أمة المستخدم النهائي

لقد قفز العرب من حافة الهاوية.. ليس مهماً على الإطلاق متى كان ذلك، مسألة تحديد التوقيت ربما تتعلق بالذائقة السياسية أو الأدبية، فربما كانت في يونيو 1967، أو في بيروت 1982 أو الكويت 1990 أو العراق 2003.
هذه الهاوية اللانهائية ما زالت تبتلع أمة بأكملها، وإن يكن تعبير «الأمة» ينطوي على كثير من المبالغة والمغالطة، ويبدو أننا وشيكون على الارتطام بالأرض، أو ارتطمنا فعلاً، هذه جزئية ليست على أي قدر من الأهمية هي الأخرى، فمن يقفزون من مكان مرتفع عادةً ما تتوقف قلوبهم في الطريق ويصلون إلى الأرض جثة هامدة.
في شارع الحبيب بورقيبة في تونس كانت جرعة من الأمل توحي بأن معجزة إلاهية في الطريق، وأن طائراً أسطورياً سيتيح مخالبه طوقاً لنجاة مئات الملايين، كما كان الرخ يحمل السندباد في رحلات ألف ليلة وليلة، وبعد أشهر قليلة بدأت القافلة في الدخول إلى دهاليز الصحراء المترامية، وأخذ الظمأ يقتل أبناءها الواحد بعد الآخر وحلقت الطيور لتتلقف من الجيف غذاءها ومؤونتها.
ثمة سؤال تجنبه كثيرون..
ما الذي صعد بالعرب إلى الهاوية أصلاً؟ هل كانت الجماهير تعتقد حقاً بالانتصارات الوهمية التي تطبل لها وسائل الإعلام، للدرجة أن أرشيف الصحف العربية في الخمسينيات والستينيات يحفل بنماذج متمادية في الاستخفاف بالعقول والتلاعب بالمشاعر، فكان من الطبيعي وقتها أن تتصدر الصحف مانشيتات عريضة قائمة على مجرد أكاذيب وتوهمات.
لم يتوقف أحد ليسأل نفسه حول مدى مصداقية هذه المنجزات، وكيف يمكن أن تكون الدول العربية الصاعدة بمشاريعها الوطنية والقومية تحقق نجاحاتها، بدون أن يلتفت لها العالم، فمثلاً لم يتمكن عالم عربي واحد من الحصول على جائزة نوبل، وبقيت الدول العربية تعتمد بصورة مكثفة على استيراد الاحتياجات الرئيسية من الغرب، بينما كانت التماثيل الضخمة والبنايات الطموحة في ارتفاعها تواري اختلالات اجتماعية كبيرة، تمثلت في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وكل هذه المشاريع كانت تمول من خلال ديون هائلة بعضها أتى في صورة مادية، وجزء منها تمثل في تنازلات موجعة، ولم تشهد أي دولة عربية نهضة حقيقية قائمة على أساس موضوعي، فالواقع أن الدول العربية بأكملها كانت مناجم أو مزارع أو آبار نفط كبيرة، وأن القيمة المضافة كانت ضئيلة، ومعظمها أتى بوصفه استعراضاً فاشلاً، فصناعة السيارات في جميع الأقطار العربية كانت مجرد تجميع لأجزاء صنعت بتقنية لا تمتلكها المؤسسات الأكاديمية أو الاقتصادية العربية، وأيضاً تجهل كيفية التعامل معها.
تعرضت عشرات الملايين للخديعة، وكانت السلطة في الدول العربية تستمد شرعيتها من افتراض (اليقظة) أو (البعث) وهي المصطلحات التي سميت بدون وجه حق، وبدون سند منطقي، بالنهضة، فجميعها افترضت أن العظمة كامنة في العرب، وكل ما في الأمر أنها غائبة أو مغيبة، وكل ما تحتاجه لتستعيد (أمجادها) هو القائد الملهم. ومنطق الاستئناف والترميم بعيد عن ضرورة البناء التي تستلزم في البداية اعترافاً واقعياً بالظروف التاريخية ووعياً بالمعادلة التي تظهر الفوارق بين الإمكانيات الذاتية والتحديات الموضوعية، التي تتمثل بصورة جوهرية في إمكانيات وقدرات الآخرين، ونزعتهم لتعظيم مكتسباتهم على حساب الأطراف الأضعف، ومشكلة الذهنية العربية أنها لم تكن فقط ضمن الأضعف، ولكنها غرقت في الضعف نتيجة توهمها للقوة فكان ذلك يفوت فرصة التعايش السلمي في ظل الممكن والمتاح، ويعطل أي محاولة لبناء (القوة)، فالحديث كان ينصرف عن استعادتها، ويكتسب صفة الوهم أو المعجزة المؤجلة.
