أنانية

رجل لا أعرفه شخصياً ولا يعرفني، إلا ان وفاة الممثل روبن ويليامز تركت أثراً كبيراً من الحزن والسخط في نفسي. كل الموت رديء، كله انهزام، ليس هناك خروج مشرف من هذه الدنيا إلا في ما ندر. كون غريب و «سيستم» ساخر، يأتي بنا من الفناء ويبعثنا باستهزاء اليه. كل الموت هزيمة، هزيمة أمام مرض، أمام شيخوخة، أمام حزن، أمام فقر. قلة منا هم من يتركون العالم منتصرين، من يتحدون الظلم والعذاب بأجسادهم، من يشترون المبدأ بحيواتهم، هؤلاء، يصبح لموتهم معنى، هذا الموت الباهت الصامت الذي يجب كل معنى ويتحدى كل منطق.
لا أدري لم أفكر تحديداً بعد سماع خبر موت روبن براشيل كوري التي وقفت أمام الدبابة الإسرائيلية تتحداها في 2012، فقفزت إلى الموت وهي في ريعان شبابها. لربما كل الموت اليوم في وعينا العربي يتطلع إلى فلسطين، إلى غزة، كل الفقد يرتبط بها، لذا تحضرني راشيل، لذا أتطلع إلى خروجها المشرف إلى الفناء فأقارنه بخروج روبن الحزين. أبطال كثر بعيدون عن بقعة الموت الشرق أوسطية، مصالحهم لا تتقاطع ومصالحها، الا أنهم يغامرون بحيواتهم ومصالحهم اليوم من أجلها. لا أدري، لربما يتطلعون إلى إرث انساني مشرف، لربما يحضرون لموت منتصر، وأنقل هنا بعض المعلومات من مقال لي نشر قبل أيام في جريدة الجريدة الكويتية، فها هو كاتب العمود الاسترالي مايك كارلتون يضحي بمكانه في جريدة Sydney Morning Herald بسبب موقفه الواضح من غزة، ها هو الإعلامي الشهير بيرس مورغان يغامر بموقعه الإعلامي ويوجه رسالة مباشرة عبر تويتر لنتنياهو يحمله مسؤولية المجازر البشعة في غزة ، ها هو جيريمي بوين مراسل البي بي سي في غزة يفقد موقعه على اثر ذكره في أحد التقارير أنه لم ير دليلاً على استخدام حماس للمدنيين كدروع بشرية، وها هو ماكس كيرز مقدم برامج شهير في ذات القناة يستغني عن موقعه بسبب منعه من تداول الموضوع. ها هم ممثلون وفنانون، أمثال ريهانا، جوناثان ديم، سيلينا غوميز، بينيليبي كروز، خافيير باردم، يتعرضون لاضطهاد ولاحتماليات خسارة فادحة بسبب تصريحاتهم ضد جرائم إسرائيل. كل هؤلاء يضحون بمصالحهم بل وأحياناً بحيواتهم من أجل قضية إنسانية عادلة لا تخصهم، يصرخون ويعترضون ويقاومون ويتحدون فيما أصحاب القضية صم بكم لا يفقهون. يفعلون لأن الحياة قصيرة ولأن الحياة سخيفة ولأن الجهد المبذول في هذه الدنيا لا يجب أن يكون من أجل مصلحة أو مال أو قوة، بل الجهد المبذول لأي انتصار حقيقي يجب أن يكون من أجل معنى، من أجل مغزى، وإن كانا قصيري المدى، الجهد المبذول يجب أن يوجه للتخفيف من سخف الحياة ولا منطقيتها، وأي جهد آخر في أي اتجاه آخر هو كما الحياة، من وإلى العدم.
لم يكن لروبن ويليامز أن ينتهي بهزيمة شنعاء كهذه. لم يكن هو الرجل الذي يقبل نهاية عادية دع عنك هزيمة متعمدة، وكأنه لاعب محترف يتعمد خسارة مدوية، واضعاً الكرة بركلة من قدمه شخصياً في هدف خصمه. روبن كان إنساناً استثنائياً، لم يكتف بتواصله مع الجمعيات الخيرية والمؤسسات الإنسانية والمستشفيات والحملات لمقاومة الأمراض المختلفة، بل كان سياسياً جاداً بارعاً، لا ينسى له الشعب الأمريكي وقوفه في 1990 في الكونغرس متحدثاً عن التشرد في أمريكا والحلول العملية المطلوبة. كان روبن يلاحق قضاياه بالابتسامة، يساعد الناس بالنكتة الطريفة، حتى أنه كان السبب المباشر، حسب ما صرح كريستوفر رييف، الممثل الشهير الذي مثل دور سوبرمان والذي أصيب بالشلل الكامل إلى العنق جراء سقطته من حصانه، في تمسك الأخير بالحياة. ساعد روبن كريستوفر على أن يجد أملاً وعلى أن يجدد آمال غيره بما يملك من شهرة ومال، حتى أن كريستوفر انتهى لأن كرس حياته والكثير من أمواله لمساعدة أصحاب ذات المصاب الأليم ولدعم الأبحاث الموجهة لإصابات الجهاز العصبي. وجد كريستوفر معنى لحياته في هذه القضية، أو أنها «هي التي وجدتني»* كما يقول، أما روبن فقد ضل طريقه إلى معنى حقيقي واستسلم ليأس العدمية الساحق لهذه الحياة. كريستوفر خرج منتصراً لأنه أصر أن يخلق معنى، وروبن خرج مهزوماً لأنه استسلم لغياب المعنى، ومعه سرق كل الفرص القادمة لمن هم أقل منه حظاً ممن كان يمكن أن يحصلوا عن طريق شهرته وكوميديته وقدراته على فرصة للاستمرار في الحياة. يستسلم روبن للاكتئاب ويغادر مسجلاً هدفا في مرمى الموت، مؤكداً على خلو الحياة من المعنى والمغزى، خانقاً معه آمال الكثيرين من الذين كانوا يرون في مرحه دافعاً وفي عمله الخيري مغزى يدفع به للحياة، فإذا كان هذا الرجل المرح الخارق قد رفع الراية البيضاء، وكأني أرى البعض المهموم يفكر، فما بالنا نحن بهمومنا وصعوبات حياتنا نتشبث بهذه الحياة؟ أتعاطف مع هذا اليأس الذي يدفع بالإنسان أن يسلب نفسه وقته القصير جداً على الأرض ولكنني أحنق في ذات الوقت على هذا الاستخفاف بالوجود في وقت ينهار فيه الموت على آخرين بلا اختيار، أما كنت لتبادل حياتك يا روبن مع طفل في غزة يريد أن يعيش؟
*من موقع مؤسسة كريستوفر ودانا رييف
http://www.christopherreeve.org/site/c.ddJFKRNoFiG/b.4431493/k.7265/The_History_of_the_Reeve_Foundation.htm

