من المؤكد أن أمريكا ترامب تفتعل أزمة سياسية مع تركيا، ولكن السؤال الأهم هو لماذا؟ فقضية القس الأمريكي أندرو برانسون قضية قضائية بيد المحاكم التركية، وأمريكا تعلم أنها ليست قضية سياسية، فليس لدى الحكومة التركية مصلحة بافتعال أزمة سياسية مع أمريكا، ويكفيها ما لديها من مشاكلها مع الإدارة الأمريكية حول سوريا والأحزاب الكردية الإرهابية والعلاقات التركية الروسية والإيرانية وغيرها. ولدى أمريكا نفسها سابقة كبرى مع تركيا في الموضوع نفسه والحجج نفسها، فالأدلة التركية القضائية كثيرة جداً على زعيم التنظيم الموازي فتح الله غولن في الانقلاب الأخير 15 تموز/يوليو 2016، وقد طالبت تركيا أمريكا بتسليمه مراراً، حيث يقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، ولكن أمريكا تقول إن المسألة بيد القضاء الأمريكي، بالرغم من تقديم وزارة العدل التركية منذ سنتين لأكثر من مئة ألف وثيقة قانونية تدين غولن بالانقلاب السابق وأعمال إرهابية ومخالفة للقانون، فلماذا على تركيا أن تقبل الحجج الأمريكية بشأن غولن، بينما لا تلزم أمريكا نفسها بالحجج ذاتها بحق القس برانسون؟
إن الحجج التي تقدمها أمريكا تقوم على اتهام تركيا بأنها تحاكم القس برانسون ظلما وانه بريء وتطالب بالإفراج عنه بدون محاكمة، بل وتطالب كما صرحت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية هيذر ناورت رفع الإقامة الجبرية عن أندرو برانسون واعادته إلى منزله، وهذا موقف غريب وغير مقبول بالقانون التركي ولا الدولي، فإذا كان بريئا كما تقول متحدثة الخارجية الأمريكية، فلا بد أن يثبت ذلك بقرار قضائي وليس بقرار سياسي، إلا إذا كانت أمريكا لا تعترف بالقانون ولا بالمحاكم في تركيا.
ومن المصادفة أن يصدر الرئيس الأمريكي ترامب قراراً مشابها لوزير العدل الأمريكي بضرورة وقف التحقيق بقضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، فهذا القرار من ترامب ليس قرارا سياسيا حكيما أولاً، ويعتبر تدخلا مرفوضا من رئيس دولة لوزير العدل في حكومته، ويكشف عن طبيعة عقلية ترامب القانونية، التي لا تعترف بالقانون ولا بالقضاء، مما اضطر المتحدثة باسم البيت الأبيض أن تخفف من وطأة هذا التصريح الفج قائلة: «إن دعوة الرئيس دونالد ترامب لإنهاء تحقيقات وزارة العدل الأمريكية بشأن التدخل الروسي في الانتخابات لم يكن أمرًا وإنما كان رأيًا فقط». وقد جاء ذلك في المؤتمر الصحافي اليومي للمتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة ساندرز، يوم الأربعاء الأول من أغسطس/آب الجاري، أي بالتزامن مع افتعال الأزمة السياسية مع تركيا، وهذا يكشف عن شخصية ترامب المضطربة في قراراتها داخل أمريكا وخارجها، بدليل تأكيد ساندرز الحرج من القرار بالتدخل في الشؤون القضائية بطريقة خاطئة، فقالت:» إن ما قاله الرئيس كان رأيًا وليس أمرًا لوزير العدل جيف سيشنز لوضع حد للتحقيقات، وأن الرئيس يريد أن ينتهي هذا التحقيق في أسرع وقت ممكن، ونحن نتطلع لذلك .»واضطرت ساندرز إلى نفي أن يكون الرئيس الأمريكي ترامب يعرقل العدالة، وقالت في هذا السياق «لا توجد أية عرقلة، والرئيس يعرف كيف تسير الأمور، لكنه عبر عن رأيه»، بينما هو تدخل صارخ بمجرى تحقيق يأخذ اهتماماً عالمياً.