إذا كان الحديث عن إفاقة من الغيبوبة قبل عقدين من الزمن، فالأمر أصبح غير ممكن اليوم، وبجانب الأسباب التي سردت حول تكون الذهنية العربية ونظرتها إلى نفسها وإلى العالم، يمكن إضافة أنه من الصعب على العرب اليوم أن يبحثوا عن أي دور في عالم تصعد فيه الصين والهـــند وشرق آسيا في تأثيرها الاقتصادي، والميزات التنافســـية التي توفرها وتبدأ مع العـــمالة الرخيصـــة والمرونة في القوانين والإجراءات والبنــــية التحتية الواسعة والعميقة، بينما تفتقر الدول العربية إلى هذه القدرة، وليس من المتوقع أن تستقطب الاستثمارات الصناعية، ويبدو أن فرصة دخول عالم الصناعة التي بدأت بصورة عشوائية وارتجالية في الخمسينيات والستينيات أصبحت اليوم مستبعدة أصلاً، كما أن الزراعة تراجعت مع أزمات المياه في المنطقة العربية والتصحر المتسع والمتصاعد، وتبدو القطاعات الخدمية والنقل والسياحة ملاذات معقولة، ولكن مشكلتها تصطدم أصلاً بوجود عملــــية الانتحار الذاتي الذي يمارس في الدول العربية عن طريق الإرهاب بمختلف أشكاله، وحتى لو توفرت الدول العربية على فرصة للاستقرار فإن ذلك سيجعل مساهمتها محدودة، تكفي ربما للبقاء عن المعدلات الخاصة بالدول المتوسطة الدخل، والشريحة الدنيا منها تحديداً.
كان من الممكن قبل عقدين من الزمن أن تتوجه أموال التسلح إلى التنمية، واليوم تلتهم المديونية العالية الدول العربية، والفقر الإنتاجي يمتد من الصناعة إلى الزراعة وصولاً إلى المعرفة. فوجود العرب ضمن منظومات تتحدث عن عالم الاتصال والمعلومات هو وجود الضيوف، أو ما يسمى بوجود المستخدم النهائي، المبرمج والمهندس اللذين يتعاملان مع المخرجات التي يقدمها (العالم) بجميع تنويعاته، سواء كان رياضياً أو فيزيائياً أو كيميائياً، وبعض محاولات تصنيع الإلكترونيات فشلت بصورة ذريعة مثل، صناعة السيارات قبل عقود من الزمن، لأنها لم تكن سوى عملية تجميع للاستفادة من مزايا جمركية وتجارية في تقديم المنتجات للمستهلكين بالدول العربية، الذين يتوقع أن تتراجع بالطبع قدراتهم على الاستهلاك مع التراجع الاقتصادي العام.
قبل فترة وجيزة توجه خبراء صندوق النقد الدولي للحكومة الأردنية بالنقد أو التهديد المبطن حول «رفاهية غير منطقـــية في الأردن» ويقصدون بالطبع الدعم وكثافة الاســـتهلاك للسيارات وغيرها، ومع أنهم تجاهلوا عدم وجــــود عناصر أساسية للبنية التحتــــية، خاصة شبكة المواصـــلات، إلا أن ذلك ليس مجال عملهم في النهاية، وهم يريدون قدرة أكبر على تأمين ديونهم، ولكن ما النموذج الذي يريده الصندوق للأردن، هل يعتقدون أن دولة بإمكانيات الأردن لا يمكن أن تطمح لمستويات معيشية تفوق المتوفرة في شرق آسيا أو افريقيا، هل مصر اليوم في طريقها نحو النموذج البنغالي، من حيث مستوى المعيشة للمواطنين، هل تتحول حتى بعض دول الخليج الثرية إلى مستوى المعيشة في ايران أو جمهوريات وسط آسيا.
العالم يحفل بتغيرات كثيرة، والسؤال الذي يتبادر للذهن هل تساقطت هياكل الدول العربية، لأنها كانت شديدة الهشاشة نتيجة تحميلها بطموحات غير واقعية أو عقلانية على امتداد عقود؟ وإذا كانت اليوم تستقر في القاع، فما هي إمكانية تحقيق النهضة مع التغيرات الجذرية في الواقع العالمي في غير صالح الدول العربية؟ وهل يوجد ما يشير اليوم إلى أن أياً من الدول العربية بدأت تستوعب ضرورة البحث عن نموذج جديد، أم أن الواقع الراهن ما هو إلا تعبير عن خيار ضروري ومؤسف بين الخبز والديمقراطية؟

٭ كاتب أردني

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    الدول غنية و قوية بمواردها البشرية و التعليم احد مكونات الموارد البشرية . و للاسف فان التعليم (بما يخص اكثر من 90% من العرب) ضعيف كما و نوعا.
    و لا يمكن للتعليم ان يتطور الا بعاملين اساسين هما ضمان الحريات و الثاني الاولوية.
    حسب المعطيات الحالية و المنظور انها في تدهور فالمستقبل كارثي

إشترك في قائمتنا البريدية