحطيم أصنام التبجيل للماضي، لنتعامل معه على أنه كما يسمى، ماض، نتفهم منه كيف وصلنا وإلى أين، ولكن لا نقتاد ونتقيد به وصولاً للمستقبل. وأما ثاني خطوة فهي ما تكلم حولها البحيري من استعادة تملكنا الشخصي للدين، بحيث يصبح ملكية فردية تمكن كل منا من قراءته وفهمه وإعمال عقله في أحكامه، لتتأتى بعدهما الخطوات الإصلاحية الكثيرة.
لابد لنا من أن نتحرك، فعلى ما تثيره الحركة من غبار، الا أنها تصفي الجو في النهاية وتنظف المكان والزمان وتؤكد على أننا في الواقع… أحياء.

د. ابتهال الخطيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لا اعتراض على ما تقوليه يا دكتورة ابتهال
    ولكن لماذا يأتي النقد من عالم تراث وليس من عالم حديث
    أين التخصصات يا دكتورة – وأين أعطي الخبز لخبازه

    نعم البخاري ومسلم أصح كتب الحديث لعدة أسباب توثيقية سندا ومتنا ورواية
    ولكن لم يقل أحد أنهما بصحة كتاب القرآن المنزل من الله سبحانه وتعالى
    فهناك العديد من العلماء من يطعن بالعشرات من الأحاديث بالصحيحين

    أنا مع البحث العلمي السليم والمتخصص من ذوي الاختصاص

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول رياض- المانيا:

    لم يقل احدا ان صحيح البخاري هو مائة بالمائة بل قال بعض العلماء ان مثل هكذا كتاب ضخم قد يحتوي بعض الاحاديث الضعيفة وذكروا ذلك. ولكن يبقى كتاب البخاري اصح كتاب بعد القران. كل كاتب يعتذر في مقدمة كتابه عن الخطأ والنسيان. اما القران فهو كلام الله .انظروا الى عظمة كتاب الله. ( الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه).
    اللهم اهدي هؤلاء فانهم لا يعلمون.

  3. يقول للأسف الشديد،عربي:

    ” القداسة والتقديس”
    للكتب والاشخاص ليست مقتصرة في الإسلام والمذهبية
    بل حتى في الأديان الأخرى والطاوائف المتعدده
    يحدث هناكـ قداس وتقديس طقوس واعتقدات لأناس لهم مسميات وصفة
    يبدو أن هذا الشيء الوحيد الذي أتفق عليه الاكثرية بالرغم من إختلاف العقائدية
    الدينية الطوائفية المنتشرة ..
    في جميع أنحاء العالم كافة الإسلامي والعربي والدول الأوربية والأسيوية
    لربما تكون هذه خاصيه نوعية بشرية طوعية مشتركة لا إرادية”

  4. يقول عبدالله ناصر:

    مشكلتنا ليست مع التراث وكتبه وﻻ مع التطرف واجرامه، مشكلتنا مع اﻻستبداد وشيوخه فهو يوظف كل ذلك ﻻستمراره فما لم يتخلص العرب من طغاتهم ومستبديهم فسيبقى الحال هو الحال

  5. يقول سلمى:

    ربما مع احترامي الشديد، أن مشكلة حتى من يكتب أنه لا يقرأ ما يتم نشره و تداوله في مجال الفكر الاسلامي و يعتمد على ما يراه على شاشات التلفاز. التجديد في الفكر الإسلامي و خاصة فكر أهل السنة و الجماعة ما زال مستمرا منذ عقود و قد كتب فيه مفكرون من خيرة علماء هذه الأمة و لكن لا نصيب لفكرهم الهادئ و الموضوعي من شاشات التلفاز التي تعنى باعطاء الأمر الى غير أهله. لا أستطيع أن أعد كل هؤلاء و لكني قرأت لهم جميعا. على سبيل المثال لا الحصر ، عادل صلاحي ، عدنان زرزور، المفكرة الراحلة بنت الشاطئ و حتى المسيحي جورج طرابيشي و قبلهم بعقود محمد عبده و الأفغاني.ربما لو عدنا لكوننا أمة اقرأ و ليس ” شاهد” لتوقفنا عن جلد الذات العدمية . وسائل الاعلام العربية في مجملها ليست معنية بتجديد الفكر و لكن بإثارة البلبة. نصيحة لمن يريد التحدث في الفكر الاسلامي و تاريخه و حركة التجديد فيه؛ أقفل التلفاز و اقرأ.