هذا يعني أن أمريكا والعالم أمام رئيس أمريكي يرى نفسه فوق القانون وفوق العدالة، وهذا ما يفسر مخالفته للقانون الدولي في العديد من القضايا الدولية، ومنها قضية القدس، حيث إن إسرائيل والفلسطينيين قد اتفقوا منذ توقيع اسلو 1993 بأنها قضية تفاوضية، تحل وفق القرارات الدولية ذات الشأن والمفاوضات بينهما، وليس بقرار أمريكي، وكذلك انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران بعد توقيعه من قبل أمريكا ومصادقة الكونغرس الأمريكي عليه. وليس بعيدا عن ذلك اختلافه مع ألمانيا ومهاجمته لسياستها واتهامها بخدمة روسيا، وتضخيم أزمته مع كوريا الشمالية ثم إجراء قمة مثيرة بينهما. وقد ظهر في الأيام الأخيرة أن ترامب يسعى ويخطط إلى إجراء قمة مثيرة أخرى مع الرئيس الإيراني روحاني، وقد جاءت تصريحات إيرانية مقربة من روحاني بأنه رفض ثمانية طلبات من ترامب للقاء به. ولعل آخر تلك الأزمات ما أظهره ترامب من ضعف أمام الرئيس الروسي بوتين في قمة هلسنكي الشهر الماضي، والتي فجرت انتقادات حادة من قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس الأمريكي وخارجه، فهذه المواقف تؤكد أن الشعب الأمريكي والعالم أمام شخصية متغطرسة وتميل إلى الدكتاتورية، أو أنها تحب الإثارة ولفت الأنظار إليها كثيراً، أو أن ترامب يسعى لإقامة إمبراطورية أمريكية في عهده، وقد يسعى لتغيير الدستور الأمريكي لاعتباره رئيسا أبدياً وخالداً للشعب الأمريكي، أو لتوريث ابنه أو ابنته من بعده، فهذه العقلية فريدة بين الزعماء الأمريكيين عبر التاريخ، فهو يؤمن بقدراته المالية أكثر من إيمانه بقدراته السياسية والعقلية ولا يحترم أحدا في العالم.
إن تنفيذ أمريكا تهديداتها بفرض عقوبات على وزيرين تركيين هما وزير الداخلية ووزير العدل يوم الأول من أغسطس/آب الجاري يشير إلى رغبة أمريكية بافتعال هذه الأزمة أولاً، وإن السبب الأول في هذا الافتعال هو عقلية الرئيس الأمريكي نفسه، والدائرة الأمنية اليمينية المحيطة به، والتي وصفهم الرئيس التركي أردوغان بأصحاب العقلية الانجيلية الصهيونية، فحملة هذه العقلية هم من يفتعلون هذه الأزمات الدولية، بل إن الأزمات التي يفتعلونها داخل أمريكا هي ذات صلة بالأزمات الخارجية أيضاً، مثل قضايا الهجرة إلى أمريكا، وقضايا تغيير قوانين دخول مواطنين من عدد من الدول إلى أمريكا، وهي الدول التي تتصنع أمريكا الصراع معها، وقد حاولت أمريكا قبل أشهر وضع قوانين مشددة على دخول الأتراك إليها، واضطرت أمريكا للتراجع عنه بعد فرض تركيا قرارا مشابها على دخول المواطنين الأمريكيين إلى تركيا.
