يوم الإثنين التاسع عشر من سبتمبر (أيلول) 1988، في ذروة أزمة اقتصادية وقلاقل اجتماعية وارتباك حكومي، ألقى الرئيس الجزائري آنذاك، الشاذلي بن جديد، خطابا قاسيا في لهجته، حاداً في مضمونه وغير منتظَرٍ من هذا الرجل الذي كثيراً ما وُصف بالهادئ والسطحي والمُهمل.
مما قاله بن جديد مخاطبا الجزائريين بغضب: «ما تاكلوش اللحم، المصريين ماكلاوش اللحم ما ماتوش». وأيضا: «اخرجوا، عبّروا، تحركوا» في إشارة إلى أن الناس يجب أن يطالبوا بحقوقهم.
كان الرئيس يرد على خليط من الأخبار والإشاعات عن سخط شعبي وشكاوى من ارتفاع الأسعار وتدني القدرة الشرائية.
استغرب الجزائريون مضمون الخطاب. وتساءل المحسوبون على النخب السياسية والإعلامية، في صمت وسرية، عن دوافعه وسياقه.
في الأيام التي تلت انتشرت في البلاد كالنار في الهشيم إشاعات عن مظاهرات غضب في الأفق، وعن أن «الدنيا رح تتخلط» و»الشعب رح يخرج». تزامن ذلك مع إضرابات عمالية شهدتها المنطقة الصناعية بمدينة الرويبة في الضاحية الشرقية للعاصمة. الرويبة هي مقياس حالة الرضا أو الغضب في البلاد بسبب حجمها وعدد عمالها الكبير، ورمزيتها كقطب صناعي تتباهى به الجزائر شعبًا وحكومة. أقوى النقابات في ذلك القطب الصناعي كانت في مجمع تصنيع السيارات المعروف اختصاراً باسم «صوناكوم»، وصادف أن قادت نقابات هذا المجمع حركة الغضب والاحتجاج.
عندما تُشنُّ إضرابات بذلك الحجم والإصرار، وفي ذلك المكان، يعرف الجزائريون أن بلادهم ليست بخير.
هناك من قال إن الرئيس هو من قاد حملة الغضب وحرّض على الاحتجاج بخطابه الحاد ذاك.
يوم الثلاثاء الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) ذهب الرئيس بن جديد في زيارة «عمل وتفقد» (وفقا للخطاب الإعلامي الرسمي آنذاك) إلى ولاية المْدِيَّة الواقعة على سلسلة جبلية إلى الجنوب من العاصمة. في الثامنة من مساء ذلك اليوم، وبينما كان التلفزيون الحكومي يبث صور الزيارة وتدشين المشاريع، مرفوقة بخطاب انتصاري رنّان، اختار سكان حي «باب الواد» في قلب العاصمة أن يكون لهم رأيا آخر يكفر بـ»جزائر التلفزيون» التي لا وجود لها في حياتهم الحقيقية.
الفرح في المْدِية
والحريق في «باب الواد»
خرجت من «باب الواد» مظاهرات صاخبة وعنيفة. أخطر ما فيها أنها كانت بلا قائد وبلا شعارات وبلا هدف وبلا مطالب سياسية. خرج الناس ليقولوا كفى، فقالوها.
كان «باب الواد» شرارة حريق بدأ ولا أحد يعرف أين ومتى وكيف سينتهي. امتدت المظاهرات إلى المدن الأخرى بنفس العنف والخطورة والغموض، وبلا رأس. طالت رموز الدولة من مقار حكومية وحزبية وأمنية، وحتى ممتلكات خاصة. انتشرت اللصوصية والإجرام. سقطت الحكومة. غابت الدولة بسرعة مذهلة وانهار بسرعة أكبر إعلامها الذي لطالما باع للناس أوهام الاستقرار والقوة والأمن.
بدا الرئيس بن جديد وحيداً وعاجزا. في الثامن من الشهر ألقى خطابا ظهر فيه شاحبا وأيضا مهزوزا ومكسور الخاطر يستجدي الجزائريين أن ليس بالتخريب والعنف نعالج مشاكلنا. أعلن الرئيس حالة الاستثناء وحظر التجوال، وأوكل للجيش إدارة الأزمة في اعتراف بأن الشرطة غير مؤهلة أو غير كافية وحدها للمهمة.
