أمريكا والنقصان التاريخي

حجم الخط
1

■ كان السناتور كليمنتا بينكني أحد ضحايا المجزرة الإرهابية التي ارتكبها ديلان روف، قبل أيام، في مدينة شارلستون، ولاية كارولاينا الجنوبية؛ حين قتل الإرهابي تسعة مصلّين، داخل الكنيسة الأشهر على امتداد التاريخ الأفرو ـ أمريكي، لأنها كانت مهد ثورة العبيد، سنة 1822. وفي مستوى أوّل، كانت المجزرة أحدث الوقائع في تاريخ طويل من العنصرية الأمريكية البيضاء؛ وكانت، في مستوى ثانٍ، تذكرة بالبون الشاسع، الأخلاقي والشعوري والتربوي، الذي ما يزال يفصل بين شمال أمريكا وجنوبها؛ ولكنها، في مستوى ثالث، برهان جديد على ثقافة العنف التي لم تكفّ عن التأصّل في الحياة اليومية الأمريكية. (كانت الهدية التي تلقاها القاتل من والديه، في عيد ميلاده: بندقية!).
البروفيسور هنري لويس غيتس ـ أحد أبرز الأكاديميين الأمريكيين، إذا لم يكن الأبرز اليوم، في ميدان النقد الثقافي الأمريكي، وعلاقات البيض والسود، والناقد، والمنظّر الأدبي اللامع، رئيس «مركز البحث الأفريقي والأفرو ـ أمريكي» في جامعة هارفارد العريقة ـ كتب مقالة، في «نيويورك تايمز»، يرثي فيها السناتور الضحية: «شهيد أسود آخر، ضمن خطّ يمتدّ في الزمان إلى أكثر من 800 رحلة استعباد أرست قلوعها في مرفأ شارلستون (…) كان السيد بنكني على وعي عميق بما يحمل داخل نفسه من تاريخ، تاريخ يخصّ الشجاع مثل الذبيح، والمنتصر مثل المروَّع»؛ كتب غيتس، دون أن تفوته ضرورة الإشارة إلى «العمل الناقص»، الذي تحدّث عنه ابراهام لنكولن في خطبة غتسبورغ الشهيرة، خريف 1863، خلال الحرب الأهلية الأمريكية.
المفارقة أن غيتس نفسه، الشخصية المرموقة في الدراسات الأفرو ـ أمريكية، كان قد تذوّق طعم التمييز العنصري في واحد من أبشع مظاهره، أي التصنيف العرقي، ليس لأيّ «ذنب» آخر سوى أنه أسود البشرة؛ وذلك في تموز (يوليو) 2009، مطالع الولاية الأولى لأوّل رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة. هل هذه، حقاً، أمريكا ما بعد أوباما؟ هكذا كادت أن تصرخ الصورة الفوتوغرافية المفزعة التي التقطها أحد جيران غيتس، وتناقلتها وكالات الأنباء والفضائيات ومواقع الإنترنت داخل الولايات المتحدة وخارجها: البروفيسور أمام باب منزله في كيمبرج، ماساشوستس، محاطاً بعناصر الشرطة، مقيّداً بالأصفاد، وكأنه مجرم خطير يقع أخيراً في قبضة العدالة، بعد مطاردة محمومة!
الحكاية بدأت حين عاد غيتس من رحلة إلى الصين، استكمل خلالها تصوير بعض مشاهد شريط وثائقي جديد في سلسلة يعدّها لفضائية PBS، حول جذور أمريكا الثقافية والإثنية، بوصفها أمّة هجرات بامتياز. وقد حاول فتح باب بيته، لكن القفل استعصى عليه، فدخل من الباب الخلفي وحاول فتح الباب من الداخل بمساعدة سائقه الشخصي، الأسود بدوره. في هذه الأثناء كانت سيّدة (بيضاء، للإيضاح الضروري) تراقب ما يجري، فارتابت في أنّ المشهد عملية سطو، فاتصلت بالشرطة، التي حضرت على الفور. الشرطي، الرقيب جيمس كراولي، سأل غيتس: هل تستطيع تبرير وجودك في هذا البيت؟ فاستجاب البروفيسور وأبرز بطاقة عمله في الجامعة ورخصة قيادة السيارة، وكلاهما تحمل صورته الشخصية وعنوان إقامته في هذا البيت.
في المقابل، طلب غيتس من كراولي أن يعلن عن اسمه ويبرز شارته المهنية، لكنّ الأخير لم يردّ عليه، وكان طبيعياً أن تصدر عن البروفيسور ردّة فعل غاضبة، فيقول: هل ترفض هذا لأنني أسود؟ تتمة الحكاية أنّ غيتس وقع في خطأ مغادرة الدار، ففوجئ بالشرطي يقيّده بالأصفاد ويقول: أنت قيد التوقيف، بتهمة السلوك غير اللائق! بعد أربع ساعات في المخفر، وبعد أن تمّت كامل إجراءات أخذ بصمات البروفيسور وتصويره (الفيش والتشبيه، في العبارة الشائعة)، كان أصدقاء البروفيسور من الأكاديميين وكبار المحامين قد وصلوا، وأخذت الحكاية تنتشر في الفضائيات، فأسقطت الشرطة التهمة عن غيتس، وتمّ إخلاء سبيله.
وبالنظر إلى شهرة غيتس، ولكن أيضاً في ضوء مناخات ما بعد انتخاب أوّل رئيس أمريكي أسود، اتخذت الواقعة بُعداً واسعاً صبّ مباشرة في النقاش العتيق، المتجدد أبداً، حول مسائل التصنيف العرقي. والتتمة أنّ البروفيسور، الذي أعلن أنه ذرف الدموع لحظة انتخاب أوباما، طالب الرقيب بتقديم اعتذار؛ أمّا الأخير، الذي تفاخر أمام العدسات بأنه لم ينتخب أوباما، فقد أعلن أنه لن يقدّم أيّ اعتذار، لأنه لم يرتكب أيّ خطأ! واليوم يواصل غيتس ذرف الدموع، على السناتور القتيل هذه المرّة؛ وفي المقابل، لا يتوفر حتى الساعة أيّ تعليق من كراولي على مجزرة شارلستون!

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فاروق قنديل . النمسا:

    كتاباتك -دائماً- متميزة وممتازة .
    شكراً استاذ صبحي

إشترك في قائمتنا البريدية