أقوى من السيسي… أكبر من الإخوان

■ في مشهد سوريالي التعقيد كهذا، ليس سهلا أن تشق رؤية موضوعية هادئة طريقها وسط استقطاب سياسي حاد، وحرب إعلامية شعواء لا تنقصها الفوضى أو الانفلات أو الجهل بحقائق اساسية، بل أن الاغراءات كبيرة ليروج المرء «موقفا جاهزا» أو يتاجر به عند هذا الطرف أو ذاك، أو يستسهل إصدار أحكام وتكهنات قد تتفق مع أمنياته أو أوهامه، لكن ليس بالضرورة مع المعطيات الواقعية التي تحدد المسارات وتفسر التطورات.
والأدهى أن بعض ما يفعله اولئك لا يصب حتى في مصلحة الطرف الذي يفترض أنهم يدافعون عنه، وليس من المبالغة القول إننا أمام مشهد إعلامي – سياسي يزدحم بالأبواق والأبطال المزورين و»الدببة»، التي إما قتلت اصحابها فعلا، أو تتجه إلى ذلك. ومن قبيل (شر البلية ما يضحك) قرأت في صحيفة عربية عقب صدور قرار الإحالة إلى المفتي (وليس أحكام الاعدام) ضد قيادات الاخوان في القضيتين المعروفتيتن اعلاميا بـ(اقتحام السجون) و (التخابر الكبرى)، «أنه في حال عارض المفتي اصدار المحكمة احكاما بالاعدام، سيتدخل رئيس الجمهورية للفصل بين الجانبين»(..).
وبالطبع فإن المشهد المصري لا يهم المصريين وحدهم، بل أن البعض يصر محقا، ربما، على أن ما يحدث في مصر حاليا، وأكثر من اي بلد آخر، سيكون له اثر حاسم في رسم مستقبل المنطقة بأسرها. إلا أن شيئا لا يمكن أن يبرر كل هذه الجرائم الاعلامية والسياسية التي يزدحم بها الاثير، من تحريض مباشر على العنف قتلا وحرقا ضد الآخر إلى اغتياله معنويا وسياسيا، ناهيك عن الاكاذيب والسب والقذف والتزييف والهراء الإعلامي الذي يذهب جفاء مثل زبد البحر.
وإذا كان القارئ يتوقع أن يجد في هذا المقال إجابات سهلة أو تفسيرات بسيطة للتطورات المأساوية التي أدت تلقائيا إلى صدور قرار مأساوي بإحالة اوراق اكثر من مئة متهم، بينهم رئيس سابق لاول مرة في تاريخ مصر للمفتي، فله أن يتوقف عن القراءة الان.
اما المسائل التي تشكل إطارا حتميا لفهم ما يحدث وتحكم مسار هذا المشهد، فمنها:
اولا – أن النظام في مصر، وعلى عكس ما يحب أن يظن كثيرون، ليس شديد المركزية أو محكما سيطرته على كافة الاجهزة والمؤسسات في البلاد، بل أن قدرته على البقاء، وهو بالمناسبة لا يواجه خطرا وشيكا حتى مع تصاعد العنف المتوقع، ترتبط بعوامل، ليس له فضل في اكثرها، وهذا موضوع يستحق بحثا مستقلا، لكنه يحظى بشرعية الامر الواقع، باعتباره البديل الوحيد المتاح بعد إطاحة الاخوان، ويستفيد من تجذر قواعد الدولة سواء بيروقراطيا أو في وجدان شعب اعتبرها جزءا من هويته وضرورات وجوده منذ الاف السنين. كما أنه يستند إلى النتيجة التي افضت اليها التطورات منذ الثلاثين من يونيو، التي جعلت اغلب المصريين، سواء عن حق أو باطل، يربطون بين الاخوان وجماعات العنف السياسي. وحيث أن الشعب يدفع يوميا ثمنا قاسيا للاعمال الإرهابية، فإنه أصبح محقا يرى في تلك الجماعات وكل من يرتبط بها عدوا له. وحظي هذا المفهوم بترسيخ حاسم من الهجوم الذي ادى إلى اغتيال ثلاثة قضاة وسائقهم في العريش بعد ساعات قليلة من صدور قرار الإحالة بحق قيادات الإخوان السبت الماضي، كما استقر بفضل تصريحات لقيادات اخوانية غاضبة دعت ضمنيا لكن بشكل غير مسبوق إلى اللجوء للعنف ردا على احكام الاعدام المتوقعة.