  6. يقول سليمان الجزائر:

    ماذا يعني إستبدال كتب البخاري و مسلم بعقول الناس ، صحيح البخاري و مسلم ليسوا كتب فتاوى أو تفسير ، بل هي كتب جامعة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، مجال النقد الوحيد فيها هو نقد الأسانيد و هذا لم يتوقف يوماً حتى من المتأخرين و أشهرهم الألباني ، و أي شخص لديه دليل على ضعف أي سند فاليتقدم به ، لكن الإعتراض الذي ظهر فجأة من البعض على كتاب البخاري هو فقط لأنه لا يوافق عقولهم بالإضافة إلى رغبتهم في تغيير الإسلام لينسجم هو مع طريقة حياتهم بدل أن يغيروا هم ما بأنفسهم ، و يتم ذر الرماد في أعين الناس بجمل فارغة و رنانة مثل ” اللحاق بدرب الحضارة” و ” الإنسجام مع مقتضايات العصر” و “عصرنة الإسلام” ، إذا كان هؤلاء الأشخاص يرون أن الثقافة الغربية العلمانية هي رمز السمو الإنساني فاليقولوها مباشرة و يريحوا أنفسهم و لكن عليهم أن يتقبلوا أن الأخرين لديهم رأي مختلف في الثقافة الغربية و يرون فيها قمة الإنحطاط الإنساني مغلف بالتقدم العلمي الذي لم يعترض عليه الدين الإسلامي يوماً ، و يرون أن الغرب صاحب الحضارة الوهمية أوصل البشرية لحافة الإنهار ، مثلاً وأد الأطفال يتم بالملايين سنويا بضمير مرتاح في إحتقار للنفس البشرية غير مسبوق ، التساهل مع القتلة و مغتصبي الأطفال بعد إلغاء عقوبة الإعدام ، التلوث و الإحتباس الحراري الذي يهدد وجود البشرية بسبب جشع الغرب و عشقه للإستهلاك بلا حدود لتعويض الفراغ الروحي لديه ، إنقراض المئات من الفصائل الحيوانية و النباتية ، تعويض إنعدام الأخلاق بعد إبتعاد الناس عن الدين بترسانة من القوانين تنهار بإنهيار الدولة ، إتساع الفجوة بين فقراء و أغنياء العالم كما لم تكن من قبل

  7. يقول عبد الكريم البيضاوي. السويد:

    الأخت إبتهال, ماذنب البخاري أو مسلم أو الطبري والقرطبي والالباني وابن كثير وغيرهم من المعترف بهم في التفسير؟ هؤلاء لم يأتوا بجديد من عندهم, هؤلاء أناس أبرياء, ماقاموا به فقط هو التعمق والتمحيص ثم فسروا ماهو كائن , ماهو موجود, يفهم المرء بأن للنقذ مستواه ويفهم أن لإبداء الرأي حدود, لكن مع ذلك فلاأظن من المعقول توجيه تهم لأشخاص مافعلوه سوى مايفعله كل باحث أو مثقف في ميدانه في عصرنا الحالي.

    العملية كبيرة والسياسة الدينية اختارت للناس من الآيات والجمل والأحاديث التي تتناسب وعملها السياسي والحربي, والناس تلقن وتردد بدون عقل أو تفكير إن كان ضد أقوام أخرى قريبة منهم أو بعيدة أو لتكريس وضعية إجتماعية حزينة أكانت ضد المرأة من طرف من يخافون على وضعيتهم الإجتماعية أن تتزعزع بحكم قصور في ذكائهم أو شخصياتهم تجعلهم يخافون من المرأة إن هي تحررت يوما وأصبحت إنسانا كاملا غير ناقصة عقل ودين ولها قيمة فتضيع عليهم كل الميزات بحكم القانون الديني وللأسف تبعه حتى الدنيوي, الحقول شائكة والكل يتفرج ولامن يجرؤ والمسلمون بخير يعلنونها حربا على العالم أجمع لاتننهي إلا باستعمار دولهم وإدخال الكفار للإسلام كي ينعموا بجنات النعيم في الآخرة.

    إن لم يغيرالمسلمون الإتجاه فسيكونوا بحكم المعطيات المادية على الأرض هم الخاسرون, عندما يشعر العالم بالتهديد الحقيقي على حياة أبنائه إذ ذاك سيكون خطاب آخر, الحروب العالمية لاتزال وكأنها حدثت بالأمس, فلاشيء يمنعهم من تكرارها وماذا بيد المسلمين؟ الخطاب والكلام وقلة حيلة اليد.

  8. يقول رفعت من النمسا:

    الذى اخر المسلمون هم القتله والخونه والظلمه
    علماء الاسلام لهم الفضل ولهم السبق لكل حضارات العالم من علم وعلوم وفلسفه وطب ورياضه الخ اقراؤ التاريخ

  9. يقول كمال رمضان:

    شتان ما بين “التلقين” و “التفكير”.قوم يتيهون فى الجهل و الظلمية منذ قرون لم يعد لهم لا القدرة و لا المؤهلات لتغيير ما بهم.الا بمعجزة من الله سبحانه و تعالى.كل التقدير و الاعجاب بمن يحاولون تغيير هذا الواقع الاليم .ألم يقال “أول الغيث قطرة”

  10. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    لدي سؤال واحد للسيدة كاتبة المقال ؛ ما معتقدها في القرآن ؟!

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      ولماذا الاحراج يا دكتور أثير
      تحياتي ومحبتي واحترامي لك وللقارئين والمعلقين ولقدسنا العزيزة

      ولا حول ولا قوة الا بالله

    2. يقول د. اثير الشيخلي- العراق:

      انا اريد ان اعرف ما معتقد الكاتبة في مصدر القرآن ، هل هو آلهي ام بشري أيضاً مثل تلك الكتب محل الخلاف؟!

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية