إن مختلف القيم والقناعات الحريصة على استقطابها لمواصفات الكوني، على أساس مبدأ الإلزام والإكراه الحضاري والثقافي، سافرا كان أو مقَنَّعا، لا تلبث أن تتخذ هي أيضا منحى أصوليا، كما هو الشأن بالنسبة للاَّئكية على سبيل المثال لا الحصر، لأن توظيف منطق التعميم القسري لأي مدونة من مدونات القيم والتعاليم، عقدية كانت أو جمالية، لا يمكن إلا أن يؤدي إلى تعميمِ مُمارسات، تفتقر إلى الحد الأدنى من روح الديمقراطية، بما في ذلك قيمة الحرية التي تكون هي أيضا عرضة للانحراف، كلما جنحت إلى تجاوز بعض التابوهات، التي يُعتبر المساس، أو التفريط بها من قبل معتنقيها، اعتداء مباشرا على هوياتهم وخصوصياتهم، حيث سيظل الكوني من هذا المنظور، عاجزا عن استيفاء شروطه الموضوعية، كلما افتقر إلى شروط التفاعل الخلاق، الناظم نسبيا لمختلف أنواع الشتات، المنتشرة على كافة بقاع المعمورة، مؤكدا بذلك بؤس انتقائيته، وبؤس ولائِه الأعمى لكل فضاء منغلق على مركزيته، وغير معنيٍّ بتاتا، بأي شكل من أشكال التواصل، المعبر عنها في ما تبديه الفضاءات الأخرى، من قابلية للانفتاح.
وبالنظر إلى ما تميزت به، وتتميز به الأزمنة الحديثة من انقلابات متتالية وصارخة، سواء من حيث طرائق التفكير، أو من حيث مستويات تمثل الكائن لذاته ولمحيطه، بما تعنيه دلالة هذا المحيط من أبعاد تركيبية ورمزية، تتجاوز به حدوده الجغرافية والاجتماعية، إلى معترك الفضاءات المحايثة والمجاورة. فقد بات من الطبيعي معاينة ومعايشة ذلك الارتباك الكبير، الذي أمسى متأصلا في علاقة الفضاءات الجغرافية ببعضها، وهو ارتباك مطبوع بثنائية مدمرة، بفعل تمحور طرفها الأول، حول الضرورة الحضارية الداعية إلى وجوب الانفتاح الثقافي على الآخر، فيما يتمحور طرفها الثاني حول قناعة راسخة مفادها، وجوب توخي الحيطة والحذر، من احتمال إخلال هذا الآخر بقيم وقوانين الانفتاح الموجهة بإواليات الرؤية الكونية للذات وللعالم. وكما هو معلوم، فإن هندسة المحيط الذاتي بدأت تتشكل حاليا وبفضل الوسائط الحديثة من شبكة العلاقات التي تنسجها مع غيرها من جغرافيات العالم، حيث ما من فضاء، إلا وقد أمسى معنيا بكل ما يحدث حوله من تحولات، باعتبار أنه هو أيضا طرف مباشر ومسؤول عن كل ما يستجد من كوارث ومن استشرافات في تلك الجغرافيات، التي كانت تعتبر إلى حين منغلقة على أسرارها ومستقلة بعوالمها. ذلك أن الدور الجوهري المنوط بالوسائط الحديثة المتميزة بتقنياتها المتطورة، يكمن في التطلع إلى تحقيقها لحلم التوحيد والتنميط التدريجي والمنهجي، لِما تفرق واختلف من جغرافيات، علما بأنه توحيد ينطوي على قدر غير قليل من الهيمنة والسيطرة الأنيقة والنظيفة والخالية من الشبهة، «التي كانت من قبل لصيقة باستراتيجيات الاحتواء الكولونيالي»، لكن من دون أن يفلح في التخفيف من وتيرة التوتر الذي أمسى ملازما وبشكل مَرَضي، ليس فقط لعلاقة المراكز بالهوامش، بل أيضا لعلاقة المراكز في ما بينها. وهنا تكمن الإشكالية الكبرى لمعضلة الكوني، باعتباره عائقا قدريا من الصعب بمكان صرف انتباه الملاحظ عنه. وهو ما يحفز هذه الوسائط، أو بالأحرى المتحكمين فيها، على تصنيع فضاءات مشتركة تستجيب، على الأقل، لحاجيات المراكز القوية، عبر استمالة باقي الأطراف والهوامش، بما قل من الامتيازات الاستهلاكية، قصد كسب ثقتها، وإقناعها بتذويب خصوصيات جغرافياتها، في خصوصيات المحيط الكوني، الذي تتبدد فيه الاختلافات المبدئية ضدا على إرادتها، أو بتعبير آخر، عبر التوافق الاضطراري على الحد الأدنى من التعاقدات، مفسحة بذلك المجال للاختلافات الثانوية، التي قد تكون أداة تبريرية لتأجيج تناقضات وهمية، تؤمن شكلية الحفاظ على حرارة الاختلاف والتنوع، من دون أن تكون بالضرورة سببا في إحداث أي خسائر محتملة. علما بأن هذه الخلافات المصطنعة، التي تبالغ المراكز في تضخيمها، قد تتحول أحيانا إلى بذور جنينية، لصدامات منذرة بتداعيات مأساوية، تكشف عن هشاشة تواطؤات وتحالفات، لا تعدو أن تكون مصطنعة وملغومة.
ومن المؤكد أن الحداثة من خلال استحداثها للكوني، تكون قد قطعت أشواطا كبيرة في تشحيب قوة وفعالية الخصوصيات، من أجل تسريع وتيرة التساكن المشترك وفق إرادتها وتوجهها، تحت خيمته، التي تبدو ظاهريا قابلة لاستضافة الجميع، فيما هي تعاني من ضيق يبلغ حد الاختناق، إذ كلما تداعت الاختلافات، تداعت معها الحدود الفاصلة نسبيا بين الأعراف وبين الأجناس، كي يتحقق ذلك التواصل المتسارع والمختلق، الذي لم يعد يحتمل أن يتوقف ولو قليلا، كي يعيد النظر في تداعيات لهاثه المنذر بأعطابه الوشيكة.
في ظل هذه التحولات، لم يعد ممكنا إرغام الأفراد أو الجماعات، على استمرارية تبنيهم للقناعات الأيديولوجية أو الفكرية، التي سبق لها أن تميزت بممارسة تأثيرها القوي، على بعض المنعطفات الحاسمة من تاريخ البشرية. ذلك أن التفاعل، أو التبني الذي يحدث أن يطبع وعيا جماعيا، تجاه قناعة حضارية أو ثقافية ما، ينبغي أن يكون منسجما مع الشروط الموضوعية التي أدت إلى حضوره في قلب تلك المنعطفات، لا أن يتحول باسم الانتصار إلى خصوصية بائدة ومفرغة من صلاحياتها، إلى سلطة أبدية، تطارد الكائن أينما حل وارتحل، باعتبار أن هذه القناعات لا تختلف في شيء، عن الإلزامات ذات الطابع الاجتزائي الذي يطاردنا به الكوني. بمعنى أن العنف الذي يحدث أن يمارسه المجتزَأُ، هو العنف ذاته الممارس من قبل القناعات التي أشرنا إليها، والمندرجة ضمن المنظومات ذات الطابع الكلياني التي يتعذر فصلها عن مرجعيتها الاستبدادية، المتمرسة بخنق أنفاس حرية الاختيار، من خلال إسرافها في إشاعة إشباعٍ غالبا ما ينتهي بإزهاق الروح، لأن الكليانية – ومعها المجتزأ الكوني- باعتبارها مركزا مستقطبا للإحاطات والاستنتاجات الشاملة، تتضمن في عمقها قمعا لملكة البحث، وتجفيفا عدوانيا لمنابع السؤال، من منطلق إيهامها لك بقدرتها على التقريب التام للأبعد، وبكشفها المطلق عن كل محتجب، حيث ما من ضرورة للتساؤل، للتقصي، للخلق والابتكار.