إن من الغرابة أن تفرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوباتها على وزيرين تركيين هما وزير العدل عبد الحميد غول، ووزير الداخلية سليمان صويلو، ثم يصرح وزير الخارجية الأمريكي بومبيو أنه اتصل مع وزير الخارجية التركي جاويش اغلو للقاء به خلال الأسبوع الحالي، وكأن بومبيو يريد أن يوصل إلى تركيا رسالة أمريكية حول المطالب الأمريكية الحقيقية لتحسين العلاقات الأمريكية التركية، وفي مقدمتها عدم موافقة أمريكا على ابتعاد تركيا عن التحالف مع أمريكا، وليس هذا فحسب بل اشتراط أمريكا أن تكون هذه العلاقات خاضعة للإرادة الأمريكية وقراراتها، وبالأخص في العلاقات التركية الروسية أولاً، وفي العلاقات التركية الإيرانية ثانياً، وفي العلاقات التركية الأوروبية ثالثاً، وفي العلاقات التركية الصينية رابعاً، وفي العلاقات التركية الإسرائيلية خامساً، وهكذا، فأمريكا تريد أن تكون الحكومة التركية السياسية تحت الأوامر الأمريكية فقط، كما تريد إخراج الجيش التركي من قيادة الرئاسة التركية حسب التعديلات الدستورية الأخيرة التي أتت بالنظام السياسي الرئاسي التركي الجديد، وليس من المصادفة أن يكون قائد الجيش الأمريكي في أوروبا ضيفاً في أنقرة في يوم الأزمة نفسها مع الحكومة السياسية التركية، وكأنه يريد تحييد المؤسسة العسكرية عن هذا التصعيد مع الحكومة التركية.
إن المواقف العدائية الأمريكية نحو تركيا لا أمل لها بالنجاح، مثل قضية التأشيرات السابقة، والتي سقطت خلال أيام، فالعقوبات ليست بسبب القس الأمريكي إطلاقاً، وإنما بهدف تغيير مسار السياسة التركية التي تنـزع نحو الاستقلال عن السياسة الأمريكية. وقد جاءت سياسة العقوبات الأمريكية بعد ان تأكدت أمريكا من عجزها عن اللعب التآمري داخل الأراضي التركية عسكريا واقتصاديا وسياسيا، فقد أملت أمريكا وبعض الدول الأوروبية أن تأتي الانتخابات الأخيرة برئاسة وحكومة تركية غير حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان، ولكن إرادة الشعب التركي ذهبت في غير ما تشتهي السفن الأمريكية والأوروبية، وبالأخص بالنسبة للعقوبات الأمريكية نحو إيران، فالإدارة الأمريكية تريد من تركيا أن تقف إلى جانب العقوبات الأمريكية نحو إيران، بينما كانت الحكومة التركية اول من أعلن رفضها الالتزام بهذه العقوبات المضرة بالاقتصاد التركي، وقد تبع ذلك مواقف مشابهة من عدد من الدول الأوروبية وغيرها، وهذا تحد لإرادة ترامب الذي يخطط لإقامة إمبراطورية أمريكية ترامبية تطاع ولا تعصى.
من المرجح أن لا تذهب السياسة التركية مع هذا التصعيد الذي يخطط له ترامب وفريقه الأمني، بل قد تعمل على تنفيس هذا التصعيد، فترامب ظاهرة أو أزمة أمريكية بحد ذاته، ولا بد أنه ذاهب ومعه أخطاؤه. وقد كان من رأي وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين اولبرات أنه يجب تغييره قبل فوات الأوان، وهذه مسؤولية الشعب الأمريكي، وأمريكا لم تخرج من أزمات حروبها المدمرة لاقتصادها منذ عام 2001 على أفغانستان والعراق 2003 وغيرها، دون أن تغير شيئاً في أوضاع أفغانستان والعراق وغيرهما إلا الدمار والفساد والظلم، فأمريكا تمارس سياسة فاشلة من بداية هذا القرن، ومن الحكمة عدم مشاركتها في أخطائها أولاً، ولا مصادمتها أيضاً ثانياً. إن مصلحة الشعب التركي ليست في معاندة شخصية متغطرسة، وإنما مواصلة مطالبتها بالتراجع عن أخطائها، وسحب الذرائع الكاذبة من بين يديها، فالتسريع بإصدار حكم قضائي ينهي هذه القضية هو من مصلحة الشعب التركي أولاً، ويفرغ المكائد الخارجية من تحقيق أهدافها أيضا.
كاتب تركي
محمد زاهد جول
فالتسريع بإصدار حكم قضائي ينهي هذه القضية هو من مصلحة الشعب التركي أولاً، ويفرغ المكائد الخارجية من تحقيق أهدافها أيضا.نعم يجب الافراج عن القس بقرار قضائي لتفادي تهور ترامب ولكن كان يجب ان يحدث قبل الان