ثانيا – يدرك النظام أن ابقاء الاخوان في «خانة العداء الشعبي» يمثل صمام أمن لبقائه، كما أن تصاعد العنف بالضرورة سيمنحه قدرة اكبر على تصفية الجماعة اجتماعيا، بعد أن نجح في القضاء على مستقبلها السياسي في المدى المنظور، بل انه تمكن من تمرير انتهاكات حقوقية مروعة لم يكن نظام مبارك نفسه ليقدر عليها من دون أن يدفع ثمنا باهظا (راجع ملفات القتل تحت التعذيب عواقب مقتل السلفي سيد بلال في الاسكندرية عام 2010 مع مقتل محامين في قسم شرطة المطرية مؤخرا). ولم تكن هذه لتمر لولا الجرائم الارهابية المروعة التي تستهدف الشعب غالبا، اكثر من مؤسسات النظام. وإلا كيف يمكن تفسير تفجير محطات المترو والقطارات وابراج الكهرباء.
وكان اخر ضحايا هذا الإرهاب سائق سيارة القضاة، وهو رب لأسرة مكونة من خمسة اطفال، والذي بكته ابنته على الهواء مباشرة، فأبكت مصر كلها معها، بل وهزت أركان النظام نفسه، عندما قالت إنها لن ترضى باقل من الثأر لابيها، وانها تريد أن تقتل قاتله بيديها مهما كانت العواقب. فهل كان قتل السائق (جهادا سياسيا) حقا؟ أم أنه إمعان في استفزاز الشعب في دمائه؟ ولمصلحة من؟ بل هل يمكن أن يكون (جهادا دينيا) اصلا؟ وماذا عن الآية القرآنية (ولاتزر وازرة وزر اخرى)؟ فهل كل قاض أو وكيل هو ظالم ومدلس ومسؤول عن الاحكام الجائرة هنا أو هناك؟
ثالثا- وهكذا يجد كل من النظام والاخوان نفسيهما في مأزق وجودي. أما النظام فإن ثمن قدرته على البقاء انه اصبح كبطة عرجاء غير قادر على انجاز رؤية سياسية، حتى إن اراد هذا، خوفا من اغضاب «الكتلة الحرجة» المدعومة من مؤسسات نافذة، إلا اذا كان يريد أن يخاطر بوجوده ذاته. وبكلمات اخرى فانه يدرك أن بقاءه في النهاية ليس مرتبطا بمساعدات امريكية أو خليجية، أو تفادي إدانات سياسية أو إسكات حملات اعلامية من هنا وهناك، لكنه مرتبط باستمرار قبول «الكتلة الشعبية الحرجة» لوجوده في الحكم. كما يدرك انه يستطيع أن يصمد سنوات طويلة امام اعمال العنف، لكن الامر لا يحتاج اكثر من مظاهرة مليونية واحدة في يوم واحد، ليجد نفسه مضطرا إلى الرحيل، ذلك أن الجيش لن يخاطر بوحدته في النزول لمواجهة «الكتلة الحرجة» بهدف ابقاء اي رئيس في الحكم.
وفي المقابل تشعر جماعة الاخوان انها لم تعد تملك إلا الاستمرار في النهج الخاطئ نفسه للحفاظ على ما تبقى من وجودها وكيانها التنظيمي، متجاهلة الحكمة التي تقول «اذا كنت في حفرة، عليك أن تتوقف عن الحفر». وبالطبع فإن بين قيادات الجماعة وكوادرها من يدرك الحاجة إلى اتخاذ القرار الشجاع بالخروج من «الكمين» الذي وقعت فيه بالدخول في مواجهة لا تطيقها، وذلك عبر التوقف والبدء في مراجعة شاملة تعتمد مقاربة سياسية تتوجه في خطابها إلى القاعدة الشعبية غير المسيسة التي خسرتها لإعادة بناء الثقة معها، وهو ما يجبر النظام على مراجعة مساره للحفاظ على مبررات بقائه، الا أن ذلك يتطلب قيادات جديدة شابة قادرة على فهم المعطيات الجديدة والتفاعل معها.
وأخيرا، وحيث أن فهم المقدمات وحده يفسر النتائج، فإن النظام والجماعة قد لا يجدان بديلا واقعيا في مواصلة التسلق إلى قمة الشجرة. وسيجد كل منهما في أخطاء الآخر مبررا لارتكاب المزيد من الاخطاء في مواجهة هما الاضعف فيها، فهل تستمر هذه الدائرة الجهنمية إلى ما لا نهاية؟