إن التجاوز العقلاني لكل من الرؤية الكليانية والاجتزائية الكونية، هو في الوقت نفسه، تجاوز للرؤية الطيبة للعالم ذات البعد المجاملاتي، أو بتعبير آخر، ذات البعد الإنسانوي، الذي يُحتمل أن تتورط اللحظة الفكرية في مضايقه الخالية من الحياة، لأن الطيبوبة إذا ما سلمنا بأنها تليق بمسلكيات ذات طابع ظرفي، له مقاماته الخاصة به، إلا أنها، وفي حالة تحولها إلى رؤية للعالم، تضع خبراء الترويع الكوني بعيدا عن كل انتقاد ومحاسبة، أو متابعة. لأن الطيبوبة ذات النكهة الإنسانوية، وباعتبارها كذلك، تكون جاهلة تماما بأسرار حركية أشياء العالم، لا من جهة الفهم، ولا من جهة التأويل، حيث لا تستطيب سوى الامتثال إلى استيهاماتها الذاتية، كحالة من حالات الإشباع المعاق، القاصر والسطحي، علما بأن المناورات الكبرى التي تتخذ من الكوني فضاء لاشتعالها، تقتضي حضور ذهنية أكثر دهاء، وأكثر مناورة، إذا ما كانت حقا تروم الكشف عن الأسرار اللامرئية، والحقيقية المؤثرة في تفعيل قوانين الصيرورة، التي تراكم في أرحامها الكمائن، قدر مراكمتها للألغام.
من هذا المنظور، تصبح متعة الاحتكام إلى الكوني، وخارج إخضاعها إلى الحد الأدنى من المساءلة الدقيقة، سلوكا غير سوي، بجميع المقاييس الإبستمولوجية، حيث لا مجال للفصل في علاقتنا بإشكال ما، بين ماهيته وبين دلالته، لأن الاقتصار على الماهية، من دون دمجها في الدلالة، ينتهي بتقديم صورة جزئية ونسبية عن الإشكال المعني بالمقاربة، والشيء نفسه بالنسبة للدلالة، التي قد تساعدنا على معرفة آفاق اشتعاله، من دون الإحاطة بهويته، أي أن دمج طرفي المعادلة في بعضهما، هو السبيل الكفيل بالتأطير النسبي للموضوع، وبضبط العلية القائمة بين هويته ودلالته. مع التأكيد على أن الاقتصار على ماهية «الكوني على سبيل المثال»، قد يؤدي بنا إلى الخلط بينه وبين قضايا أخرى، قد تكون قابلة لأن تحمل خصائصها نفسها المعنية بالمقاربة.
تأسيسا على ذلك، ستكون دلالة الماهو/الكوني في هذا السياق، الذي تم إدراكنا لها من خلال احتوائها الممنهج لاهتمامنا، قابلة للاقتران بدلالات أخرى منحرفة، لا تمت بصلة قريبة أو بعيدة إليه. وهو ما يؤدي حتما إلى ضياع الموضوع، إلى اختفائه بين أشباهه، كي تصاب الرؤية في نهاية المطاف بالقذى، وبسوء التقييم والحكم. ومن هذا المنطلق أيضا، يكون ربط الماهو بدلالته، شكلا من أشكال التطويق والالتفاف النسبي على أبعاده، وهو ما يسمح لنا بضبط مكوناته وأنساقه، وبالتالي فصلها عن غيرها من الأنساق والمكونات، باعتبار أن هذا الفصل، جد ضروري إجرائيا، إذا ما احتكمنا لمنطق العقل، الذي يجب اعتماده كقوة تعرفية على ما ينبغي تبنيه واعتماده، سواء في رؤيتنا للذاتي أو الكوني.
شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني