شكا سيرغي لافروف أمريكا إلى العالم. قال ما معناه إن روسيا كانت اتفقت معها على فصل التنظيمات السورية «المعتدلة»، التي تقاتل الجيش السوري عن تنظيميّ «داعش» و»جبهة النصرة» الإرهابيين، بغية تركيز الجهود عليهما لدحرهما.
أمريكا اخلّت بالاتفاق، غضّت النظر عن قيام «جبهة النصرة» باجتذاب التنظيمات «المعتدلة» إلى صفها ونظّمت حشداً لافتاً لمحاولة انتزاع مدينة حلب عسكرياً، وإلحاق إهانة ميدانية بالجيش السوري وبالناس، عذابات لا توصف. من حق لافروف أن يحمّل أمريكا مسؤولية الإخلال بالاتفاق. صحيح أن تركيا هي مَن يسلّح «جبهة النصرة» ويوجّه تحركاتها الميدانية، لكن أنقرة عضو فاعل في حلف الأطلسي (الناتو) وما كانت لتفعل ما فعلت وتفعله من دون علم واشنطن، وربما بموافقتها أيضاً، لماذا؟ الأصحّ القول إن واشنطن تغضّ النظر عما تفعله تركيا (وغيرها من حلفاء أمريكا الإقليميين) لأنها أضحت غير قادرة، أو أقلّه غير راغبة ، في منع حلفائها من القيام بما يخدم مصالحهم الذاتية بالدرجة الأولى.
هذا لا يبرئ ذمة واشنطن مما يقترفه حلفاؤها من أخطاء وخطايا، ذلك أن في مقدورها، لو أرادت، أن تلجم هؤلاء فلا يتجرأون ولا يتمادون، لكنها لم تفعل لسببين: الاول، لأن مصالحها، كما أمنها القومي، ما عادا مهددين بعدما استغنت عن نفط الشرق الأوسط بما توفَّر لها منه محلياً بكميات ضخمة. الثاني، لأن دولاً إقليمية ثلاثاً، إيران وتركيا وإسرائيل، أصبحت لديها من القدرات الاقتصادية والعسكرية من جهة ومن المصالح والأغراض من جهة اخرى ما يمكّنها من السعي لتأكيدها، بمعزل عن أمريكا. ثمة حقيقة ساطعة لا تستطيع أمريكا نكرانها، وإن كانت تجتهد لاحتوائها، وهي فقدانها دور المهيمن على علاقات القوى في المنطقة وتراجعها إلى دور الناظم والمنظِّم لها. لم يعد في مقدورها السيطرة والإملاء كما في الماضي، بل مجرد التنسيق والتوجيه والإرشاد، حتى دور الناظم والمنظِّم هذا لا تسري مفاعيله على إيران بالمطلق ولا حتى على إسرائيل في أكثر الأحيان. ما مفاعيل هذه الحال الامريكية والإقليمية؟ ثمة خمسة منها بارزة:
أولاها، إطالة أمد الصراعات الإقليمية وانعكاساتها على الصراعات الدولية، ذلك يزجّ عالم العرب والمسلمين في حال مخاضٍ سياسي واجتماعي طويل يصعب التكهن بما سينتهي إليه.
ثانيها، إتاحة المجال لروسيا للمشاركة في صراعات المنطقة لخدمة مصالحها في وجه الولايات المتحدة، كما في وجه دول الاتحاد الاوروبي. ذلك يؤدي إلى إعادة تأجيج الحرب الباردة من خلال حروب بالوكالة يشنّها اللاعبون الكبار مستخدمين بنجاح اللاعبين الصغار. ما يجري في سوريا والعراق واليمن وليبيا أمثلةٌ حيّة على حروب بالوكالة شنتها الولايات المتحدة مع بعض حلفائها الإقليميين، وأحسنت روسيا اغتنامها لخدمة مصالحها، ودعم حلفائها الإقليميين أيضاً، ذلك قد يؤدي إلى تدمير اليمن وسوريا والعراق وليبيا بقصد أن يرث خصوم الغرب الأطلسي في المنطقة اشلاء دول مفككة ومدمرة ومنهارة.
ثالثها، ممارسة الولايات المتحدة دورها كناظم ومنظِّم لعلاقات القوى في المنطقة من اجل إعادة رسم الخريطة السياسية لسايكس – بيكو عشيّة مئويته وغداتها، على نحوٍ يساعد شريكها الإستراتيجي الأول اسرائيل على إحاطة كيانها بطوق من جمهوريات الموز، القائمة على اساس قَبَلي او مذهبي او إثني، وعاجزة، تالياً، عن الاتحاد لمواجهتها. في هذا السياق، قد يظهر كيان اضافي للكرد في شمال شرق سوريا يُراد له أن يبقى تحت هيمنة تركيا إلى جانب كيان كردستان العراق، المراد له أن يبقى تحت هيمنة امريكا. أليس نشر قوة خاصة امريكية اخيراً في محافظة الحسكة السورية وقبلها قوة مماثلة في محافظة الأنبار العراقية دليلاً ناطقاً في هذا الاتجا ؟
رابعها، صعود قوى المقاومة العربية في المشرق كما في المغرب بدعم من ايران ما يؤدي إلى ازدياد فعالية محور الممانعة، وتوسيع دوائر نفوذه، وتعزيز دور القوى المنظَّمة، ولاسيما الجيوش، في الحياة العربية، وتنمية ثقافة مغايرة، عروبية – إسلامية، منفتحة ومناهضة للإسلام السلفي التكفيري، وانتعاش ثقافة مقاومة الصهيونية وكيانها العنصري، وعودة مصر تدريجياً إلى الاضطلاع بدور فاعل مشرقي وإقليمي.
خامسها، إنتقال العالم من نظام عالمي (وثقافة) تلعب الدولة، ولاسيما الدول الكبرى، دوراً رئيساً فيه إلى نظام آخر متعدد الأقطاب والولاءات بثــــقافات متعــددة يلعب فيه الأفراد والجماعات والكيانات غير الدولتية ادواراً متزايدة التأثير، وذلك بفضل ثورة المعلوماتية والتقدم الخيالي لتكنولوجيا الاتصال والتواصل والأنشطة الافتراضية Virtual.
ليست المفاعيل والظاهرات سابقة الذكر واجبة التحقق بالضرورة، بالعكس إنها مجرد احتمالات تحتمل التحقق بصيغ مختلفة، وقد لا تتحقق البتة، ذلك أن عالمنا في حاضره كما في قابل أيامه يتسم بظاهرة فريدة غير مسبوقة عنوانها استقواء الإنسان ـ الفرد وتعاظم فعاليته بفضل الثورة المعرفية وتكنولوجيا الاتصال والتواصل ودورها في تفجير قدرات الفرد الكامنة وتظهيرها وتمكينه، تالياً ، من التصرف بها على نحوٍ لا يمكن التحوّط له مسبقاً. ما نحن فيه ومقبلون على اختبار المزيد منه هو عالم جديد طريف يضجّ بأفكار وثقافات ومصالح وتوجهات وإرادات مليونية يصعب حصرها وضبطها وتقنينها واحتكار استخدامها والإفادة منها. ماذا سيبقى لنا في معمعة هذا المعترك الحياتي المتأجج؟ إنه مجرد التمنيّ (ممن؟) بأن تكون لنا الحرية والحكمة في الاختبار والاختيار والقرار والتصرف، على نحوٍ يحقق المنفعة والبهجة والرحمة ويُبعد النقمة والانتقام.
٭ كاتب لبناني
د. عصام نعمان