د. ابتهال الخطيب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    الموت حق علينا
    والانسان الذكي هو من يترك خلفه ذكرى طيبة بالدنيا والآخره

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول salem Ateek:

    كل الذين إستطاعوا أو يستطيعوا التغلب الى أناهم في هذه الحياة، تركوا ويتركوا هذا العالم منتصرين، فليس هناك أنتصاراً أكبر وأعظم وأسمى من الإنتصار على أطماع الذات. بالمناسبة، الغالبية العظمى من هؤلاء المنتصرين أناس ناكرة لذواتها لم تطالها أشراك الشهرة، وودعوا أو لا زالوا يعيشون في هذه الدنيا بتواضع وبساطة وإهتمام ليس بأنفسهم، فطموح هؤلاء المنتصرون معقول حد القناعة، وهذه كما يقول المثل الحكمة كنز لا يُفنى، وإنما همهم أحوال الآخرين، خاصة المحتاجون منهم، وفي الحقيقة لا نذيع سراً إذا قُلنا بأن الكُل مُحتاج بشكل وآخر.

  3. يقول احمد - بريطانيا:

    شكرًا على هذا المقال الجميل … ماذا فعل عادل امام ودريد لحام و غيرهم من تجار الكوميديا و اصحاب المواقف السلبية اتجاه الشعوب … هل وقفوا مع الشعوب في المظاهرات و الشوارع ضد الظلم و نصرة للمظلوم كما فعل روبن ولياوز في الكونجرس الامريكي …

  4. يقول mohsen sulieman:

    شكرا لك يا دكتورة على هذا المقال ، فالموت نهزمه بما نترك من بصمات ورائنا كما قال الشاعر محمود درويش هزمتنك يا موت الفنون جميعها

  5. يقول samir obeidallah usa:

    الموت قرار الهي ” انك ميت وهم ميتون” . الموت هو المغير الاعظم ، يذهب بالقديم لبأتي بالجديد . الموت الثابت الوحيد في الوجود وهو اليقين الذي لا يستطيع احد انكاره وهو هزيمة الانسان امام قدرة الله ” لمن الملك اليوم ، لله الواحد القهار ”

    لا ننسى الشيخ نبيل العوضي الذي فقد جنسيته لانها تكلم عن خذلان الحكام لاهل غزه .. ام أن الليبراليون لا يرون تضحيات بني جلدتهم واخوانهم في الوطن .

  6. يقول البية:

    مزيد من اثراء القارئ العربي د/ ابتهال وانا فخور بك ولو انتي لليبرياليه وليبرالي يتكلم بواقع مرير للامة خير من متدين ساكت عن الحق والساكة عن قول الحقيقة شيطان اخرس

  7. يقول f48:

    من لم ينهزم في حيا ته ….. لن يشعر بطعم الانتصار

إشترك في قائمتنا البريدية