الرباط – «القدس العربي»: فاطمة الزهراء كريم الله: «هذه المدينة السحرية تغلغلت في كياني. ولا شك أن الناس سيذكرون من بعد، عندما تنتهي رحلة الحياة أنني كنت أحد الذين ارتبطوا بها».
هكذا قال الطيب صالح، الروائي السوداني، في عشقه لمدينة أصيلة، وهكذا كانت أصيلة عنوان وفاء لمثقفين ارتبطوا بها.
تتربع مدينة أصيلة أو «أزيلا» كما يسميها سكانها، على بعد حوالي أربعين كيلومترا جنوب مدينة طنجة، أقصى شمال المغرب، على ساحل المحيط الأطلسي. وهي مدينة ضاربة في عمق التاريخ ويعود وجودها إلى عصور رومانية وفينيقية.
في أول زيارة للمدينة يجذبك هواءٌ عليل، وفضاء ساحر، للمشي في الطريق نحو المنطقة التاريخية بدروبها الضيقة ومنازلها المتشحة بالبياض والزرقة في تراصّ جميل، إضافة إلى أبوابها ونوافذها الملونة بزرقة مُشعة واخضرار براق، وجدرانها المُزينة برسوم فنانين تشكيليين من مختلف المدارس والأجيال، والأسوار المحيطة بها والتي يعود تاريخها إلى عهد البرتغاليين. وهي من أهم المدن المميزة بجدارياتها المطبوعة بالرسوم في كل زواياها، إذ يزورها سنوياً فنانون من المغرب ومختلف أنحاء العالم ويتركون تواقيعهم على جدرانها.
وبحسب المؤرخ المغربي، عبد الكبير الميناوي، فإن هذه المدينة التاريخية تأسّست عام 1500ق.م. فأوّل من سكنها الأمازيغ، ومن ثمّ استوطنها الفينيقيّون، والقرطاجنيون، ثمّ أصبحت مدينة وقلعة رومانيّة أُطلِق عليها لقب «زيليس» أو «زيلي». وشهدت في العصر الإسلاميّ هجرة أندلسية من أهالي شذونة وذلك خلال الحكم الأمويّ، واتّخذها المسلمون ميناءً لهم لأهمية موقعها، ولتصبح بعدها ميناءً تجاريّاً مهمّاً يربطها بمدن السّاحل الأوروبيّ، مثل: مدينة جنوة، والبندقية، وبرشلونة.
وأكد الميناوي، في اتصال مع «القدس العربي» أن أصيلة أثناء حكم السلطان محمد الشّيخ مهدي، بقيت تحت الاحتلال البرتغاليّ حتى عام 1549م عندما تخلّى عنها الحاكم جون الثالث خلال الأزمة الاقتصاديّة للبلاد. وتوالت على حكمها الكثير من القبائل التي كانت تنادي للجهاد، ومن ثمّ وقعت تحت حكم المغربيّين عام 1692م فترةَ حكم المولى إسماعيل، وفي عام 1912 استعمر الاسبانيّون المغرب حتى عام 1956 وتحرّرت عام 1978.
جهود حفاظا على جمال المدينة
من يتجول في أزقة أصيلة يلاحظ أن هناك مجهودات كبيرة تبذل في المجال البيئي حفاظا على جمال المدينة، فقد أسهمت طبيعة المنازل القديمة بشكل كبير في ترسيخ هذه العادة، حيث غالبا ما تتوسط الحدائق والنباتات هذه المنازل التي شيدت على الطراز القديم، وعرف عن سكان مدينة أصيلة حرصهم على زراعة النباتات والورود في مزهريات ووضعها أمام مداخل المنازل، أو في الشرفات.
وتنتشر في شوارع هذه المدينة، مواهب متعددة لشباب يطلب رزقه عبر تبنيه فنونا متنوعة، فهم بين رسامي البورتريهات، ومزخرفي المحارات، وناقشات الحناء، وفناني الخط العربي، حيث أضحى فن الجداريات معرضا تشكيليا في الهواء الطلق. ففي ساحة القمرة، وفي الطرف الأيسر منها تباغتك فتاة في عقدها الرابع مشلولة اليدين ترسم بقدميها، تدعى كريمة الجعادي.
استطاعت الجعادي، التي ولدت وترعرعت في مدينة القصر الكبير جنوب أصيلة، أن تتفطن إلى موهبتها في استعمال رجليها بدل اليدين. وفي حديثها مع «القدس العربي» قالت مبتسمة: إن «اعاقتها لم ولن تكون عائقا أمام تميزها ونجاحها، بل كانت حافزا لمواصلة عيشها والاعتماد على نفسها» وأضافت: «أن امتهانها للرسم يعتبر فرصة للتعبير عن ذاتها وطموحاتها وهمومها».
هذا وتعتبر جداريات أصيلة، معرضا تشكيليا مفتوحا لفنانين من مختلف بقاع العالم. وفي تصريح لـ «القدس العربي» قالت الفنانة التشكيلية اليابانية، ميسو صوانا: «أتردد على مدينة أصيلة كل سنة لعرض لوحة فنية خاصة، أحب هذه المدينة إذ ان لها طابع فني وثقافي خاص، وهي توفر فرصة لنا نحن التشكيليين باعتبار ان جدارياتها تصير معرضا فنيا نعرض فيه إبداعاتنا. ونتعرف فيها أيضا على غيرنا من الفنانين ونستفاد من خبراتهم وثقافاتهم، هكذا ارتبطنا بهذه المدينة الجميلة الرائعة». وأضافت: «هذه المدينة بشمسها الدافئة وسكانها وغروبها الرومانسي تشكل في حد ذاتها لوحة فنية بانورامية، تعطي للفنان إلهاما خارقا».
