هو هوركول بوارو آخَر هذه المرّة. بوارو جديد بدا، في المشاهد الأولى من الفيلم، أكثر غرابة من سابقه، بوارو الأول الذي أدى دوره ألبرت فيني في الفيلم الذي أخرجه سيدني لوميت سنة 1974، لكن مؤدّي الدور الجديد، كينيث برانا (وهو أيضا مخرج الفيلم) ما لبث أن تخلى عن طرافته وغرابة سلوكه عند تعقد التحقيق الذي يجريه حول جريمة قطار الشرق السريع. كان هذا الأخير، بوارو الجديد، قد بالغ في جعل شاربيه أكثر ظهورا من شاربي سابقه، وأوسعَ مساحةً بما لا يقل عن ثلاثة أضعاف. وفي واحد من مشاهد الفيلم الأولى، أضحكتنا تلك الأداة التي يضعها خلال نومه لتبقي شعر شاربيه على اصطفافهما؛ كما أضحكتنا عصاه التي غرزها في حائط المبكى، في أثناء ما كان يحلّ لغز سرقة حدثت هناك في القدس واتهم بها ثلاثة رجال هم رجل دين مسيحي ورجل دين يهودي ورجل دين مسلم. ثم هناك الأشياء الأخرى، الموجودة أصلا في نص الرواية، والتي تتمثّل بأرستقراطية بوارو، واحتقاره غباء الآخرين، وإيثاره أن يُنطق اسمه باللفظ الفرنسي وليس الإنكليزي، وتقديمه نفسه على أنه أهم محقّق في العالم، إلخ. المميزات الشخصية هذه لبطل أغاثا كريستي، الذي ظل بطلها في ثلاثة وثلاثين رواية من رواياتها، عُرضت كلها، وعلى دفعات متسارعة، في المشاهد الأولى لهذا الفيلم الجديد. بعد ذلك، في ما تلى من مشاهد، طويت صفحة طرافة بوارو هذه، لتحل محلها مهارته، بل عبقريته، في إجراء التحقيقات على ركاب القطار الثلاثة عشر.
هذا الاختلاف بين الجزء الأول من الفيلم وجزئه الثاني نجده أيضا في قوّة التصوير المبهرة للجبال ولقوة الطبيعة (مستخدما لها كاميرا 56 ملم التي لم يعد يُعمل بها منذ عقود) ليتحول التصوير بعد ذلك إلى غرف القطار الضيقة.
هكذا يبدو الفيلم وكأنه احتفال آخر برواية أغاثا كريستي، التي مع فيلم كينيث برانا، الذي بدأ عرضه منذ شهر في الصالات الأمريكية وهو يعرض الآن في صالات بيروت، نقلت إلى السينما للمرّة الرابعة. الفيلم الأول، في 1974، ظهر كاحتفال أيضا إذ حشد له المخرج سيدني لوميت معظم نجوم هوليوود ذلك الزمن وهم، إضافة إلى ألبرت فيني في دور بوارو، لورين باكال وشون كونري وإنغريد برغمان وجون جيلغود وفانيسا ريدغريف ومايكل يورك وجاكلين بيسيه وأنطوني بيركنز. ذلك لأن الأدوار متساوية بين ركاب القطار جميعهم، وأن كلّا منهم ملتبس الشخصية إلى حدّ أن أكثرهم، سواء من الرجال أو من النساء، منتحل شخصية غير شخصيته. وهذه على كل حال ميزة أغاثا كريستي في ابتداع شخصياتها وجعلها أقرب إلى الشخصيات الرئيسية بصرف النظر عن حيّز الحضور المعطى لكل منها في الرواية.
كينيث برانا أيضا حشّد نجوما بينهم توم باتيمان وبينلوبي كروز وجودي دتش وجوني ديب وميشال بفايفر ودايزي ريدلي، إضافة إليه هو نفسه بحسب ما هو مذكور أعلاه. في صالة السينما، ونحن نشاهد الفيلم، رحنا نعجب من كل ظهور لهؤلاء ونقول، مثلا، جوني ديب أيضا هنا، كما لو أن كينيث برانا أخرجه من دور القرصان، أو من دور الدون جوان، وجاء به إلى فيلمه، محتالا فاسدا وقاتلا أيضا. كما بدا مفاجئا ظهور ميشال بفايفر التي كأنها أعيدت إلى السينما بعد أن باتت من جيل سينمائي سابق.
