مثلت المعتقلات التي تضم معتقلي الجماعات الإسلامية في مختلف دول العالم نوعا من الأكاديميات التي يلتقي فيها قادة التنظيمات بالمعتقلين الجدد، فتتم عمليات تجنيد وتأطير فكري واسع في هذه الأماكن، حتى أطلق عليها البعض تسمية (أكاديميات الإرهاب).
هذا ما لاحظه عدد من الكتاب والباحثين الذين درسوا ظاهرة معتقلات تنظيمات الحركات الجهادية، وقد انصب عدد مهم من الدراسات على بعض السجون التي مثلت نماذج للدراسة مثل، سجن غوانتانامو في كوبا، أو سجن باجرام في افغانستان أو سجن بوكا في العراق، بالاضافة إلى عدد من السجون المتناثرة في عالمنا العربي.
إن تقييد الحرية يعد من العقوبات القديمة في التاريخ، وهي عقوبة تفرض عادة على من يخرق المنظومة القانونية للمجتمع، وقد مرت السجون بمراحل متعددة عبر تاريخها الطويل، لتتحول من مؤسسات عقابية تمارس فيها العقوبات الجسدية، بالاضافة إلى الاحتجاز حتى وصلت في نهايات القرن الثامن عشر إلى ما بات يعرف بالمؤسسات الإصلاحية، عندما تغيرت فلسفة العقاب. وفي عالمنا العربي نوعان من مؤسسات الحجز العقابية، الاول هو المؤسسات الخاصة بالعقوبات الجنائية أو ما تعرف بالسجون، اما الثاني الذي ظهر في اربعينيات القرن العشرين تقريبا، فهو مؤسسات احتجاز سجناء الرأي أو ما بات يعرف بمعتقلات السجناء السياسيين، وكان المتعارف عليه أن النوع الثاني يختلف عن الأول بسبب طبيعة النزلاء، إذ أن هؤلاء المعتقلين اناس ذوو عقائد هدامة تهدد الأمن الاجتماعي من وجهة نظر نظام الحكم، إلا أنهم في الوقت نفسه يحظون بنوع من التعامل الخاص، لأنهم ليسوا مجرمين عاديين مثل المتهمين بجرائم جزائية كالقتل والسرقة والاختلاس وما شابه ذلك، ورغم هذا الفرز القائم على الاختلاف النوعي، الا أن معتقلي الرأي كثيرا ما كانوا عرضة للتنكيل والتعذيب الجسدي والنفسي، الذي لا يمر به السجين العادي عادة، ولذلك انعكاسات على سلوك المعتقل.
لقد ابتدأ أعضاء حركات الإسلام السياسي يتعرضون للاعتقال والسجن في مرحلة ما عرف بالحكومات الوطنية، التي جاءت نتيجة للإطاحة بأنظمة سابقة كانت تعتبر عميلة أو صنيعة قوى الاستعمار، لان نشاط الاسلام السياسي لم يظهر بوضوح الا في هذه الحقبة، وبسبب اصطدام مشروعها السياسي مع مشاريع الدول القائمة على أسس قومية أو يسارية أو علمانية، والموجات الاولى من المعتقلين الإسلاميين كانت على سبيل المثال في خمسينيات القرن العشرين في مصر، وفي سبعينيات القرن العشرين في العديد من الدول العربية، كالعراق وسوريا ودول الخليج والمغرب العربي، بسبب تصاعد موجة الاسلام السياسي التي اجتاحت المنطقة.