٭ كاتب مصري من أسرة «القدس العربي»

خالد الشامي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لو سمح النظام العسكري الغاشم بالمظاهرات لخرجت الملايين بلحظة
    فالشعب فهم اللعبة لكن الخوف كبله ومع هذا فالانفجار قريب جدا

    للعلم أن الاخوان قد ازداد اصطفاف الجماهير معهم لنزاهتهم
    فلم تقام عليهم أي قضية فساد لحد الآن

    الأوامر الأمنينة هي أنه لو خرج 100 متظاهر اضرب بالمليان
    لكن السؤال هو : ماذا لو خرج 1000000 متظاهر دفعة واحدة

    الثورة القادمة ستكون حازمة بكل الأمور ولا أستبعد انقلاب عسكري

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول عبدالله ناصر:

    ما الذي يمنع ان يكون اﻻرهاب الحاصل في مصر وراه النظام فهو يرى فيه طوق نجاة واستمرارية في محاربة اﻻخوان وكل معارضيه اجتماعيا وقانونيا وسياسيا والدليل كما ذكر الكاتب ان جرائم اﻻرهاب ضررها على الشعب ومؤسساته وﻻ تضر النظام في شيء

    1. يقول Dr. walid khier, Germany:

      “ما الذي يمنع ان يكون اﻻرهاب الحاصل في مصر وراه النظام”

      لا شيء… بل أغلب الظن أن مخابرات عبد الفتاح السيسي الحربيه تقف وراء كل أعمال الاغتيالات بدءاً بمقتل جنود حرس الحدود في رفح، التي نسبها لقتلي حماس و أزاح بها طنطاوي و عنان، إلي قتل وكلاء النيابه في سيناء و التي جاءت بعد سويعات قليله من إصدار الأحكام. فكيف يمكن أن يتم التخطيط و رصد تحركات الأهداف في مثل هذا الوقت الضيق؟؟

  3. يقول عبد القادر الجزائر:

    اخلاقيا لايجوز المقارنة بين جماعة لم يثبت في حقها فساد مالي او قتل بالعشرات اوقمع حريات وبين نظام السيسي الذي فعل كل ذلك

  4. يقول خليل ابورزق:

    اللجوء الى الحياد او ادانة الطرفين او نقد الطرفين ليس عدلا او موضوعية عندما يكون احدهم معتد و الثاني ضحية. انصر اخاك طالما او مظلوما بردعه عن الظلم و ليس بالتربيت على كتفه.
    يقول الكاتب “في المقابل تشعر جماعة الاخوان انها لم تعد تملك إلا الاستمرار في النهج الخاطئ نفسه للحفاظ على ما تبقى من وجودها وكيانها التنظيمي، متجاهلة الحكمة التي تقول «اذا كنت في حفرة، عليك أن تتوقف عن الحفر». ” و الحقيقة ان نهج الاخوان الجلي حتى الان و الذي ينتقده الكثير من شبابها و اصدقائها هو السلمية. اي ان اي تغيير سيكون الى عكس ما اراد الكاتب. اما الربط ما بين الاخوان و حماعات الارهاب بهذه الصورة فهو تلفيق و افتراء من خصومهم. وان كان هناك صلة فهي بسبب الانقلاب على الخط المعتدل مما افسح الصدارة للجماعات العنيفة بتبرير منهجها. اي ان سبب الارهاب هو فشل او اضعاف التيار المعتدل. يعني ان الانقلاب هو السبب

  5. يقول عربي حر:

    أتفق مع الكاتب في أغلب مقاله
    وعندي بعض الملاحظات
    – المساواة بين الضحية والجلاد مقاربة خاطئة لأن نظام السيسي يسيطر على الجيش والشرطة والإعلام والقضاء وعلى كل مفاصل الدولة بينما الإخوان بين قتيل ومعتقل ومهجر .
    – ما الأدلة على أن الإخوان يمارسون العنف ( هل سمعتم عن جماعة إرهابية تحرق مقراتها وهي في الحكم – هل سمعتم عن إرهابيين يعتقل آلاف منهم دون أن يطلقوا رصاصة )
    – التفجيرات وإغتيالات ينفدها المستفيد من نتائجها وهو معروف
    – بمناسبة إبنة السائق التي أبكت الملايين لماذا لم يعامل السائق مثل باقي القضاة الذين إستشهدوا أم هو تكريس لدولة السادة والعبيد .
    – إذا كان نظام السيي يمن بالفتات على من صعد على أكتافهم عقب سهرة 30 يونيو فما نتوقع منه أن يقدمه للإخوان الذين هم البديل والمنافس الوحيد له .
    – للخروج من الدائرة الجهنية الحاصلة الآن ينبغي على الثوريين إلتزام أقصى درجات السلمية مهما تغول النظام في طغيانه وفساده لأنه كلما إزداد طغيانا وشططا في إستعمال أدوات القمع كلما إزداد ضعفا بالإضافه إلى إخفاقاته في كل المجالات السياسية والإجتماعية والإقتصادية .
    والشكر موصول لقدسنا العربي

إشترك في قائمتنا البريدية