بدل أن يشكّل الزجُّ بالجيش علاجا من ذلك الفصل الصادم، كان إيذانا بفصل آخر معكَّر لأن الجيش، وبأوامر من قيادته المركزية، واجه المتظاهرين بالذخيرة الحية، فأسقط منهم قتلى وجرحى. «الجيش الوطني الشعبي»، المكوَّن من أبناء عامة الشعب أطلق الرصاص الحيّ على أبناء عامة الشعب. انكسر الحلف المقدس. عندما سئل الجنرال خالد نزار، وهو أحد قادة حملة إخماد تلك المظاهرات، عن سبب استعمال الرصاص الحي، قال باستسهال: لأن الجيش كان يفتقد للرصاص المطاطي (نزار سيكون له باع طويل في استعمال الرصاص الحي ونشر القتل خلال السنوات التي ستأتي).
دامَ الخوف والخراب والغموض والمواجهات خمسة أيام انتهت بمظاهرة كان يُفترض أن تكون رمزية وسلمية. قادها بعض رموز التيار الإسلامي بعد ظهر يوم الإثنين العاشر من الشهر، من وسط العاصمة إلى حي «باب الواد». كان هدف المظاهرة التعبير عن الغضب والاحتجاج على العنف الحكومي في إدارة الأزمة، والتعاطف مع «باب الواد» الذي ناله النصيب الأكبر من القمع حتى حوَّله إلى رمز للتمرد والتضحية. قرب مقر المديرية العامة للشرطة في المدخل الشرقي للحي، أطلق مجهولون وابلا من الرصاص على مقدمة المظاهرة، فساد إرباك وذعرٌ وجرى إطلاق نار معاكس، من رجال الأمن على ما يبدو، انتهى بمقتل عشرة أشخاص أحدهم الصحافي في وكالة الأنباء الجزائرية، سيد علي بن مشيش، الذي كان يغطي المظاهرة.
نهاية الأيام الخمسة
ظنّ الناس أن ما شاهدوه وعاشوه وسمعوه في الأيام الخمسة السابقة لا نظير له وبات وراء ظهورهم. بيد أن مظاهرة العاشر من أكتوبر أعادتهم إلى الواقع، وإلى حقيقة أن الجزائر لن تعود أبداً كما كانت.
ثم بدأ جرد الحساب ومعه لغة اللوم والاتهام وتحميل المسؤولية. مئات القتلى، ومثلهم من الجرحى. عشرات المخطوفين في أقبية أجهزة الأمن المتعددة. روايات مرعبة عن أساليب التعذيب في مقار الشرطة والجيش والدرك والمخابرات. وجدت أجهزة الدولة صعوبة في تصديق أن كل هذا السخط والعنف يصدر من هذا الشعب الوديع المستسلم. ووجد الجزائريون صعوبة في تصديق أن جيشهم وشرطتهم وأجهزتهم الأمنية الأخرى لا تجد ضيرا في قتلهم والتنكيل بهم كما فعلت في تلك الأيام المعدودات.
انتهى شوط وبدأ آخر. في الأسابيع القليلة التي أعقبت تلك الأحداث، سقطت التابوهات. أصبح في الإمكان انتقاد المسؤولين وأجهزة الدولة في وسائل الإعلام. السلطات، وفي محاولة للتكفير عمّا ارتكبت الدولة بحق الشعب، سمحت له بقول ما يشاء ووجهت وسائل الإعلام بتوسيع هامش الحرية إلى أقصى حد.
رُفع الستار عن رجال ونساء ومنظمات وأحزاب كانت في السرية.. الحركة الثقافية البربرية، حزب العمال الاشتراكي، حزب الطليعة الاشتراكية (الباكس ـ شيوعي)، رابطة الدعوة الإسلامية، سعيد سعدي، الهاشمي الشريف، حسين آيت أحمد، الشيخ أحمد سحنون، لويزة حنون، الشيخ محفوظ نحناح، الصادق هجرس، عباسي مدني، شوقي صالحي.. إلخ. كلها أسماء لشخصيات مارست العمل السياسي والنقابي في السر وواجهت قضاة محاكم أمن الدولة وذاقت ويلات السجون بعيداً عن ضجيج المجتمع.
العبور إلى ضفة جديدة
عَـبَر أكتوبر 1988 بالجزائريين من ضفة إلى أخرى مختلفة تماما. حملهم من النقيض إلى النقيض: من القمع والصمت المطلق، إلى الحرية المتنوعة حد الفلتان، والضجيج المزعج.