وبحسب مذكرات وكتابات العديد من الاسلاميين الذين تعرضوا للاعتقال، كانت مرحلة احتجازهم في سجون ضمت قياداتهم وقواعدهم، فترة ذهبية للإعداد الفكري والديني والتدرب على اساليب العمل السياسي والعسكري، كما بات المرور بتجربة عصيبة في المعتقل تمثل نوعا من التعميد للاسلاميين الجهاديين، أو نوعا من الترسيم الذي يولد على أثره مناضل حركي كما يراه زملاؤه أو مسؤولوه، فان الجلد والصبر وتحمل التعذيب الجسدي بات امرا ملزما يبين قوة ايمان المعتقل بمبادئه وعدم الاعتراف على رفاقه. وكلما كان الأذى أشد والصبر اكثر كانت المكانة ستصبح اكبر، وان خزين الحقد الذي سيتولد في نفوس المعتقلين نتيجة تعرضهم للاذلال والاذى ومحاولة كسر شوكتهم، ستتحول إلى نتائج عكسية في الكثير من الأحيان لتخلق منهم مقاتلين دمويين سيحطمون كل ما له صلة بسجانيهم ومن يختلف معهم في المجتمع، الذي سيتاح لهم الخروج والعيش فيه.
لقد بات معلوما أن مؤسسات العقاب عادة ما تكون حتى في أعتى النظم الديمقراطية مؤسسات لتفريخ الاجرام، والمختصون في هذا الشأن يعلمون جيدا أن من يدخل المؤسسة العقابية بجنحة فإن احتمالية عودته للسجن بجريمة هي نسبة عالية، نتيجة التأثيرات التي ستمارس عليه من زملائه في فترة قضاء محكوميته، لذلك عمدت إدارات السجون إلى فصل العقوبات قصيرة المدى التي هي عقوبات لجرائم بسيطة عن عتاة المجرمين المحكومين لفترات طويلة، كما يتم فصل صغار السن المعروفين بالأحداث عن كبار السجناء لمنع تأثرهم بهم وبالتالي زيادة انحرافهم، وكذلك خضوع المفرج عنه لبرنامج إعادة تأهيل يوفر له فرص عمل وحياة تبعده عن العودة للجريمة، كل ذلك في حالة العقوبات الجزائية، بينما لا يطبق أي من الخطوات السابقة مع ما يعرف بسجناء الرأي، ومنهم الاسلاميون، فمدة الاعتقال كثيرا ما تكون غير محددة قضائيا، أو يتم التجاوز عليها بقوانين خاصة كقوانين الطوارئ، كما أن المؤسسات العقابية الخاصة بالمعتقلين لا تكون تحت إشراف إدارة السجون أو المؤسسات الإصلاحية، فلا تتم فيها مراعاة إعادة تأهيل المعتقلين بعد خروجهم.
لقد حاولت بعض الحكومات الاشتغال على موضوع إعادة تأهيل المعتقلين الاسلاميين، كما جرى في مصر في نهاية عقد التسعينيات في ما عرف بمراجعات أمن الدولة، عندما قدمت تيارات الجهادية السلفية قراءة لماضيها السياسي وخطة لمستقبل عملها بما لا يعرض الأمن القومي – بحسب وجهة نظر الحكومة – للخطر، لكن التاريخ أثبت أن هذه المراجعات كانت نوعا من التسقيط السياسي فرض فرضا من جانب الحكومة، وتم التعامل معه من قبل الجماعات الجهادية بنوع من التقية، للحصول على الإفراج والعمل بعدها تحت الأرض، وما شهدناه ونشهده من أعمال ارهابية في مصر، دليل على عدم جدوى ما تم من معالجات سطحية، كذلك تم العمل وفق ما عرف ببرنامج المناصحة في السعودية، الذي أشرفت عليه لجان دينية واجتماعية وسياسية، وطبقته المملكة على أفراد شبكات تنظيم «القاعدة» المعتقلين في سجونها، أو ممن استلمتهم من سجناء غوانتنامو بعد الافراج عنهم وارسالهم إلى السعودية، لكننا ايضا لاحظنا أن الكثير منهم عاد للاعمال الارهابية، سواء في السعودية أو خارجها، كما أن المملكة انحازت في هذا الامر، إذ انها لم تخضع اعضاء شبكات الاسلام السياسي الشيعي المتمرد في المنطقة الشرقية لمثل هذا الاجراء واقتصر العمل بالبرنامج تجاه الجهاديين السنة.
أما اذا نظرنا إلى تعامل الغرب مع مشكلة الجهاديين فسنجد التخبط واضحا، فإذا اخذنا سجن بوكا في محافظة البصرة جنوب العراق نموذجا، سنجد التخبط بدأ منذ اليوم الاول لاقامة هذا السجن، الذي انشأ عام 2003 كمعسكر للاسرى العراقيين لدى قوات التحالف، وكان عبارة عن مجموعة من الخيام لا تتوفر فيها الشروط اللازمة لاي مؤسسة عقابية، ثم ما لبث أن تحول إلى مجموعة من الكرفانات، وألحقت به خدمات طبابة وتعليم وترفيه، بعد أن تحول إلى سجن تودع فيه عناصر من المتمردين الذين يشنون هجمات على قوات التحالف، أو القوات العراقية أو الأهالي المدنيين، وكان التعامل مع المحتجزين في هذا السجن مضطربا وغير واضح الملامح، فهم ليسوا أسرى حرب، كما أنهم ليسوا سجناء احكام جزائية عادية، ولم يتم عرضهم على القضاء العراقي أو القضاء الامريكي أو البريطاني، باعتبارهم قاموا بعمليات ارهابية، وكان فرز النزلاء يتم على اساس عقائدي، اذ يتم عزل سجناء التيار الصدري مثلا في جزء من السجن، بينما يتم حجز سجناء «القاعدة» في جزء آخر خوفا من حدوث صدامات بين الطرفين، ولكن مع ذلك تم الكشف عن الكثير من جرائم القتل التي نفذها بعض المعتقلين ضد زملائهم نتيجة اختلافات سياسية أو عقائدية أو شكوك بسلوك بعض النزلاء الذين يتهمون بالتعاون مع ادارة السجن. وقد تم في هذا السجن تجنيد العشرات وربما المئات من ضباط ومراتب الجيش العراقي السابق في تنظيمات جهادية مثل «جيش الاسلام» و»مجلس شورى المجاهدين» وغيرها من التنظيمات التي انصهرت جميعها في الاخر لتشكل ما بات يعرف بـ»تنظيم الدولة الاسلامية»، وتكفي الإشارة إلى أن عددا مهما ممن تولى مهمات قيادية في هذا التنظيم، وعلى رأسهم ابو بكر البغدادي خليفة «داعش» الحالي هم خريجو (اكاديمية بوكا للارهاب)، وقد افصح عدد ممن اعتقلوا لاحقا من قبل القوات الامنية والجيش العراقي عن معلومات خطيرة عن حقبة اعدادهم فكريا وعسكريا وعقائديا في هذا السجن، حيث توفرت لهم بيئة آمنة للتعرف على بعض والاختلاط بقياداتهم المحلية والاقليمية، بدون خوف من المطاردة أو عناء البحث عن اماكن لقاء آمنة، حيث كان الكل متفرغا للدعوة والاعداد وهو يعيش ويأكل ويعالج من قبل قوات الاحتلال، منتظرا اطلاق سراحه ليعود وقد تخرج متدربا وعلى اهبة الاستعداد لتنفيذ كافة ما يطلب منه من قيادته التي التقى بها داخل السجن أو التي سيلتقي بها خارج السجن.
ولابد من الإشارة إلى أن عددا من دول الغرب ونتيجة للقيود التي تفرضها دساتيرها وسطوة منظمات حقوق الانسان فيها، كانت تستعين بعدد من الحكومات الاقليمية في تنفيذ (المهمات القذرة) عبر ارسال معتقليها من (الارهابيين) إلى بلدان الشرق الاوسط ليتم انتزاع المعلومات منهم تحت وطأة التعذيب، وما تسرب من معلومات عن هذا الامر كان كافيا لإحداث أكثر من فضيحة في أكثر من بلد، لتبقى إشكالية التعامل مع شبكات الإسلام السياسي الجهادي وما يمثله من خطر ليس فقط على المنطقة، بل على العالم بدون حل علمي يتعامل معها بحنكة ليقوم بتفكيكها بدون إهدار إنسانية الإنسان الذي دفعته ظروف مختلفة للانتماء إلى هذه التنظيمات.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
هذا كلام صحيح حسب ما سرده لنا الكاتب المحترم،
والضغط يولد الانفجار،وجهل الحكومات العربي يخرب الدار