إنه احتفال آخر برواية أغاثا كريستي (صدرت في 1934)، بل احتفال السينما بنفسها، أو بافتتانها بعودتها إلى استحضار ثلاثينيات القرن الماضي. فهنا، في هذه العودة، سيكون أول ما يبهر في الفيلم هو تلك التفاصيل الكبيرة والصغيرة لذلك الزمن، بدءا بتفاصيل الماكياج وطرز تصفيف الشعر واللباس، وصولا إلى، هنا في هذا الفيلم، أناقة ترتيب الموائد في قطار الشرق السريع، ذاك الذي لا نعرف إن كانت رواية أغاثا كريستي هي التي شهرته، أو أن شهرته تأتت من كونه أشبه بأسطورة باقية من زمن رفاهية مغالية جمعت بين أثرياء الشرق والغرب.
«جريمة أورينت إكسبريس» تستعاد لجيل السينما الجديد، ذاك الذي لم يقرأ الرواية بسبب زمنه الكاسح بسرعته والمهول حتى لتبدو معه أغاثا كريستي من ماضي الماضي، وليس من ماضي حاضره وحسب. هذا الظهور الجديد للرواية، سينمائيا، يثير فضولنا لأن نعرف كيف سيرى المشاهدون الجدد تلك الفانتازيا القديمة حيث، حتى الطرافة ووضع الشخصيات على حدّ أن يكونوا مضحكين أو كاريكاتيريين، ينبغي أن ينتهي الأمر بها إلى بلوغ حكمة، أو إلى بلوغ تساؤل عن معنى العدالة مثلا. هنا، في هذا التحقيق لهيركول بوارو، الذي يبدو الأخير من بين تحقيقاته الثلاثة والثلاثين، تبعا لبطولته في ثلاث وثلاثين رواية، لأنه هنا يتراجع عن مقولته الخالدة «هناك صحّ وهناك خطأ، ولا شيء بينهما» ليصل إلى أن هؤلاء الذين تعاونوا على ارتكاب الجريمة، وهم ركاب القطار جميعهم، ينبغي عدم إدانتهم، لأنهم قتلوا مجرما كان ينبغي أن يموت.
أن نصل إلى حكمة، أو إلى تساؤل عن المعنى على طريقة ما يسعى إليه كتاب التراجيديات، هو أسلوب أغاثا كريستي في اختتام رواياتها البوليسية.
عن فيلم كينيث برانا
Murder On the Orient Express
٭ روائي لبناني
حسن داوود
روايات اغاثا كريستي و كل ما نتج عنها من مسلسلات و افلام و مسرحيات ، و خاصة ببطليها الأشهر ، هيركيول بوارو ، و مس ماربل ، متعة لا تنتهي ، و تشغيل و تحفيز لخلايا المخ الرمادية كما يحلوا لكريستي أن تطلق عليها على لسان محققها الأشهر !
.
كما تعطي دروس اجتماعية و نفسية شديدة الذكاء عن الطبيعة الإنسانية والبشرية.
.
ربما قرأت كل رواية لأغاثا كريستي اكثر من مرة ، وفي كل مرة اشعر أنني اقرأها لأول مرة ، و اكتشف فيها كنوز جديدة .
.
هناك سلسلة تلفزيونية بريطانية اسمها بوارو ، امتدت على مدى 13 موسم ، من عام 1989 و لغاية 2013 ) اي على مدى ربع قرن) من بطولة الممثل البريطاني ديفيد سوشيه في 70 حلقة !
جسدت معظم ان لم يكن جميع الروايات التي ظهر فيها بوارو في قصص اغاثا كريستي ، صحيح قسم من الروايات جسدت على اكثر من حلقة ( بحلقتين لطولها ) لكن يبقى العدد ضمن الستين ونيف تحقيق و ليس 33 كما ذكر الاستاذ الكاتب.