يأخذك التجوال بين دروب المدينة العتيقة، إلى برج «القريقية» هو آخر نقطة من السور البرتغالي، الذي جعل من مدينة أصيلة قلعة حصينة خلال فترة الاحتلال البرتغالي، حيث كان دور السور لا يتعدى المجال الحربي. أما اليوم فقد أصبح نافذة لعشاق المناظر الخلابة والأجواء الرومانسية، إذ من خلاله يطلقون العنان لأبصارهم نحو الأفق الذي تبدو من خلاله الشمس وهي تغوص في أعماق المحيط مؤذنة بانصرام يوم آخر من أيام هذه المدينة الجميلة.
نقوشه منبثقة من الفن العربي الإسلامي
إضافة إلى برج «القريقية» تزخر أصيلة بمعالم تاريخية وعمرانية كثيرة، تعزز هويتها كمركز ثقافي وتراثي. في مقدمتها مركز المراقبة على المحيط الذي تفيد المصادر التاريخية أن ملك البرتغال، دون سيباستيان، انطلق منه لخوض معركة وادي المخازن، حيث هزمت جيوشه على يد الملك السعدي أحمد المنصور. ورمم البرج بداية التسعينيات في إطار تعاون مغربي برتغالي، وفي أقصى زاوية للمدينة على البحر، ينتصب قصر الريسوني الفخم والحصين، الذي بناه بداية القرن العشرين القائد الريسوني، ليصبح معلما بارزا يحتضن تظاهرات ثقافية وفنية. ولا بد لكل من زار هذا القصر أن يقف مشدوها منبهرا بجمال بنائه، وبهاء عمرانه، ورونق نقوشه المنبثقة من الفن العربي الإسلامي الأصيل. وعلى بعد أمتار قليلة من باب القصبة، يوجد مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية، الذي كان في الأصل مخزنا للحبوب، قبل أن يُعاد بناؤه وفق هندسة جميلة، ويتحول إلى مقر رسمي لمؤسسة منتدى أصيلة وفضاء لاحتضان المفكرين والأدباء والمثقفين والمبدعين من مختلف مناطق العالم.
إضافة إلى سلسلة من الحدائق التي حملت أسماء شعراء وكتاب عرب وافارقة، مثل حديقة تشيكايا أوتامسي ومحمود درويش والطيب صالح ومحمد عابد الجابري وغيرهم. ارتبطوا بجمال هذه المدينة وهاموا بها.
بعد المدينة الثقافي
تضرب «مدينة الفنون» لعشاقها موعدا سنويا من خلال مهرجان موسم أصيلة الثقافي، الذي يعتبر أحد أعرق وأضخم المهرجانات المغربية والعربية، الذي وصل هذا العام إلى دورته الـ39 وهو المهرجان الذي كان له أهمية ودور في تكريس اسم المدينة وترويج الثقافة المغربية في الخارج عبر استقطاب شخصيات فكرية وصناع قرار من آفاق مختلفة، يفتنهم بعد المدينة الثقافي وطبيعتها الساحلية وعمرانها ذو الطابع الأنيق والبسيط. وبها هذا أضحى المهرجان ملاذا لمحبي الرسم والفن والشعر.
تحلو مساءات أصيلة دون تذوق أكلتها الشعبية التي اشتهر بها أهل الشمال المغربي، التي يطلق عليها اسم «كالينطي» وعادة ما تباع فوق عربات خشبية صغيرة. وتحظى بشعبية كبيرة، في أوساط الأصيليين.
وتعود تسمية «كالينطي» إلى اللغة الاسبانية، وتعني ساخن، وأصبحت تطلق على هذه الأكلة الشعبية، بحكم أن من يبيعها كان يردد عبارة تفيد أنها ساخنة. ومن أهم مكوناتها، الدقيق والحمص، يتم مزجه بالزيت والماء، ثم خلطه بقليل من الملح، ليتحول إلى سائل لزج، بعد ذلك يتم تفريغه في إناء دائري، قبل أن يوضع في الفرن لبضع دقائق، ليتحول بعدها إلى فطيرة تأخذ شكل القالب الذي تم طهيها فيه.
وقال محمد ايصوبن صاحب عربة لبيع «كالينطي» في حديث مع «القدس العربي»: إن «أهل الشمال عامة وأهل أصيلة خاصة اكتشفوا كالينطي من يهود بولندا حين فروا من قوات هتلر إبان الحرب العالمية الثانية، واستقر عدد كبير منهم في الشمال، نقلوا معهم هذه الأكلة الساخنة التي تعلموها منهم الاسبان، وهم أول من باع كالينطي بين دروب وأزقة مدن الشمال».
هكذا ظلت مدينة أصيلة، مدينة البحر والفن، ومدينة الألوان الثلاثة، الأزرق والأبيض في ألوان البيوت والسماء والجدران والماء، والبني في حجارة المدينة، وصخور المحيط، والشبابيك الخشبية، والعربات التي تجرها الأحصنة في الأزقة والحواري، وجلود الصنادل والحقائب المعتقة والمتدلية من حوانيت الدباغة.