في الشهور اللاحقة أُعلن انتهاء حكم الحزب الواحد والنقابة الواحدة والإعلام الواحد. عاش الجزائريون، ومارسوا، حرية شبه مطلقة أنستهم قليلا قمع ما قبل أكتوبر (تشرين الأول)، وعوّضتهم شيئا من ألم الأسبوع الأول منه.
كانت تلك الحرية مثل منحنى حسابي انطلق من الأسفل، وصل إلى الذروة في 1990 ثم بدأ بالنزول ليرتطم بالقاع في يناير (كانون الثاني) 1992، تاريخ «استقالة» الشاذلي بن جديد. بدأ كل شيء مع هذا الرجل وسينتهي معه ـ برحيله عن الحكم. كان لا بد من رئيس جديد وسياق جديد للإيذان بغلق قوسين بدآ بما يشبه الخطأ، وترتّب عنهما ما تعيشه الجزائر منذئذ.
هل كان ربيعا جزائريا سابقا لأوانه؟ هل تسرع الجزائريون في الانتفاضة على واقعهم؟ هل دُبِّر أمر تلك المظاهرات بعنفها في مختبرات السلطة؟ هل كانت بريئة ثم جرى تجييرها لصالح جهة ما في من جهات الحكم الغامضة؟
بعد 29 عاما لا يملك الجزائريون أجوبة لتلك الأسئلة المؤرقة. لا يعرفون حقيقة ما حدث في تلك الأيام وكيف.
ملف آخر يضاف إلى الملفات الكثيرة العالقة في جزائر تهرب من ماضيها وتخاف حاضرها، فتفضل ترك قضاياها الحسّاسة معلقة، بلا نقاش وبلا حسم.. اللغة، الهوية، التعليم، الدين، الاقتصاد، التاريخ (قريبه وبعيده)، الاقتصاد، نظام الحكم.. إلخ.
أيًّا كانت الربوة التي نقف عليها في قراءة الأحداث، وأيًّا كانت القراءة، ومهما كان الرأي فيها، الموضوعية تتطلب الإقرار بشجاعة أولئك الفتيان الذين واجهوا بصدورهم العارية دبابات الجيش، فسقطوا قربانا لفرصة تاريخية أخفق أقرانهم في الاستفادة منها.
توفيق رباحي
في البلاد المتقدمة يكون على رأس وزارة الدفاع إمرأة مدنية تحكم سائر جنرالات الجيش !
نعم الجيش لا يعرف إلا الأوامر, ويجب أن تكون هذه الأوامر من الشعب
أما أن يقتل الجيش الشعب فتباً لهكذا جيش وضيع منحط
ولا حول ولا قوة الا بالله
@كروى : نعم فى البلاد المتقدمة المرأة مواطنة و ممكن تكون وزيرة دفاع او قائدة دولة مثل ألمانيا مثلا و فى الدول المتخلفة التى تعرفها المرأة مجرد مكمل …لا يصلح إلا للانجاب و الاهتمام بنزوات زوجها فى احسن الحالات…..تحيا تونس تحيا الجمهورية
المأساة التى مرت بها الجزائر كانت اكبر دليل على سرقة مطالب شعب بالعيش الكريم و الحرية و تحويل وجهتها لبناء دولة داعشية إرهابية….تذكروا خطابات على بالحاج و زعماء الجبهة الاسلامية قبل الانتخابات و قولوا لى هل هؤلاء الأشخاص كانوا …ينونون احترام الحرية و الديمقراطية التى استعملوها لضربها فى ما بعد و تأسيس الدولة الداعشية الإرهابية….و النتيجة نعرفها ارهاب أعمى و خراب أعمى و قتل اعمى و جرائم بشعة لم يعرف التاريخ بشاعة لها من طرف الجماعة الإسلامية المسلحة و جيش مدنى مرزاق الأذرع المسلحة لعباس مدنى و على بالحاج….حسنا فعل الجيش الجزائرى لان هؤلاء أرادوا تحويلها إلى دولة إرهابية و ليس دولة ديمقراطية ….المهم اليوم يجب العمل على تطوير عقلية الجزائريين لتأسيس دولة مدنية علمانية و ديمقراطية حقيقية تحمى الجميع …..تحيا تونس تحيا الجمهورية