ربما السبب لهذا التفاوت أن هناك روايات عبارة عن قصص قصيرة ، اي اكثر من تحقيق و لكن ظهرت في كتاب أو رواية واحدة كقصص منفصلة مثل كتاب أو رواية بعنوان ،قضايا بوارو المبكرة ، التي تضم قصص عديدة جسدها المسلسل بشكل حلقات منفصلة لكل قصة أو تحقيق و ربما هذا ما جعل العدد متفاوتاً بهذا الشكل الذي بلغ ربما الضعف !
.
على أية حال كنت اتمنى على كاتب المقال الكريم ، أن لا يفسد الفيلم كونه يجسد قصة بوليسية ، فكرتها قائمة على أن تستمر الإثارة و الغموض الى اخر لحظة ، و ذلك من خلال الإشارة إلى نهايتها ،و كان يفترض أن ينبه إلى ذلك أو يتركها معلقة حتى يشجع القارئ على مشاهدة الفلم و الاستمتاع به .
.
أخيراً و من الأخبار الجيدة ، أن هاربر كولينز ، دار النشر المعروفة و عائلة اغاثا كريستي ، قرروا تكليف الروائية البريطانية الشهيرة صوفي هانا ، بإعادة هيركيول بوارو الى حياة الرواية من جديد بروايات تكتبها هذه الروائية و يكون هو بطلها !
وبالفعل ، صدرت روايتان مؤخراً عام 2014 و 2016 ، وهناك روايتان في الطريق كذلك.
لا يمكنني التعليق عليها لأنني لم اقرأهما بعد ، واتمنى ان تكون بجودة الأصل.
تحياتي دكتور أثير الغالي، أسعد الله أوقاتك..
وهذه أيضا (لحسن حظي) أضافة جديدة مشتركة بيننا، حيث أتابع كل ما هو بوليسي وجرائم وتحقيقات وهي فعلا محفز قوي لتشغيل خلايا الدماغ بشكل مثير شيق وممتع،،أضافة إلى أنها تستدعي نستلوجيا الزمن الجميل،،
تابعت سلسلة بوارو جميعها بمتعة كبيرة،،بل لا أخفيك سرا أن قلت لك لشدة حبي (هوسي) بالموسيقى التصويرية أنها لاتزال (رنة تليفوني) نعم أحبها حد العشق ولا أمل أبدا من تكرارها ومن سماعها، بل لا أمل من تكرار مشاهدة أي حلقات السلسلة وفي أي وقت.
أشاركك الرأي أيضا يا دكتور أنه كان على الكاتب المحترم ترك أو عدم ذكر النهاية،،ولا يمنعني هذا من توجيه الشكر له على تخصيص هذه المقالة لهذا اليوم عن أحد أعمال الرائعة المبدعة أغاثا كريستي.
أجمل واحر التحيات
العزيز الغالي الاخ الكريم عالي الجناب حسين المحترم….
يا سبحان الله ، هناك تواصل يكاد يكون تيليباثي مع اخي الحبيب الدكتور رياض من المانيا و تواصل وتوافق يصل مرحلة التطابق في الافكار و التعليقات ، وها انني اكتشف نوع من توارد الخواطر و الاهتمامات المشتركة معك ايضاً ، وسبق وان عبرت عن ذلك لأخي د. رياض سابقاً ، انه يبدو ان التوأمة التأريخية بين بغداد و القدس اثرت على جينات ساكني فلسطين و العراق فصهرتها في بوتقة واحدة!
.
استغربت استغراب كبير و كبير جداً حين اخبرتني ان نغمة هاتفك هي موسيقى مسلسل بوارو ، هي نغمة هاتفي كذلك ، صدق او لا تصدق ، اخي حسين. و في معظم الاحيان لا اجيب مباشرة حتى استمتع بالنغمة اطول فترة ممكنة.
.
انت ربما تابعت السلسلة بحكم اقامتك في لندن ، لكنني من ولعي بها بشكل كبير ، فقد اشتريتها بنسخة انيقة عبر النت ، و محتفظ بها كنوع من كلاسيكيات المسلسلات التلفزيونية.
.
ذكرتني و جزاك الله كل خير ، بتوجيه الشكر الى الاستاذ حسن داوود كاتب المقال و اتمنى ان يتحفنا بمقالاته بإستمرار عن الروايات بشكل عام و عن تلك التي تتحول الى افلام بشكل خاص.
.
كل الود و المحبة و الاحترام.